يبدو أن ثمة توجهًا جديدًا لبعض وسائل الإعلام في عدد من دول إفريقيا جنوب الصحراء التي تعتمد لغات أجنبية في مخاطبة جمهورها، نحو مزيد من "تعريب" المحتوى الإعلامي المقدم، وهو اتجاه يمكن رصده في وسائل الإعلام الحكومية والرسمية بشكل كبير بالمقارنة مع وسائل الإعلام الخاص. وتتفاوت نسبة حضور اللغة العربية في وسائل إعلام هذه الدول وفق اتجاه التعريب بشكل كبير، اعتمادًا على موارد وسائل الإعلام، وكوادرها، فضلا عن ثقل الأقليات المسلمة أو ذات الأصول العربية في هذه الدول ومدى تأثيرها وفعاليتها وقدرتها على ممارسة دور بارز في مجتمعات تلك الدول، من خلال مؤسسات أهلية تهدف إلى الحفاظ علي اللغة العربية وتعليمها.
مظاهر متعددة:
هذا الاتجاه، الذي بدأ يتصاعد خلال الفترة الأخيرة بالتوازي مع اهتمام تلك الدول برفع مستوى علاقاتها مع الدول العربية، بات يكتسب أهمية وزخمًا خاصًا في ضوء مؤشرات عديدة تتمثل في:
1- اعتماد اللغة العربية كلغة رئيسية في وسائل الإعلام على اختلافها في الدول التي يتزايد فيها استخدام هذه اللغة على المستوى الاجتماعي، حيث ساهم ذلك في بث برامج تلفزيونية وإذاعية ونشر صحف مطبوعة وإنشاء مواقع إلكترونية ناطقة باللغة العربية.
وتبرز في هذا الإطار تجربة جيبوتي، التي عملت على زيادة مساحة البث المرئي لبرامج باللغة العربية بشكل يومي، من خلال إعادة هيكلة برامج التلفزيون الحكومي، فبدلا من يوم واحد، شغلت البرامج الثقافية العربية ساعات معتمدة ليومين في الأسبوع، والبرامج الدينية ساعات معتمدة لثلاثة أيام أسبوعيًا، فيما طورت الإذاعة الرسمية بثها العربي ليصل إلى ثلاث ساعات يوميًا تحتوي على برامج مختلفة إخبارية وعامة وترفيهية. كما تقوم وزارة الإعلام منذ عام 1997 بإصدار صحيفة "القرن" لمرتين أسبوعيًا، وتشير تقارير عديدة إلى أن إصدار تلك الصحيفة كان بمبادرة من الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيلي حينما كان رئيسًا لديوان الرئاسة في تلك الفترة.
ويبدو أن هذا التطور في تعريب وسائل الإعلام في جيبوتي يعود، في قسم منه، إلى إنشاء لجنة وطنية للإعلام لتنظيم الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي، والتي تسعى إلى تحقيق أهداف عديدة من بينها إعادة اللغة العربية لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة، وفي مقدمتها وكالة الأنباء الرسمية التي تبث الأخبار باللغة الفرنسية فقط حتى الآن.
2- تخصيص ساعات من البث باللغة العربية في وسائل إعلام بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء، فعلى سبيل المثال عملت إريتريا على اعتماد اللغة العربية لساعات محددة في إذاعة "صوت الجماهير"، إلى جانب التلفزيون الرسمي. كما اتجهت نيجيريا إلى بث فقرات ونشرات إخبارية باللغة العربية، فضلا عن وجود العديد من الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة باللغة العربية، للتعريف بالدولة ومتابعة أخبارها. وفي هذا السياق تبرز تجربة إذاعة "صوت نيجيريا" التي تبث لعدة ساعات يوميًا باللغة العربية، وكذلك تجربة إذاعة "فيزيون إف إم"، التي تبث من العاصمة أبوجا، والتي قدمت تغطية خبرية لبعض الوقت باللغة العربية للانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2015.
وقد ساعد وجود جالية إسلامية في نيجيريا، إلى حد ما، في إنشاء مواقع إلكترونية عربية تهتم بشئون الدين الإسلامي وتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية. ورغم وجود بعض العقبات، إلا أن ثمة اتجاهًا بين أوساط المسلمين في نيجيريا نحو إنشاء كيانات أهلية تسعى إلى التمسك باللغة العربية من خلال تعليمها للناشئين وغالبًا ما يصدر عنها مطبوعات باللغة العربية تهدف إلى التعريف بنشاطها وما اتخذته من خطوات، لكن هذه الجهود تواجه صعوبات عديدة تتمثل في نقص الموارد وضعف التمويل بشكل لا يسمح بالتوسع في النشاط الإعلامي والوصول لمساحات من الصحف والقنوات الفضائية.
وتكشف تقارير عديدة أن مساحة تواجد اللغة العربية في إثيوبيا تتجه إلى التزايد، على الرغم من أن وجودها يقتصر علي وسائل الإعلام المطبوعة والمسموعة، ولا يوجد تواجد يذكر في القنوات التلفزيونية، إذ اتجهت الإذاعة الإثيوبية إلى تخصيص ساعة يوميًا من إرسالها للبث باللغة العربية، تتضمن فقرات عديدة إخبارية وترفيهية، حيث تقدم الإذاعة نشرة إخبارية تهتم بالتطورات المحلية والإقليمية، كما تتضمن بعض البرامج والأغاني العربية.
أما في مالي، فتستخدم اللغة العربية في بعض برامج الإذاعة إلي جانب اللغات الأجنبية الأخرى المتداولة في البلاد، والتي يخصص لها أيضًا ساعات محددة من البث، حيث يتم بث برامج باللغة العربية في الإذاعة الرسمية المالية مرة واحدة أسبوعيًا، تتناول برامج ترفيهية وخبرية وتعليمية.
3- الاعتماد علي الصحافة كأحد وسائل الاهتمام بالتعريب: تنشط الصحافة الصادرة باللغة العربية في العديد من الدول الإفريقية كوسيلة للاهتمام بهذه اللغة، على الرغم من غياب وندرة تواجد هذه اللغة في وسائل الإعلام المرئية، فعلى سبيل المثال؛ لا يتضمن التلفزيون الرسمي في إثيوبيا وكذلك القنوات الخاصة أى محتوى مرئي عربي، في الوقت الذي يوجد فيه عدد من الصحف الإثيوبية الدورية الصادرة باللغة العربية، على غرار صحيفة "العلم" الحكومية الصادرة عن وزارة الإعلام الإثيوبية، التي يعود تأسيسها إلى خمسينيات القرن الماضي، بل إن بعض التقارير تشير إلى أن عددًا من الصحف المحلية تنشر صفحات باللغة العربية، إلى جانب وجود بعض المجلات مثل مجلة "بلال" الإسلامية التي تصدر شهريًا باللغتين العربية والأمهرية.
فضلا عن ذلك، وعلى الرغم من ندرة المحتوى العربي المرئي والمسموع في إريتريا، إلا أنه توجد صحيفة حكومية تحمل اسم "إريتريا الحديثة" التي تصدر باللغتين العربية والإنجليزية لخمس أيام أسبوعيًا، عن وزارة الإعلام الإريترية، بالإضافة إلى صحف عربية أخرى مستقلة مثل صحيفة "المستقبل" وصحيفة "النبض" الصادرة عن "الاتحاد الوطني للشبيبة والطلبة الإريتريين".
4- الاندماج في الأوساط الصحفية العربية: بدأ العديد من الصحفيين الأفارقة في التقدم لجوائز الصحافة العربية، والمشاركة في مؤتمراتها المختلفة، كما نشط عدد كبير منهم في مجال إطلاق مواقع إلكترونية وحسابات علي مواقع التواصل الاجتماعي ناطقة بالعربية للتعريف بأخبار القارة الإفريقية، مثل موقع "أفريكا عربي" الذي عمل علي تدشينه صحفيون أفارقة، فيما جاء فوز الصحفي الصومالي عابي فارح بعضوية الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، خلال شهر مايو 2016، ليشير إلى الاتجاه نحو دعم الإعلام الإفريقي المهتم باللغة العربية.
وفي النهاية، ربما يمكن القول إن الاتجاه نحو تعريب وسائل الإعلام في بعض دول إفريقيا جنوب الصحراء يبدو أنه سوف يتصاعد خلال المرحلة القادمة، في ظل تزايد اهتمام العديد من الدول العربية برفع مستوى علاقاتها مع تلك الدول، على المستويات المختلفة، واتساع نطاق انخراط بعض تلك الدول في التفاعلات الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.