تختلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر لها في الثامن من نوفمبر المقبل عن سابقاتها في أنها تشهد لأول مرة في التاريخ الأمريكي ترشح امرأة "هيلاري كلينتون" على بطاقة أحد الحزبين الكبيرين (الحزب الديمقراطي) لمنصب الرئاسة، وفوز المرشح "دونالد ترامب" الذي ليست له خبرة بالعمل السياسي ببطاقة الحزب الجمهوري بعد هزيمته سياسيين لهم وزن ومكانة سياسية ويعدون من نخبة الحزب.
ورغم تصريحاته غير المعهودة في مجال السياسة الخارجية، وكذلك مواقفه المثيرة للجدل والتي توصف بالعنصرية والفاشية والمتعصبة في كثير من الأحيان، يستمر "ترامب" في السباق الانتخابي، بل وتؤيده نسبة ليست بالقليلة من الأمريكيين، وهو ما دفع الكثيرون داخل الولايات المتحدة إلى الحديث عن "ظاهرة ترامب" في السياسة الأمريكية.
تُثير الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذا العام في ظل تفردها عن الانتخابات السابقة تساؤلا حول مدى التغيير الذي ستُحدثه تلك الانتخابات في الحياة السياسية الأمريكية، وخاصة مع ترشح "ترامب" على بطاقة الحزب الجمهوري؟.
انتخابات ليست كغيرها:
مع بداية الحملات الانتخابية التي بدأت منتصف العام الماضي، اعتقد كثيرون أن الصراع داخل الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) في الانتخابات التمهيدية سيفضي بسهولة إلى معركة بين المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" والمتنافس الجمهوري "جيب بوش"، لكونهما المرشحين المفضلين داخل مؤسستيهما الحزبية، والمرشحين الأكثر جمعًا للتبرعات المالية. لكن "هيلاري" تعرضت لتحدٍّ جاد وغير متوقع من منافسها القوي السيناتور "بيرني ساندرز" الذي نادى بسياسات مختلفة تناقض الخطاب السياسي المتعارف عليه أمريكيًّا، خاصة فيما يتعلق بقضايا الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وقضايا الشباب. وقد جذب خطاب "ساندرز" ملايين الشباب الساعي للتغيير ممن يجدون صعوبة في التصويت للمرشحة "هيلاري" على الرغم من نداءات "ساندرز" المتكررة لهم للتصويت لها.
وجمهوريًّا، تعرض المتنافس "جيب بوش" المفضل من المؤسسة الجمهورية وصاحب الرصيد المالي الأكبر والخبرة السياسية الواسعة بين أقرانه من الجمهوريين للإذلال من خلال هزيمة مدوية اضطرته للانسحاب المبكر بعد فشله الكبير في الانتخابات التمهيدية بأول ثلاث ولايات (آيوا، نيوهامشير، وكارولينا الجنوبية).
وسقط بعد "بوش" مرشحون جمهوريون يمثلون كل أركان المؤسسة الجمهورية، سواء من أعضاء الكونجرس، أو حكام الولايات، أو رجال الدين، أو رجال الأعمال، أو حركة حزب الشاي، وبقي المتنافس "دونالد ترامب" ليفوز ببطاقة الحزب على غير المتوقع.
تختلف الانتخابات الرئاسية لهذا العام عن غيرها من خلال ثلاث نقاط أساسية، هي:
أولا- تعد انتخابات 2016 من المرات النادرة التي تخلو من سعي رئيس لإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية، وتخلو في الوقت ذاته من سعي نائب رئيس حالي (جو بايدن في هذه الحالة) للوصول لمقعد البيت الأبيض، وهو ما يجعل من سباق 2016 حالة فريدة قلما تتكرر في التاريخ السياسي الأمريكي.
ثانيًا- أظهرت حالة التنافس بين متنافسي الحزبين للفوز ببطاقة الحزب في انتخابات هذا العام تزايد عدم ثقة الأمريكيين في مؤسساتهم الحزبية القائمة. ويُقصد بالمؤسسة الحزبية، والتي يطلق عليها Establishment، شبكة شديدة التعقيد رسمية وغير رسمية من كبار المسئولين الحاليين والسابقين للحزب، وممثلي الحزب سواء في الكونجرس أو المناصب التنفيذية، ورجال المال والأعمال القريبين من الحزب، والمراكز البحثية المرتبطة بالأحزاب بصورة مباشرة أو غير مباشرة (مركز التقدم الأمريكي، ومركز بروكنجز في حالة الديمقراطيين، ومؤسسة هيريتج ومعهد أمريكان إنتربرايز في حالة الجمهوريين)، وأخيرًا وسائل الإعلام القريبة من تلك الأحزاب مثل محطة فوكس Fox News القريبة من الجمهوريين، أو محطة إم إس إن بي سي MSNBC القريبة من الديمقراطيين.
ثالثًا- وصول امرأة للمرة الأولى في التاريخ الأمريكي للترشح لمنصب الرئيس عن الحزب الديمقراطي في هذه الحالة، ووصول رجل أعمال ليست له أي سابقة أو خبرات سياسية أو انتخابية للترشح ممثلا للحزب الجمهوري.
"ترامب".. حملة انتخابية أم حركة سياسية؟
يُمكن تفهم بعض أبعاد ظاهرة "ترامب" من خلال التعرض لخمس نقاط أساسية لفهم البيئة التي أنتجت "ترامب"، ومعها يمكن أن ندرك أن ظاهرة "ترامب" تتخطى الحملة الانتخابية الحالية لتعبر عن حركة شعبية غاضبة من سياسات النخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية، وتتمثل تلك النقاط في:
أولا- تنقسم الكتلة التصويتية داخل الحزب الجمهوري إلى ثلاث فئات أساسية. أولها: المحافظون )المتدينون الإيفانجليكيون(، وهي فئة متدينة ومتشددة اجتماعيًّا. وثانيها: الطبقة العاملة (الطبقة الوسطى الدنيا) ذات مستويات التعليم المتوسطة (أقل من الجامعة)، والتي تضم عمال المصانع وأصحاب الوظائف المكتبية ذات الدخول المنخفضة، وثالثها: فئة جمهوريي الوسط، أو الجمهوريون المعتدلون التقليديون، أي الصوت الوسطي المعتدل بمعايير الحزب الجمهوري الذي يتجه نحو اليمين. وتشغل كل فئة تقريبًا ثلث أعداد المصوتين للحزب الجمهوري.
تتركز الكتلة الصلبة من أنصار المرشح "ترامب" داخل الفئة الثانية التي تتكون من الطبقة الجمهورية العاملة، وهي طبقة بيضاء البشرة في معظمها. وقد وجدت هذه الطبقة في "ترامب" نموذجًا للتعبير عن غضبها مما يرونه وضعًا اقتصاديًّا متدهورًا رغم تحسن الأوضاع الاقتصادية بصورة كبيرة خلال السنوات الثماني الأخيرة. وشعرت هذه الطبقة قبل ذلك بقسوة الأزمة اقتصادية 2008، وأزمة الرهون العقارية وتبعاتها، ولم تزد أجورهم، وزادت ديون أسرهم. ولذا، يلقون باللوم على الآخرين، سواء من المهاجرين، أو الليبراليين، أو الصين، أو الرئيس "باراك أوباما".
ثانيًا- ترامب رجل أعمال ملياردير ولديه الكثير من الأموال. ولهذا، فإنه لم يكن مضطرًا إلى إرضاء أصحاب رؤوس الأموال، أو ممولي الحملات الانتخابية. وأدرك "ترامب" أهمية بث الإثارة لحملته الانتخابية مبكرًا من أجل الحصول على تغطية إعلامية كبيرة يمكن من خلالها الوصول للفئات المناصرة له والتي تشعر بالغضب من المؤسسات الحاكمة ومن الأوضاع العامة، خاصة مع وجود سبعة عشر مرشحًا عن الحزب الجمهوري في بداية التنافس للفوز ببطاقة الحزب الجمهوري.
ولذا، خرج ترامب بتصريحات تنادي بحظر دخول المسلمين إلى أمريكا، وتعهد بترحيل المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين بشكل جماعي (11 مليون شخص)، واتهم المكسيك بإرسال المغتصبين وتجار المخدرات عبر الحدود الأمريكية المفتوحة. وكذلك سخر من المعاقين ذهنيًّا ومن النساء باستخدام ألفاظ خارجة. وبسبب ما سبق سيطرت أخباره وتصريحاته على وسائل الإعلام.
ثالثًا- لم يعد من المهم لدى قطاعات واسعة من الناخبين الأمريكيين ما يمثله الإطار الأيديولوجي للحزب السياسي، ويرى الكثيرون أن المؤسسة الحزبية كشيء من تراث الماضي. فعلى سبيل المثال، يُنادي الحزب الجمهوري كلاسيكيًّا بالسياسات المحافظة المتشددة اجتماعيًّا بالمعايير الأمريكية، مثل: معاداته لزواج المثليين جنسيًّا، ورفضه حق الإجهاض أو الإنجاب خارج منظومة الزواج، وضد الإلحاد.
واقتصاديًّا ينادي الجمهوريون بتخفيض الضرائب، وتقليص الموازنة والإنفاق العام، ورفع القيود عن التجارة. وسياسيًّا هم متحفظون تجاه قضية الهجرة، ويعادون سياسات دعم الدولة لخدمة الرعاية الصحية للجميع أو توفير تعليم مجاني. ويعادي الجمهوريون مدينة نيويورك (منشأ ومقر سكن "ترامب") وكل ما يخرج منها.
لكن "ترامب" يمثل كل ما هو عكس ذلك تمامًا، ورغم ذلك حصل على بطاقة الحزب الجمهوري بسبب تحول العلاقة ببن الناخب والمرشح لتشبه العلاقة بين المشاهد والفنان، أي لا يمكن وضع قوالب جامدة لها. البعض يؤمن بشخص "ترامب"، ويراه شخصًا يمثله أو يشبهه، أو يراه يعكس شجاعة قول ما لا يستطيع غيره من السياسيين قوله، والبعض يراه متعجرفًا ومحدودًا لكنه استطاع أن يأسر قلوبهم رغم إدراكهم كذبه أحيانًا، وادعاءاته أحيانًا أخرى.
وفي الوقت الذي يمثل فيه المحافظون الاجتماعيون المتدينون حجر الأساس وسط الفئات المؤيدة للحزب الجمهوري، تمثل شخصية "دونالد ترامب" النقيض تمامًا للصورة الذهنية لرجل الدولة عند هؤلاء الناخبين. يعيش ترامب حياة صاخبة أقرب لحياة نجوم هوليوود في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تزوج "ترامب" ثلاث مرات، ولم ينكر "ترامب" بل يتباهى باحتفاظه الدائم بعلاقات جنسية متنوعة خارج إطار الأسرة، ولا يذهب للكنائس، ولا يُعرف عنه ممارسة أي مظاهر للتدين، بل هو دائم الكذب، ويغير رأيه بخصوص الكثير من القضايا. ويعرف الناخبون ذلك، ويقبل الكثيرون به.
رابعًا- دور المال لا يمكن إنكاره أو التقليل منه في انتخابات 2016، لكن من المهم التذكير بأن أهمية المال تنبع من تمكينه للمرشح بأن يتواصل مع المواطنين الناخبين عبر التلفزيون أو الراديو أو إعلانات الطرق أو حتى الإعلانات على شبكات التواصل الاجتماعي. ولهذا، يلعب الإعلام دورًا طاغيًا في التأثير على هوية المرشح الفائز. وأظهر تحليل بيانات عدة وسائل إعلام أمريكية هامة (بلومبرج، فوكس، سى إن إن، وإم إس إن بي سي، برامج التوك شو الليلية، سي إن بي سي) من خلال مشروع بحثي معقد يجريه GDELT PROJECT لتحليل البيانات الضخمة Big Date، بعد أن جمع وحلل بيانات وسائل الإعلام المذكورة - أن كثافة ذكر وتكرار أسماء المرشحين كان المعيار الأهم الذي جمع بين المرشحين الفائزين ببطاقة الحزب الجمهوري والديمقراطي، "ترامب" و"كلينتون".
كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا متزايدًا يكشف عن فاعلية دورها في التأثير على هوية المرشح الفائز. المرشحان "ترامب" و"كلينتون" متقاربان من حيث أعداد المتابعين على حسابات تويتر. يبلغ عدد متابعي ترامب 11.6 مليون شخص، وكلينتون 8.9 ملايين شخص.
خامسًا- أهم نجاح للمرشح الجمهوري "دونالد ترامب" حتى الآن أنه أصبح محصنًا ضد أي أخطاء أو سقطات، يقول ما يقول، ويخطئ ما يخطئ، وذلك كله يمر بدون حساب بين مؤيديه، وبدون اعتذار من جانبه إلا فيما ندر. وما ذكره ويذكره ترامب كفيل بإسقاط أي مرشح تقليدي. ويدرك ترامب هذا جيدًا، ويستمر في إثارة الجدل، ولا يتوقف عند إطلاق الوعود الفارغة.
والجدير بالذكر أنه ليس هناك سبب واحد أو إجابة صحيحة لفهم أسباب صعود نجم "ترامب"، لكن المؤكد أن هناك تشابكًا كبيرًا بين ظروف موضوعية ومعادلات غير موضوعية دفعت لذلك.
"ترامب".. مرشح التغيير
منحت خلفية "ترامب" وكونه رجل أعمال وليس رجل سياسة حرية حركة واسعة. فقد استغل "ترامب" ذلك ليسوق نفسه كمرشح التغيير مقابل مرشحي الجمود السياسي والمؤسسة الراكدة، سواء كان ذلك خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري، أو خلال مواجهته الحالية ضد المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون".
على عكس قيادات وتوجهات الحزب الجمهوري، يتباهى "ترامب" بأنه عارض حرب العراق 2003 (وإن كانت هناك تقارير تتحدث عن أنه دعمها)، وذلك على الرغم من أنها نتاج أفكار المحافظين الجدد، التيار الرئيسي بالحزب اليوم. وينتقد في كل مناسبة سجل "هيلاري كلينتون"، وهو السجل الأقرب لسياسة وقيم وأفكار الحزب الجمهوري عنها لقيم الحزب الديمقراطي، عندما يتعلق الأمر بدعمها للحروب الأمريكية في أفغانستان أو العراق أو ليبيا أو حتى الغارات على صربيا أثناء رئاسة زوجها "بيل كلينتون" في تسعينيات القرن الماضي.
وعلى عكس التراث الجمهوري الداعم للتحالفات العسكرية للولايات المتحدة، وعلى رأسها حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، يرى "ترامب" عدم وجود ضرورة لبقاء "الناتو"، ويعتقد أنه يستنزف الموارد المالية والبشرية والعسكرية لأمريكا، ولا يخدم إلا مصلحة الدول الضعيفة بين الأعضاء. كما يعارض نهج الحزب، ويدعو دولا مثل اليابان وكوريا الجنوبية للاستقلال العسكري عن الولايات المتحدة، ونادى بضرورة أن تمتلك هذه الدول أسلحة نووية.
ويُعارض ترامب وبقوة اتفاقيات التجارة الحرة التي هي من صلب استراتيجية الجمهوريين في الاقتصاد. وتعهد بإعادة التفاوض حول اتفاقية "نافتا" منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتي تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. ويعارض كذلك الشراكة التجارية لمنطقة المحيط الهادئ، والتي تضم إضافة للولايات المتحدة اقتصاديات شرق وجنوب آسيا الصاعدة والتقليدية. ولطالما آمن الحزب الجمهوري بفلسفة الأسواق الحرة، وحرية انتقال رؤوس الأموال والشركات كعوامل ضرورية لدفع الازدهار الاقتصادي، بينما يطالب "ترامب" بفرض سياسات حمائية لخدمة العامل والمنتج الأمريكي، ويتعهد بفرض تعرفة جمركية، وضرائب على المنتجات الواردة من الصين وغيرها من الشركاء التجاريين لأمريكا.
أزمة حزب:
بعد ما يقرب من 240 عامًا على تأسيس الدولة الأمريكية على أسسٍ جوهرها قيم وأفكار بروتستانتية بيضاء، ونجاح هذه الأفكار والقيم تاريخيًّا في جعل أمريكا القوة الرائدة في عالم اليوم بما لها من سبق في مختلف المجالات والعلوم؛ إلا أن عدم تفهم التغيرات الكبرى التي أدت إلى قبول مجتمعي بحقوق المثليين جنسيًّا، أو بحق الإجهاض عند النساء، أو في المساواة الكاملة بين كل الأمريكيين بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس، يمثل عقبة كبيرة للحزب الجمهوري المسيطر عليه من بروتستانت بيض في زمن تزداد فيه نسب الملحدين، ونسب من لا ينتمون لأي ديانة، ويقدر عددهم بـ16%.
لم تعكس قوة البروتستانت البيض الثقافية خلال نصف القرن الأخير تغيرات الداخل الأمريكي، مما أفقدها الريادة التقليدية التي تمتعت بها لأكثر من قرنين. من هنا، لا سبيل لبقاء الحزب الجمهوري حيًّا، ناهيك عن فوزه بالبيت الأبيض يومًا ما في المستقبل، إلا إذا انفتح واستوعب أمريكا الجديدة، وأصبح أقل مسيحية وأقل بياضًا.