دخل المناخ العام بين تركيا وقطاع معتبر من محيطها الإقليمي والدولي مرحلة الشحن بعد رفضها المشاركة علانية في محاربة ""داعش""، وربطها التعاون بإسقاط نظام الأسد وبناء مناطق عازلة على حدودها السورية.
وربما تكون الصورة الذهنية لنموذج الإسلام السياسي الذي زواج بين الإسلام والديمقراطية في تركيا على المحك الآن، وذلك بعد أن ثارت العديد من الشكوك حول وجود دعم تركي لتنظيم "داعش" بليل أو من وراء ستار، ولذلك طلب الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، الشقيق الأصغر للحزب المسيحي الديموقراطي الحاكم في ألمانيا، بوقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي نهائياً؛ حيث قال الأمين العام للحزب أندرياس شوير: "تركيا أردوغان ليس مرغوباً فيها في أوروبا".
وبحسب وصف نائبة رئيس البرلمان الألماني كلاوديا روت، فإن "إصرار العدالة والتنمية على تسهيل مهمات "داعش القذرة"، وعدم رغبة أنقرة في الانضمام إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تشكل في جدة في سبتمبر 2014، يفتح الباب واسعاً حول أبعاد العلاقة بين "داعش" وتركيا من جهة، وبين تركيا والجماعات الراديكالية في المنطقة عموماً".
لقد عملت تركيا طوال الأعوام الماضية على دعم وتدريب عدد كبير من المجموعات الجهادية في سوريا والعراق، فضلا عن مد العون للتيارات الإسلامية التي وصلت إلى سدة السلطة عقب الثورات العربية، ثم استقبلت قادتها في أراضيها بعد موجات التصحيح التي أطاحت بها من السلطة.
فوارق عديدة لا تلغي أوجه التشابه
على الرغم من أن مسافة كبيرة تفصل بين العدالة والتنمية في تركيا وبين تنظيم "داعش"، فإن ثمة أوجه للتشابه بينهما، لاسيما على صعيد أعمال القمع، ففي الوقت الذي استأصلت فيه "داعش" خصومها ومناهضيها، تمضي تركيا أردوغان قدماً نحو الحكم السلطوي بنسخته الإسلامية الراديكالية عبر ممارسة القمع والإقصاء بحق المعارضين والخصوم والحلفاء السابقين وكل من يشكل خطراً حقيقياً على رئاسة أردوغان وعلى مشروعه.
وإذا كان قمع "داعش" لم يعد يقتصر على المدنيين وغير المسلمين وحسب، بل صار يطارد جماعات العنف التي انفرطت حباتها عن مسبحته مثل جبهة النصرة وغيرها، فإن عنف العدالة والتنمية بات يطارد - إلى جوار العلمانيين - حركة "خدمة" الإسلامية التي وقفت إلى جواره في صراعاته ومواجهاته مع الجيش والتيارات المدنية حتى ثبت أقدامه وغرس مخالبه في جسد المجتمع ومؤسسات الدولة.
أضف إلى ذلك أن العدالة والتنمية و"داعش" كلاهما يمثل تطوراً طبيعياً لبعض الأفكار الإسلامية، منها مبدأ الولاء والبراء الذي يرتكز على تفسير محدد قوامه أن من قدم ولاءه للحزب أو التنظيم مشفوعاً بالطاعة، فهو من الفرقة الناجية، ومن اختلط ولاؤه - وحتى وإن كان مسلماً - لغير الحزب أو التنظيم فقد وقع في المحظور. أيضاً يأخذ العدالة والتنمية على عاتقه مثل "داعش" ما يسميه مهمة بناء الدولة المؤمنة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية.
خلف ما سبق، فإن أردوغان يؤمن مثله مثل أبو بكر البغدادي بأن دولة الخلافة الإسلامية لابد أن تسود الكرة الأرضية؛ لذلك تم إدراج اللغة العثمانية في المناهج الدراسية التركية. وإذا كانت هذه اللغة لا علاقة لها بتعزيز الهوية القومية الإثنية أو الهوية الوطنية، فإنها تتعلق فيما يبدو بهوية عثمانية إمبراطورية يرغب أردوغان في بعثها من جديد.
ومثلما يتهم الإسلاميون المعتدلون البغدادي بتشويه الصورة الذهنية للمسلمين ويشككون في دعوته للخلافة، تتهم المعارضة التركية أردوغان بأنه يسعى لتحطيم جمهورية أتاتورك وإعادة "الخلافة" بوجه آخر، وحيث إن البغدادي يخلع عليه أتباعه "خليفة المسلمين"، فإن الاسم الأكثر تداولا بين المعارضين لأردوغان "السلطان رجب".
ومع كثير من الفوارق، فإن الرفض الراديكالي للحداثة يعتبر عنواناً مشتركاً بين تركيا أردوغان و"داعش"، فالثاني يري في النساء جواري خلقن للاستبضاع والمتاجرة ولا مانع من اغتصابهن، بينما يعتقد الأول أن المساواة بين الجنسين تتعارض مع الطبيعة. وفي هذا الصدد قال أردوغان في تصريحات له خلال اجتماع لجمعية المرأة والديمقراطية في تركيا في أواخر نوفمبر الماضي، إن "طبيعة المرأة الحساسة تعني أنه من المستحيل وضعها على قدم المساواة مع الرجل, وإنه لا يمكن جعل المرأة تعمل في كل وظيفة يقوم بها الرجل كما فعلوا في الأنظمة الشيوعية في الماضي". وبينما أصدر تنظيم "داعش" فتوى جديدة تقضي بختان كل النساء في العراق خصوصاً نساء الموصل ومحيطها، دعا أردوغان النساء إلى الإنجاب بكثرة، واعتبر تحديد النسل بمثابة "خيانة بحق الأمة".
تركيا وورقة "داعش" الضاغطة
مثل دعم "داعش" وأخواتها ورقة سياسية رابحة لأنقرة من عدة أوجه، أولها: أن "داعش" تبقى ورقة ضاغطة لمصلحة تركيا على مسار تطورات الوضع في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا والعراق حيث الحضور المكثف لـ "داعش" الذي يحكم سيطرته على قطاع معتبر من شمال العراق وتمدده وسيطرته على أكثر من ثلث الجغرافيا السورية.
في المقابل فإن نجاحات "داعش" في عين العرب "كوباني" يعني كبح جماح طموح أكراد تركيا الذي اكتسب زخماً كبيراً بعد حصول أقرانهم حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" السوري على حكم ذاتي في ثلاث مقاطعات: الجزيرة شمال شرقي سوريا، وعفرين في شمالها، وعين العرب "كوباني" شمالاً قرب حدود تركيا؛ حيث تجرى مواجهات مع "داعش".
وكانت العلاقة بين حكومة العدالة والتنمية والأكراد قد دخلت مرحلة الشحن ووصلت إلى الذروة عقب التظاهرات الكردية رداً على تواطؤ أنقرة مع "داعش" والتلكؤ في تقديم دعم لوجستي وعسكري لأكراد كوباني، إذ رفض الرئيس التركي رجب أردوغان رغم اشتداد المعارك في عين العرب تسليح قوات "حماية الشعب" التابعة لحزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي"، باعتباره امتداد لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية في تركيا، ناهيك عن اتهام أنقرة للاتحاد الديموقراطي بالتواطؤ مع نظام الأسد.
أنقرة و"داعش".. تجارة مربحة
لقد استثمرت تركيا سياسياً، حتى وإن كانت مضطرة لذلك، في تلك الأجواء الملتهبة بين "داعش" وكافة الأطراف الإقليمية، وهي تفعل ذلك لتقييد مكاسب الأكراد من جانب، ولاستمرار الضغط على نظام الأسد من جانب آخر، لكن إلى جانب هذا الاستثمار السياسي، فإن تركيا تجني عوائد تجارية، حيث استفادت من النفط الذي يتم تهريبه عبر أراضيها من الحقول التي يسيطر عليها ""داعش"" في سوريا والعراق، فوفقاً لتقرير المركز العالمي للدراسات التنموية البريطاني، فإن عدد الحقول النفطية التي تقع ضمن ولاية "داعش" في سوريا والعراق تصل إلى 22 حقلاً.
وبحسب المعلومات المتداولة، فإن "داعش" ينتج نحو 20 ألف برميل يومياً من النفط الخام المستخرج من الآبار السورية والعراقية، ويبيع عبر تركيا البرميل الواحد بقيمة 18 دولاراً مقارنة بأسعار النفط الخام العالمية التي كانت تتجاوز حتى وقت قريب 100 دولار للبرميل الواحد.
وتحقق تركيا باعتبارها الدولة الوسيط مكاسب جمة بالنظر إلى ما تمتلكه من ناقلات وخزانات كافية لاستيعاب النفط المهرب، فضلا عن اتفاق من وراء ستار تقدم أنقرة بموجبه تسهيلات حول استلام النفط عبر الأسواق السوداء من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق، وهذه التجارة السرية تحقق عائداً يبلغ 2 مليون دولار يومياً للتنظيم مقابل ملايين الدولارات لتركيا.
والأرجح أن جزءاً معتبراً من قطاع المال والأعمال التركي قد انخرط في عمليات خاصة بتمويل تنظيمات متطرفة في سوريا، وهو دور تقوم به أيضاً عدد من الجمعيات التركية وجماعات المصالح التي استفادت من التجارة غير المشروعة مع "داعش".
وفي المقابل تحولت تركيا إلى ممر ومقر للجهاديين من دول العالم، فهي فتحت حدودها لآلاف المقاتلين الأجانب للعبور إلى سوريا من أجل إسقاط النظام السوري. كما أصبحت مدن الشريط الحدودي لتركيا مع سوريا والعراق حواضن شعبية للكثير من مقاتلي التنظيمات الجهادية، سواء كانوا أتراكاً أو أجانب. وعلى جانب آخر باتت قطاعات عريضة من الشعب التركي ترفض الحملة الدولية على "داعش"، انطلاقا من اعتبارات عقائدية تتعلق بانتشار التوجهات المحافظة والسلفية في المجتمع التركي.
وفقاً لذلك، فقد تحول تهريب المقاتلين إلى مناطق نفوذ "داعش" عبر الحدود التركية إلى تجارة مدرة للربح، تديرها شبكات احترافية في تركيا ويعضدها أصحاب نفوذ وسلطة في تركيا. فقد كشفت تقارير استخباراتية عن أن تنظيم "داعش" لديه مكاتب إدارية في بعض المدن التركية، وأنه يمتلك مكتب في حى الفاتح بمدينة إسطنبول، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم بعيداً عن أعين الحكومة والأجهزة الأمنية، إن صحت مثل هذه التقارير.
وقد أفضى ذلك إلى تزايد المقاتلين الأتراك في الصراع بسوريا ومناطق التوتر في العراق، فثمة تقديرات متباينة لعدد المقاتلين الأتراك في صفوف "داعش" والنصرة، ففي الوقت الذي اعترف فيه وزير الخارجية التركي مولود شاوش للمرة الأولي بوجود 700 تركي يقاتلون في صفوف "داعش"، هناك مصادر أخرى تقول إن الرقم يصل إلى نحو 3000 آلاف تركي.
وفي الإطار نفسه، كشفت دراسة أعدها مركز القرن الـ21 للدراسات في تركيا عن أن عدد الأتراك الذين انضموا للقتال في سورية مع "داعش" و"النصرة" وغيرهما، يبلغ أكثر من ثلاثة آلاف تركي، وأضافت الدراسة أن عائلات تركية بأكملها هاجرت للقتال مع "داعش" واستوطنت في الرقة. وكشف استطلاع للرأي أجري نهاية ديسمبر الماضي عن تعاطف نحو 13% من الأتراك مع تنظيم "داعش".
القصد أن تركيا إلى جوار المكاسب السياسية التي أنجزتها من وراء "داعش"، فإن ثمة مكاسب تجارية تبقى هي الجانب الأبرز في احتمال وجود علاقات بين الطرفين، فإضافة إلى العوائد النفطية، حصلت جماعات المصالح وجهات نافذة في أنقرة على أرباح طائلة من وراء تمرير المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق.