أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

اعتزال المجتمعات:

هل تنتشر "الجماعات التكفيرية المنعزلة" بعد تراجع داعش؟

03 نوفمبر، 2016


بقدر ما كان يشكل بزوغ تنظيم الدول الإسلامية "داعش" تحولا أكثر راديكالية في بنية المنظومة الإرهابية الراهنة، فإن تراجع التنظيم وتعرضه للانزواء سواء في ليبيا أو سوريا والعراق قد ينطوي على انعكاسات جوهرية على طبيعة ومستقبل الظاهرة الإرهابية. وسيرتبط استكشاف ذلك المستقبل بالنموذج الذي قدمه تنظيم داعش، إذ سعى لمأسسة دولته الخاصة ليراوح بذلك المقومات التقليدية التي قام عليها تنظيم القاعدة، الذي ظل لعقود يتجنب مسار تحول التنظيم إلى دولة. 

هذا الامتزاج بين الفكرة والواقع في دولة الخلافة المزعومة التي أعلن عنها تنظيم داعش في يونيو 2014 أكسبته شرعية مركزية في المنظومة الإرهابية العالمية عززت من فرصه في استقطاب عناصر جديدة وجدت في الدولة المنشودة فرصة لاستدعاء الماضي إلى الحاضر، والخروج من أسر التاريخ لتعيش في الدولة المثالية التي ظلت لسنوات تتوق للعيش فيها، ناهيك عما قدمته هذه الدولة من مخرج للمتطرفين لمعالجة حالة الاغتراب التي يعانون منها. 

بيد أن استمرارية هذه الدولة باتت مثار الكثير من الشكوك، وذلك على خلفية الضغوط العسكرية الراهنة التي يتعرض لها داعش، لا سيما في مدينة الموصل ذات الأهمية الاستراتيجية للتنظيم، إذ إن فقدانها سيعني أننا إزاء واقع جديد، فالتنظيم سيخسر دولته، وبالتزامن مع ذلك قد تتنامى معدلات الإحباط داخل صفوف المجموعات الإرهابية، بصورة قد تدفعها إلى تبني نمط تكفيري أكثر انعزالا.

 فالفرضية المستقبلية المطروحة في هذا السياق، أن تراجع تجربة تنظيم داعش، سيفضي إلى تزايد الجماعات التكفيرية المنعزلة عن المجتمعات القائمة، ليصبح مسار التكفير والانعزال أحد الأنماط الإرهابية في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية.

العزلة في المخيال الراديكالي:

تكشف الإحالة إلى كتابات منظري الحركات الدينية المتطرفة عن المساحة الهائلة التي تحتلها فكرة العزلة في المخيال الراديكالي، فقد تعاطت الكثير من تلك الكتابات مع فكرة "العزلة" أو "الهجرة والابتعاد عن المجتمع" كشرط أولي للانتماء التنظيمي، وتكوين العصبة المؤمنة، بحسب تعبير سيد قطب، فتكوين تلك العصبة أمر ضروري ولازم لمواجهة الجاهلية القائمة في المجتمعات والمتمثلة، وفقًا لرؤية قطب الواردة بكتابه "في ظلال القرآن"، في "تجمع حركي أو مجتمع عضوي متكامل متناسق يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده". وهذا التجمع لكي يتم "مقاومته وتغييره يتعين إقامة مجتمع آخر له ذات الخصائص ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى، وهو العصبة المؤمنة".

ويعزز قطب فكرة العزلة في كتابه "معالم في الطريق" باستدعاء مصطلحات من قبيل (الاستعلاء والمفاصلة) مع المجتمعات الجاهلية القائمة، إذ ينبغي على العصبة المؤمنة أن تنفصل وتنعزل عن هذه المجتمعات حفاظًا على نقائها، لا سيما خلال فترة الحصانة والتكوين، وهنا يقول قطب: "لا بد إذن في منهج الحركة الإسلامية أن نتجرد -في فترة الحصانة والتكوين- من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها.. لا بد وأن نرجع إلى النبع الخالص.. لا بد إذن من القطيعة مع الجاهلية والاستعلاء عليها ثم تغييرها". 

وبمرور الوقت، كانت فكرة العزلة والانتقال إلى المناطق النائية البعيدة عن سلطة الدولة تكتسب زخمًا متزايدًا، وخاصةً مع تأسيس جماعة التكفير والهجرة في مصر على يد شكري مصطفى خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، واستندت الجماعة إلى منظومة فكرية تقوم على تكفير المجتمعات القائمة، وإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الاعتزال والهجرة. ووفقًا لهذه المعطيات الفكرية تمر الجماعة بمرحلتين؛ أولاهما مرحلة الاستضعاف التي تتم فيها الهجرة إلى الكهوف والجبال والصحراء، ثم بعد ذلك تبدأ المرحلة الثانية "مرحلة التمكين" حيث الصدام مع دار الكفر.

وشكلت هذه المدخلات الفكرية والتاريخية خلفية متماسكة تستند إليها التنظيمات الإرهابية، سواء في الوقت الحاضر أو حتى في المستقبل، للجوء إلى العزلة والاستقرار في المناطق النائية مع ما تتسم به من تضاريس وعرة وصحاري ممتدة، فتنظيم القاعدة يتبنى هذا المسار إلى أبعد حد ممكن، وخاصة بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001، ناهيك عما تنطوي عليه مناهج التربية الخاصة بالتنظيم من التأكيد على أهمية العزلة.

 ففي كتيب "دورة في فن التجنيد"، يشير أبو عمرو القاعدي إلى أن عزل عناصر التنظيم تمر بمرحلتين، تبدأ بالعزلة الوجدانية من خلال توفير المواد الإعلامية والتربوية الخاصة بالتنظيم عن طريق شبكة الإنترنت لتمنح عناصر التنظيم حصانة فكرية من التأثيرات المجتمعية المحيطة بهم، وتكتمل هذه العزلة الوجدانية بالعزلة المادية والخروج من المجتمعات، فالهدف الأساسي هنا "عزل الفرد عن البيئة السيئة التي يعيش فيها، ووضعه في بيئة جيدة تهدف إلى تحسين إيمانه". 

لقد تكفلت الآليات التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية هي الأخرى بالتأكيد على فكرة العزلة التنظيمية حتى ولو كان الأمر بصورة غير مباشرة، فالعنف -على سبيل المثال- بات عنفًا وظيفيًّا يخدم المنظومة الكامنة للعزلة الراديكالية، وهو ما ينطبق أيضًا على حالة داعش نظرًا لأنه أصبح أداة للفرز، وفي هذا الإطار، يشير أبو بكر ناجي في كتاب "إدارة التوحش" إلى أن "جر الشعوب إلى المعركة يتطلب مزيدًا من الأعمال التي تشعل المواجهة، والتي تجعل الناس تدخل المعركة شاءت أم أبت، بحيث يئوب كل فرد إلى الجانب الذي يستحق، وعلينا أن نجعل هذه المعركة شديدة بحيث يكون الموت أقرب شيء إلى النفوس".

ما بعد داعش:

"أم تحسبين أمريكا أن الهزيمة فقدان مدينة أو خسارة أرض، وهل انهزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة ولا أرض؟ وهل سنهزم وتنتصرين إذا أخذت الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعدنا كما كنا أول حال؟ كلا إن الهزيمة فقدان الإرادة والرغبة في القتال".

كانت هذه الكلمات للمتحدث السابق لتنظيم داعش قبل مقتله أبو محمد العدناني في تسجيل صوتي له في شهر مايو 2016 تحت عنوان "ويحيا من حي عن بينة"، واعتبر حينها أنه يعد عناصر التنظيم لاحتمالات الهزيمة، وفقدان الأراضي التي يسيطرون عليها. وبدا خلال هذا التسجيل أن فكرة العزلة والانتقال إلى الصحراء والمناطق الخارجة عن سيطرة الدولة أحد السيناريوهات المطروحة أمام عناصر التنظيم. 

التأسيس على كلمات العدناني، والخلفية التاريخية لفكرة العزلة الراديكالية ربما يوحي بأن مرحلة ما بعد داعش ستشهد تصاعدًا في نمط الجماعات التكفيرية المنعزلة، محكومة في ذلك بطبيعة مدركاتها الذاتية، علاوةً على معطيات الواقع والإحباطات الناتجة عن إخفاق نموذج الدولة الإسلامية. 

وبوجه عام فإن ظاهرة الجماعات التكفيرية المنعزلة في المستقبل ترتهن بالمداخل التفسيرية الآتية:

1- المجتمع المتماثل: فالفرضية التي تأسست عليها حركات الموجة الإرهابية الخامسة، وفقًا لأطروحة جيفري كابلن Jeffrey Kaplan، الانسحاب المادي والعزلة في مناطق برية نائية، وهذه العزلة ترتبط برؤية ثنائية للعالم، حيث يُنظر إلى العالم القائم على أنه عالم "دنس" و"قبيح" يستلزم عملية تطهير. وفي خضم المواجهة مع هذا "العالم الدنس" المسئول عن وأد تجربة الدولة الإسلامية، تكتسب عملية خلق مجتمع جديد منعزل أكثر نقاء أهميتها، وتعتمد عملية الخلق -لهذا المجتمع المتماثل- على تواجد الأطفال والنساء داخل ذلك المجتمع النقي، فالأطفال يُعدون في هذا الإطار المنتج الأهم لتلك الدولة، خاصة أن نشأتهم ستكون منعزلة عن المؤثرات الخارجية.

وتتصل أطروحة الموجة الإرهابية الخامسة بمقاربة القبلية Tribalism التي طرحتها الأدبيات السياسية في تناولها للحركات الراديكالية، على اعتبار أن هذه الحركات تعمل وفقًا لآليات قبلية تدعم الانتماء والتماسك الداخلي، وتعزز من عزلتها واستعلائها في مقابل العالم الخارجي. فالحركة تصبح مركز الحياة بالنسبة لأعضائها، ومصدرًا لتفكيرهم وتشكيل مدركاتهم، وذلك على غرار ما عبر عنه أبو مصعب السوري (أحد أبرز منظري الحركة الجهادية العالمية) في كتابه "مقدمة رسائل دعوة المقاومة العالمية" حينما ذكر "فلا بد للعاملين في مجال المقاومة والجهاد والعمل العسكري المباشر ضد أعداء الله، أن يكون لهم علماؤهم ومفكروهم، ومثقفوهم وآلاتهم الفكرية والمنهاجية، وأدوات إعلامهم. لتوجيه العواطف الجياشة في نفوس المؤمنين". 

اتساقًا مع الفرضيات السابقة، فإن العزلة ستصبح لها درجة من الجاذبية للتنظيمات الإرهابية ، سواء كانت متوافقة مع نهج داعش أو مختلفة عنه، في مرحلة ما بعد داعش، لأنها ستتيح لها الحفاظ على درجة من النقاء الفكري والمجتمعي، لا سيما أن تجربة "الدولة الإسلامية" لداعش أثبتت عدم واقعية الاختلاط بالمجتمعات التي لا تمتلك نفس الأفكار. 

وبالتالي، فإن إخفاق التجربة ربما يعني ضمنيًّا تنامي الإحباط في صفوف المنتسبين إلى داعش، وعدم قدرتهم على التعايش مع المجتمعات التي باتت -من وجهة نظرهم- المسئولة عن إفشال التجربة، ومن ثم سيصبح مسار التكفير والعزلة المسار الأنسب لهم. ومن جهة أخرى، قد تصبح الحركات الإرهابية المختلفة مع داعش -على غرار تنظيم القاعدة- أيضًا أكثر اقتناعًا بمسار العزلة، نظرًا لما كشفته التجربة من تكاليف باهظة يصعب تحملها. 

2- المحنة والاستضعاف: ثمة خطاب تقليدي تتبناه الحركات الإرهابية يستحضر رواية المحنة والاستضعاف كرواية مركزية يتقاطع فيها التاريخ مع الحاضر، ويمكن من خلالها تفسير الأحداث والإشكاليات التي تتعرض لها تلك الحركات، وتتجلى هذه المقاربة في كتابات منظِّري الحركات الإرهابية، ومنهم: أبو مصعب السوري الذي يقول في كتاب "مقدمة رسائل دعوة المقاومة العالمية" إن "التجارب الفاشلة باهظة الثمن، ولكن الفشل في كثير من الأحيان أكثر إثراء للمسار من النصر، إذ يجمع التجربة إلى المجرب. فإذا ما قيض له الثبات والعزم على المسير، فإنه يشكل له أرضية الانتصار الحاسم القادم بإذن الله". 

وهكذا فالتعرض للانكسار في الوقت الراهن سيدفع الكثيرين من المنتمين إلى تلك الحركات إلى الاعتقاد بأن ما حدث بمنزلة محنة، واختبار لقياس مدى إيمانهم بالفكرة، ومثل هذا الأمر يستدعي الرجوع إلى مرحلة الاستضعاف بما تستلزمه من العزلة والابتعاد عن المجتمعات القائمة انتظارًا لمرحلة التمكين. 

3- الابتكار الراديكالي: حيث تُشير مارثا كرينشاو Martha Crenshaw إلى أن الابتكار يكون بمثابة آلية لحل المشكلات ومواجهة الإخفاقات التي يتعرض لها التنظيم الإرهابي. ومن هذا المنطلق، فإن تبني مسار العزلة سيسمح للحركات الإرهابية بمساحة أكبر للتفكير وابتكار آليات جديدة تتيح لها التكيف مع واقع ما بعد داعش، علاوةً على تطوير القدرة على تنفيذ هجمات إرهابية أكثر تأثيرًا، خاصةً أن تجربة داعش كشفت عن قدرات هائلة على الابتكار الراديكالي، ولعل آخرها استخدام طائرات بدون طيار مفخخة في هجوم للتنظيم خلال شهر أكتوبر 2016 على قوات للبيشمركة الكردية في العراق. 

4- معضلة الدولة: إذ إن تراجع قدرة الدولة الوطنية في منطقة الشرق الأوسط أفرد مساحات هائلة داخل حدود الدولة غير خاضعة لسيطرتها Stateless Areas، فضلا عما أفضت إليه سياسات الدول بالمنطقة وعجزها عن القيام بوظائفها الأساسية من إنتاج سلسلة لا تنتهي من المظالم سواء كانت مادية أو بشرية. 

مثل هذا السياق المأزوم للدولة يخدم التنظيمات الإرهابية من زاويتين جوهريتين، إحداهما إعطاؤها حيزًا أكبر للحركة والاستقرار في مناطق نائية بعيدًا عن سلطة الدولة وملاحقة أجهزتها الأمنية والعسكرية، وهو ما يعني فرصة أكبر لإنتاج أجيال جديدة أكثر تطرفًا تنشأ وفقًا للبرامج التربوية والتدريبية الخاصة بهذه التنظيمات. أما الزاوية الأخرى، فهي متصلة بتدعيم قدرة هذه التنظيمات على توظيف المظالم المجتمعية في استقطاب عناصر جديدة باتت تشعر بحالة من الاغتراب في مجتمعاتها، ليصبح بذلك الانضمام إلى التنظيم المخرج لتلك العناصر للتخلص من ذلك الاغتراب. 

رؤية ختامية:

التزايد في منحى الحركات التكفيرية المنعزلة لن يعني حالة من الانقطاع في التهديدات الإرهابية، فقد تتعاظم حدة هذه التهديدات لعدة اعتبارات، أهمها أن العزلة الحركية ستكون مرتهنة بتنامي حالة من الكراهية للآخر الذي ستُلقَى عليه تبعات إفشال تجربة الدولة الإسلامية. هذه الحالة ستستدعي رؤية تكفيرية أكثر اتساعًا وتطرفًا تجاه العالم الخارجي (الواقع خارج حدود التنظيم) لتصبح بذلك كافة المجتمعات عرضة لعمليات إرهابية عشوائية، أو ما يُطلق عليه ريتشارد هاس إرهاب التجزئة Terrorism of Retail Actions الذي يتم تنفيذه من خلال أفراد ومجموعات صغيرة لاستهداف أي مكان متاح داخل الدولة، وذلك باستخدام أدوات وآليات متنوعة تبدأ بأرخص الأسلحة كالأسلحة الحادة، وتنتهي بأكثر الأسلحة والأدوات تعقيدًا وتدميرًا.

ثمة مسار آخر قد يستصحبه تعاظم نمط الجماعات التكفيرية المنعزلة، وهو مسار الترابط بين الإرهاب والجريمة Crime – Terrorism Nexus، إذ إن عزلة الجماعات الإرهابية في المناطق النائية والحدودية سيجعلها تبحث عن مصدر للتمويل قد تجده عبر الانخراط في عمليات للجريمة المنظمة، وهذا الانخراط يرجح أن يأخذ شكلين أساسيين استنادًا إلى متصل الإرهاب والجريمة Crime – Terror Continuum لتمارا ماكارينكو Tamara Makarenko؛ حيث يعبر الشكل الأول عن درجة من التعاون بين الجماعات الإرهابية والتنظيمات الإجرامية، بينما ينصرف الشكل الآخر إلى درجة أعمق من التداخل تنشأ من خلالها تنظيمات هجين تستخدم أساليب إجرامية وتكتيكات إرهابية تخدم مصالحها في نهاية المطاف.