شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجومًا صاروخيًا فجر الجمعة 7 أبريل الجاري، استهدف مطار "الشعيرات" العسكري الجوي قرب مدينة حمص السورية، كرد على حادث "خان شيخون" الذى وقع قبل ثلاثة أيام، وأسفر، بحسب منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيماوية والمرصد السورى لحقوق الإنسان، عن سقوط عشرات الضحايا من المدنيين بينهم نسبة كبيرة من الأطفال فى قصف بغازات سامة، وعلى إثره سارعت واشنطن وبعض القوى الدولية إلى اتهام النظام السورى بالضلوع فيه. وتمثل هذه الضربة مؤشرًا لاتجاه واشنطن نحو إعادة صياغة موقفها تجاه الصراع في سوريا، ويبدو أن تداعياتها سوف تفرض على كافة الأطراف المعنية بالصراع إعادة تقييم حساباتها الأمنية والسياسية، وخاصة روسيا وإيران، بما يعنى أن تلك الضربة ربما تكون نقلة نوعية فى مسار ملف الصراع السوري، ليكون الحد الفاصل فيه هو استخدام القوة العسكرية الأمريكية للمرة الأولى في المجال السوري.
اختيار دقيق:
وفقًا لما أعلنته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) عن الضربة، فإنه تم استهداف مطار "الشعيرات" العسكري بـ59 صاروخ "توماهوك" تم توجيهها من مدمرتين أمريكيتين في شرق البحر المتوسط إلى الهدف بدقة. وهذا الهدف تحديدًا كان- وفقًا لتقارير عديدة- ضمن أربعة خيارات قدمها العسكريون الأمريكيون إلى الرئيس دونالد ترامب، شملت توجيه ضربة محدودة للأهداف العسكرية السورية منها ضرب قوات متنوعة ومطارات مختلفة، أو منع الطيران من التحليق فى المجال السورى، أو فرض منطقة حظر جوي.
ومن المتصور أنه تم اختيار هذا الهدف بعناية أيضًا، بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للمطار، والتى تتجلى فى أنه يمثل قاعدة مشتركة بين روسيا وإيران والنظام السوري، كما أنه يعد، حسب الاتهامات الأمريكية، نقطة انطلاق للهجوم بالغازات السامة على منطقة خان شيخون، ويشكل تقريبًا ربع قدرات السلاح الجوي السوري، ويضم أهم المعسكرات في المنطقة الوسطى، والتى تحتوي 3 أسراب مكونة من الطائرات الحربية "ميج" و"سوخوي". ويتكون المطار من مدرجين طول كل منهما 3 كم ونحو 40 حظيرة، كما يتضمن مزود بدفاعات صواريخ "سام 6" والتى تم تدميرها.
فضلا عن ذلك، فإن اختيار التوقيت فجرًا يعنى أن الهدف يقصد منه تدمير أكبر مستوى من البنية العسكرية في المطار في مقابل تقليل الخسائر البشرية، ومن المرجح أن واشنطن اتخذت وضع الاستعداد للضربة فى أعقاب ساعات من الإعلان عن الهجوم الكيماوي مع نشر حاملة الطائرات "جورج واشنطن" بمرافقة غواصات وفرقاطات باتجاه السواحل السورية فى موقع مثالي، حيث أعلن البنتاجون أن الضربة حققت كافة أهدافها بدقة، وهو ما يفسر ما ألمح إليه وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف بأن واشنطن اتخذت القرار في وقت سابق.
وقد كشفت تقارير عديدة عن تفاصيل الخسائر الناجمة عن القصف ومنها شل حركة الطيران في القاعدة تمامًا، وتدمير 9 طائرات عسكرية سورية، بالإضافة إلى تدمير عدد من الرادارات وسقوط 6 قتلى يعملون فى القاعدة، ومن المتوقع زيادة هذا العدد، لكن مع استخدام هذا العدد الكبير من الصواريخ، فإنه من المرجح أن يكون هذا المطار الاستراتيجى في شرق حمص قد أصبح خارج نطاق الخدمة، وربما يمكن ترجيح أن تكون هذه الخطة الأمريكية هى الخطة ذاتها التي كانت معدة فى عام 2013 عقب الهجوم الكيماوي على الغوطتين الشرقية والغربية لريف دمشق، وتراجع عنها الرئيس السابق بارك أوباما بعد طرح مبادرة تفكيك الأسلحة الكيماوية السورية.
تغيير محتمل:
لم تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية سلاحها الجوي، بمعنى أن التقييم العسكرى للعملية يصنفها على أنها "عملية الهدف الواحد والمحدود" ولا تمثل انخراطًا عسكريًا أمريكيًا كاملا فى الصراع السوري، لكنها رغم ذلك ربما تؤدي إلى تغيير التوازنات العسكرية والسياسية. ويبدو أن واشنطن تسعى من خلالها إلى توجيه رسائل عديدة إلى الأطراف المعنية بتطورات الصراع.
وربما يكون أول الأطراف المعنيين هم حلفاء النظام السوري، حيث سعت الولايات المتحدة إلى تأكيد أنها تتجه نحو تغيير استراتيجيتها إزاء الصراع السوري. وفى حين تنتقد روسيا التسرع في اتخاذ القرار الأمريكى، فإن واشنطن ترى أن روسيا تعرقل أية مساعي لاتخاذ قرار دولي ضد النظام السوري من خلال استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، وهو ما يتضح من تصريحات المسئولين الأمريكيين الذين تحدثوا عن أن "هناك هجومًا من جانب النظام واستحق ردًا مناسبًا"، ودعوا روسيا إلى "إعادة التفكير في دعمها المستمر للأسد".
وقد أعلنت روسيا تعليق اتفاقية سلامة الطيران مع الولايات المتحدة فوق سوريا ردًا على الهجوم الأمريكي، لكن سيكون من الصعوبة على موسكو وقف هذا التنسيق على المدى البعيد، خاصة أنه لن يكون بمقدورها الاعتماد على ذلك لفترة طويلة وفقًا لما هو متاح من إمكانيات عسكرية، كما يبدو أن التدخل العسكري الأمريكي لم يدخل ضمن حساباتها، بشكل ربما سيدفعها إلى إعادة النظر في سياستها إزاء التطورات السياسية والأمنية التي يشهدها الصراع السوري مرة أخرى.
فضلا عن ذلك، فإن الضربة العسكرية تكشف عن أن الولايات المتحدة ربما تعتمد مقاربة جديدة حيال الأسد، فبعد أن كانت واشنطن ترى أنه "يوجد واقع سياسي علينا القبول به" في إشارة إلى الأخير، فإن تصريحات المسئولين الأمريكيين التي أدلوا بها مؤخرًا تشير إلى أن النظام لن يكون جزءًا من المستقبل السياسي لسوريا، حيث وصف ترامب رئيس النظام السوري بأنه "ديكتاتور استخدم أسلحة كيماوية مروعة ضد مدنيين أبرياء"، وإن كان من المتوقع أن تبذل أطراف أخرى جهودًا حثيثة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، لأن أى عمل عسكرى واسع من جانب النظام وحلفائه سيواجه برد فعل قوي.
أما بالنسبة للقوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، فمن المتصور أن تتجه تركيا تدريجيًا إلى رفع مستوى التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة على حساب التفاهمات التي توصلت إليها مع روسيا، وهو ما يبدو جليًا في عودتها من جديد إلى طرح الصيغة القديمة التى كانت تجاوزتها في المفاوضات التي جرت في الآستانة، وهى التأكيد على أن لا مستقبل للنظام في الحكم وعلى ضرورة إقامة منطقة حظر جوي، وهو احتمال يمكن أن يلقى تجاوبًا في الفترة القادمة، لا سيما في حالة ما إذا نفذت موسكو تهديداتها فعليًا واستمرت فى قطع الاتصالات العسكرية التنسيقية مع واشنطن.
وفى المحصلة النهائية، ربما يمكن القول إن الانخراط العسكرى الأمريكى فى سوريا لا يبدو محسومًا حتى الآن، لكن من المرجح أن توجه تلك الضربة تحذيرات مباشرة للنظام وحلفائه، خاصة روسيا التى كانت أكثر طرف معني بالضربة إلى جانب إيران وحزب الله، بأنه يمكن تكرارها مرة أخرى فى حالات مماثلة. ومع ذلك، يظل هناك احتمال بأن يتم استيعاب الرسائل السياسية للضربة، من خلال تسريع وتيرة الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية سياسية في سوريا.