يبدو أن غياب رئيس الجمهورية الأسبق رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام أكبر هاشمي رفسنجاني عن المشهد السياسي بوفاته في 8 يناير 2017، سوف يضيف مشكلة أخرى لتيار المعتدلين الذي كان يقوده والذي يسعى خلال الفترة الحالية للحفاظ على موقعه داخل مؤسسات صنع القرار في نظام الجمهورية الإسلامية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي سوف تُجرى في 19 مايو 2017، وذلك بسبب الثقل السياسي الكبير الذي كان يحظى به رفسنجاني داخل النظام، رغم كل الضغوط التي تعرض لها من جانب تيار المحافظين الأصوليين والمؤسسات النافذة داخل الدولة، وعلى رأسها الحرس الثوري، إلى جانب المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي الذي لم تمنعه العلاقات القوية مع رفسنجاني من توجيه انتقادات شديدة وجارحة له في بعض الأحيان.
لكن اللافت هنا هو أن ذلك ربما لا يضيف كثيرًا إلى رصيد النظام أيضًا. وبعبارة أخرى، فإن الخسارة هنا قد لا تنحصر في تيار المعتدلين فحسب، بل ربما تمتد بشكل عام إلى مجمل مؤسسات النظام، باعتبار أن رفسنجاني، رغم تعدد خصومه، كان بمثابة "رمانة الميزان" التي استعان بها النظام، على مدار تاريخه، في ضبط توازنات القوى السياسية في الداخل، ورسم اتجاهات السياسة الإيرانية في الخارج.
نفوذ مستمر:
ومن هنا يمكن تفسير أسباب حرص القيادة العليا في النظام -ممثلة في المرشد خامنئي- على الاحتفاظ بموقع لرفسنجاني داخل النظام، رغم الخلافات المتعددة التي نشبت بينهما، والتي كان لها دور في صعود وهبوط نفوذ الأخير خلال المرحلة السابقة. فقد تعرّض رفسنجاني لخسارة كبيرة في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2005 بعد أن فاز عليه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وهو شخصية سياسية لم تكن بارزة في تلك الفترة، كما مُنع من إمامة صلاة الجمعة في عام 2009 بعد تأييده لبعض مطالب حركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في العام ذاته، وتعرض بعض أبنائه لملاحقات قضائية عديدة باتهامات مختلفة.
ومع ذلك، لم يخرج رفسنجاني قط من النظام، بل حافظ دائمًا على دور متميز داخل دوائر صنع القرار فيه، إلى درجة دفعت اتجاهات عديدة إلى تأكيد أنه شخصية يصعب على النظام الإيراني الاستغناء عنها رغم كل المشكلات التي سببها النظام له والتي فرضت ضغوطًا لا تبدو هينة عليه.
تداعيات عديدة:
ربما يمكن القول إن غياب رفسنجاني سوف يفرض تداعيات عديدة، سواء داخل النظام السياسي أو داخل خريطة القوى السياسية. فعلى مستوى النظام، فإن غياب رفسنجاني سوف يدفع الأول إلى إعادة ترتيب توازنات القوى داخله، وهو ما ستتضح معالمه مع اتجاه المرشد الأعلى للجمهورية إلى تعيين شخصية أخرى في منصب رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي حافظ رفسنجاني على رئاسته منذ تأسيسه في عام 1988، وهو مؤسسة نافذة داخل النظام، إذ إنها تتولى الفصل في الخلافات القائمة بين مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجلس صيانة الدستور، كما أنه يشارك في عملية صنع الاتجاهات العامة لسياسة الدولة.
ومن هنا، فإن رئيس المجلس يحظى بموقع خاص داخل النظام. وفي ضوء ذلك، فإن الخيار الذي سوف يتبناه المرشد خامنئي لملء الفراغ الناتج عن غياب رفسنجاني في مجلس التشخيص سوف يحدد -بدرجة ما- رؤية المرشد للاتجاهات العامة للسياسة الإيرانية خلال المرحلة المقبلة.
وقد بدأت "بورصة الترشيحات" في الظهور وتضمنت شخصيات مثل علي أكبر ناطق نوري رئيس البرلمان الأسبق، وعلى ولايتي مستشار المرشد للعلاقات الدولية، ومحسن رضائي أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام.
أما على مستوى توازنات القوى، فمن دون شك، فإن تيار المعتدلين الذي يضم أقطابًا ورموزًا من الإصلاحيين والمحافظين التقليديين، هو أكثر الأطراف التي سوف تتأثر سلبيًّا بغياب رفسنجاني، حيث كان للأخير دور في إعادة بناء التحالف السياسي الذي جمع بين التيارين خلال المرحلة الماضية، وذلك لمواجهة سعي تيار المحافظين الأصوليين إلى تكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار.
وقد برز هذا الدور بشكل واضح في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة التي أُجريت في فبراير وأبريل 2016، حيث حقق تيار المعتدلين نتائج بارزة، انعكست في حصول رفسنجاني على المركز الأول بالعاصمة طهران في انتخابات الخبراء، وحصول قائمة "الأمل" الإصلاحية على مقاعد العاصمة في انتخابات البرلمان. ومن هنا، فإن افتقاد تيار المعتدلين لهذا الدور خلال المرحلة المقبلة، ربما يكون كفيلا بإعادة صياغة التحالفات داخله، بشكل يمكن أن يساهم في إضعافه وتراجع نفوذه.
ضغوط على روحاني:
كما يبدو أن الرئيس حسن روحاني سوف يكون أحد الأطراف التي ستتأثر سلبيًّا بغياب رفسنجاني. فالأخير مارس دورًا بارزًا في نجاح روحاني في الفوز بالانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو 2013 عندما مارس ضغوطًا على الإصلاحيين من أجل سحب مرشحهم (محمد رضا عارف) وتأييد روحاني، وأقنع المحافظين التقليديين بضرورة دعم فرص الأخير في الفوز.
وبالطبع، فإن روحاني كان في أشد الحاجة إلى استمرار هذا الدعم خلال الانتخابات الرئاسية القادمة التي سوف تُجرى في مايو 2017، ليس فقط لمواجهة تيار المحافظين الأصوليين الذي نجح في استثمار العقبات التي ما زالت تعرقل جهود الحكومة للحصول على عوائد الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في يوليو 2015، من أجل فرض ضغوط قوية عليه، وإنما أيضًا للحفاظ على دعم تيار المعتدلين، في ظل الاستياء المتصاعد داخل هذا التيار تجاه السياسة التي تبناها روحاني خلال فترته الرئاسية الأولى، والتي منح فيها الأولوية للاتفاق النووي دون الملفات الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من جانب هذا التيار، على غرار ملف رفع الإقامة الجبرية عن مير حسين موسوي ومهدي كروبي وغيرهما.
مأزق محتمل:
لكن غياب رفسنجاني ربما يفرض تداعيات سلبية على النظام السياسي بشكل عام، في ظل تزايد احتمالات تعرض إيران لضغوط خارجية خلال المرحلة المقبلة، سواء بسبب المسارات المحتملة للصراع في سوريا، والتي تبدي إيران تخوفات عديدة إزاءها خاصة فيما يتعلق بالتفاهمات الثنائية بين تركيا وروسيا، أو بسبب السياسة الجديدة التي سوف تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، والتي بدأت مؤشراتها في الظهور من خلال تمديد العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتعمد سفينة حربية تابعة للبحرية الأمريكية، في 9 يناير 2017، إطلاق طلقات تحذيرية على 4 سفن تابعة للحرس الثوري الإيراني بعد اقترابها بسرعة كبيرة في مضيق هرمز، بشكل يوحي بأن ترامب جاد في تنفيذ تهديداته بوقف الاستفزازات الإيرانية في مياه الخليج.
وفي ضوء ذلك، فإن النظام الإيراني يبدو في حاجة شديدة إلى استمرار النهج الذي تبناه رفسنجاني الذي كانت تتم الاستعانة به، في بعض الأحيان، لتسوية بعض المشكلات أو الأزمات الخارجية، في ظل الثقل السياسي الذي كان يحظى به والذي تخطى حدود إيران، إلى جانب ما هو معروف عنه من براجماتية شديدة ساهمت في وصول إيران إلى تفاهمات مع بعض خصومها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، خلال العقد الأول للنظام في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدًا خلال الفترة التي تعرضت فيها لضغوط دولية شديدة، بسبب تبنيها لسياسة راديكالية تجاه الخارج، انعكست في محاولتها تصدير ثورتها إلى الخارج.
ومن هنا ربما يمكن القول إن التأثيرات المحتملة لغياب رفسنجاني عن المشهد السياسي الإيراني سوف تتجاوز -بدرجة بعيدة- حدود الصراع القائم والمستمر بين التيارات السياسية المختلفة، وستمتد إلى الاتجاهات العامة للسياسة الخارجية الإيرانية خلال المرحلة القادمة، التي تبدو فيها إيران مقبلة على اختبارات صعبة.