تُعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية الثامنة والخمسون التي تُجرَى في الثامن من نوفمبر المقبل، حدثًا استثنائيًّا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ يُفاضل الناخبون الأمريكيون بين المرشحة الديمقراطية التي ستكون أول سيدة تشغل منصب الرئيس في تاريخ الولايات المتحدة في حال انتخابها، وبين المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي سيكون من أكبر الرؤساء الأمريكيين سنًّا في حال فوزه، وأول رجل أعمال مرتبط بدوائر الإعلام يصل إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
تراجع الثقة في السياسة:
لا يقتصر الطابع الاستثنائي للانتخابات الأمريكية على طبيعة المرشحين وخلفياتهم المهنية، وإنما يشمل الحملات الانتخابية التي شهدت تراشقًا حادًّا بين المرشحين تجاوز حدود التنافس السياسي إلى اختراق الحياة الخاصة، بالتوازي مع الانحدار في لغة الخطاب المتبادل في ظل تصاعد الاستقطاب السياسي بين مؤيدي المرشحين، والانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي حول القضايا المثيرة للجدل.
وفي السياق ذاته، كشفت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن تراجع ثقة المواطنين الأمريكيين في السياسة بصفة عامة، وفي الحزبين الرئيسيين تحديدًا؛ إذ أضحت "السياسة" في الوعي الجمعي للأمريكيين مرادفًا للمواءمات المصلحية بين المنتمين للنخب السياسية ورجال الأعمال والإعلاميين التي تتم خلف الأبواب المغلقة، وهو ما يجعل مقولة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إن "العملية الانتخابية مزيفة" تَلْقى قدرًا من الرواج بين بعض الناخبين.
تصاعد الانقسامات الحزبية:
يرتبط تراجع الثقة في السياسة بتصاعد الطلب على التغيير، خاصةً بين الشباب؛ إذ يؤكد الصعودُ السياسي للمرشح الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية السيناتور بيرني ساندرز، وحصوله على تأييد واسع النطاق بين الشباب، أن التغيير أضحى في صدارة تطلعات قطاعات واسعة من الناخبين الأمريكيين، خاصةً في ظل تبني "بيرني ساندرز" خطابًا يميل لاتجاه اليسار غير المألوف في السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، ودور الدولة، والتصدي للمؤسسات المالية الكبرى والاحتكارات الاقتصادية.
وتُعد الانقسامات داخل الحزبين الرئيسيين إحدى السمات الأساسية للانتخابات الرئاسية، فعلى الرغم من التماسك داخل الحزب الديمقراطي فإن تسريبات البريد الإلكتروني لقيادات الحزب قُبيل المؤتمر الوطني العام للحزب في يوليو 2016 قد كشفت عن وجود تحيزات مسبقة بين القيادات لصالح هيلاري كلينتون ضد بيرني ساندرز، وهو ما تسبب في استقالة رئيسة الحزب الديمقراطي ديبي واسرمان شولتز عقب احتجاجات مؤيدي بيرني ساندرز، ورفضهم التصويت لصالح كلينتون بسبب التلاعب المحتمل في نتائج الانتخابات التمهيدية على الرغم من إعلان ساندرز تأييده لهيلاري كلينتون.
الاستقطاب السياسي الداخلي:
كشفت الحملات الانتخابية عن تصاعد الانقسامات الداخلية داخل المجتمع الأمريكي نتيجة التدافع بين التيارات الليبرالية والمحافِظَة فيما يتعلق بقضايا مثيرة للجدل، مثل: الحق في حمل السلاح، والحريات الفردية، والرعاية الصحية، ومنظومة العدالة الجنائية، وحقوق الأقليات، بالإضافة إلى تفجر المواجهات العنيفة بين المواطنين السود والمنتمين للأقليات والشرطة، نتيجة سياسات الاشتباه، وتعرض بعض المنتمين للأقليات للقتل على يد الشرطة.
وينطبق الأمر ذاته على قضية حمل السلاح. فعقب تكرار حوادث الإطلاق العشوائي للنار، والتي كان أكثرها إثارة للجدل هجوم أورلاندو في يونيو 2016 الذي أسفر عن مقتل 50 شخصًا وإصابة العشرات، حينما قام "عمر متين" بإطلاق النار على رواد ملهى ليلي في مدينة أورلاندو؛ حيث ضغط أعضاء الحزب الديمقراطي بقوة عقب الحادث لوضع قيود على تداول وامتلاك الأسلحة - إلا أن لوبي الأسلحة بزعامة جمعية البنادق الوطنية والجمهوريين بالكونجرس تصدوا لهذه المحاولات دفاعًا عن الحق الدستوري في حمل السلاح.
الانتخابات في عصر التسريبات:
في المقابل، تسببت الفضائح الأخلاقية لدونالد ترامب والتسجيلات التي تم تسريبها حول تجاوزه الحدود الأخلاقية في التعامل مع السيدات في فقدانه تأييد أغلب القيادات الرئيسية داخل الحزب الديمقراطي بسبب مخاوفهم من فقدان الحزب الأغلبية في الكونجرس في انتخابات التجديد النصفي، ولا ينفصل ذلك عن تصريحات ترامب العدائية تجاه المسلمين والمهاجرين والأمريكيين من أصول لاتينية والسيدات، والسجالات الحادة مع بعض القيادات السياسية والإعلامية، مثل: إليزابيث وارن عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، وجون ماكين، وأسرة الجندي الأمريكي المسلم "همايون خان" الذي قُتل عام 2004 أثناء حماية معسكره في العراق.
ويُمكن اعتبار التسريبات السياسية ظاهرةً جديدةً على الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ حيث إن الاختراق المتعمد لحسابات البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي، ونشر الرسائل على مراحل متتابعة، تسبب في إثارة الجدل حول قيام بعض الدول مثل روسيا بدعم هذه الاختراقات لترجيح فوز دونالد ترامب في الانتخابات. ولم تسلم حملة ترامب من تسريبات مماثلة؛ حيث تسبب تسريب مقطع صوتي لترامب يرجع إلى عام 2005 حول استغلاله شهرته في التعدي على خصوصية السيدات، في تراجع التأييد من جانب قطاعات واسعة من المواطنين الأمريكيين، وهو ما ينطبق على تسريب وثيقة الضرائب الخاصة بترامب التي كشفت عن تسجيله خسائر قُدرت بحوالي 916 مليون دولار في إقراره الضريبي عام 1995، وهو ما أتاح له تفادي دفع الضرائب بصورة قانونية لمدة عشرين عامًا.
وبغض النظر عن اختيارات الناخبين الأمريكيين في الانتخابات التي تُجرَى في الثامن من نوفمبر القادم، فإن الرئيس الأمريكي القادم عليه أن يتعامل مع واقع معقد وغير مستقر، يتضمن تحديات غير تقليدية، في ظل قيود مؤسسية تفرض عليه عدم تجاوز حدود الاختصاصات الدستورية، والالتزام بمبادئ الفصل بين السلطات، والتوازن والرقابة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، مما يعوق قدرة الرئيس الأمريكي على حسم عدد كبير من القضايا، خاصةً إذا لم يتمتع الحزب الذي ينتمي إليه بالأغلبية في الكونجرس.
من هو الرئيس القادم؟
في هذا الإطار، يركز الملحق المعلوماتي الصادر مع دورية "اتجاهات الأحداث" في العدد (18) لشهر (أكتوبر 2016)، على الانتخابات الرئاسية الأمريكية، باعتبارها انتخابات استثنائية في التاريخ الأمريكي. ففي صدارة العدد تركز المقدمة على التحديات الداخلية والخارجية التي سيواجهها الرئيس الأمريكي القادم. وتقدم الأستاذة رغدة البهي (المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة) موضوعًا بعنوان: "كيف يُنتخب الرئيس الأمريكي"، ويركز هذا الموضوع على تحليل العملية الانتخابية الأمريكية، والتوزيع الجغرافي لمؤيدي الحزبين الرئيسيين، والكتل التصويتية المركزية بالانتخابات.
ويتناول الأستاذ عمرو عبدالعاطي (باحث الدكتوراه المتخصص في الشئون الأمريكية، والمحرر المشارك بمجلة "السياسة الدولية" بالقاهرة) موضوع: "من هو الرئيس الأمريكي القادم؟"، محللا عوامل القوة والضعف لدى المرشحين الرئاسيين، ومصادر التمويل التي يعتمد عليها المرشحان في حملتهما الانتخابية، والجماعات المؤيدة لكل منهما، وَرَصَدَ التحليل تصاعد اتجاهات تأييد كلينتون لدى عدد كبير من القيادات المنتمية للحزب الجمهوري.
سياسة جديدة تجاه الشرق الأوسط:
ويُناقش الأستاذ أحمد الشورى أبو زيد (مدرس العلوم السياسية المساعد بجامعة أسيوط) "القضايا الداخلية في برامج مرشحي الرئاسة"، مركزًا على التباين في مواقف المرشحين من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وقضايا الأمن، وملكية الأسلحة، والتجارة الخارجية، والبرامج السياسية التي يطرحها كلٌّ منهما للتعامل مع التحديات الداخلية التي يواجهها المجتمع الأمريكي.
وأخيرًا، تحلل د. ريهام باهي (مدرس العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة) موضوع "الشرق الأوسط في السياسة الخارجية للمرشحين"؛ حيث يركز هذا الموضوع على تحليل مواقف المرشحين المعلنة، والبرامج السياسية لكلٍّ منهما للتعامل مع قضايا الشرق الأوسط، مثل: الصراعات في سوريا، والعراق، وليبيا، والعلاقات مع إيران، والحرب على الإرهاب، والعلاقات مع القوى الإقليمية الرئيسية بالإقليم. كما يتعرض الموضوع لتحليل ملامح الاستمرارية والتغير المحتملة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، ومدى قدرة الرئيس الأمريكي القادم على تجاوز إرث الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما.
ويحتوي ملحق "تقرير المستقبل" أيضًا على إنفوجراف توضيحي للعملية الانتخابية، وعناصر القوة والضعف لدى المرشحين، وتمويل الحملات الانتخابية، وتحولات نتائج استطلاعات الرأي.