في الوقت الذي يسعى فيه مرشحا الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، لاستقطاب أصوات الناخبين المترددين قبل الثامن من نوفمبر المقبل - تعرَّض المرشح الجمهوري "دونالد ترامب" لضربة قاصمة بعد نشر صحيفة "واشنطن بوست" تسجيلات صوتية غير أخلاقية له ترجع إلى عام 2005 تشمل شهادات نساء بتعرضهن للتحرش من قِبَلِهِ خلال السنوات الماضية.
وقد سيطرت تلك التسريبات على المناظرة الثانية بين المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" والجمهوري "دونالد ترامب" يوم الاثنين (10 أكتوبر الجاري) في جامعة واشنطن بمدينة سانت لويس في ولاية ميزوري.
ويضع استمرار حلقات الكشف عن الفضائح غير الأخلاقية لـ"دونالد ترامب" مزيدًا من الضغوط على حملته، وصعوبات للبحث عن إجابات وتبريرات تحسن صورته أمام الناخبين، لا سيما مع تأكيده مواصلته السباق الانتخابي رغم سحب أبرز أعضاء النخبة الجمهورية تأييدها له، وذهاب هذا التأييد للمرشحة الديمقراطية، ودعوات قيادات الحزب لـ"ترامب" بالانسحاب من السباق الانتخابي.
ليست المرة الأولى:
لم تكن سلسلة الفضائح غير الأخلاقية للمرشح الجمهوري التي أُثيرت مؤخرًا هي الأولى التي يشهدها سباق الرئاسة الأمريكي، فقد لاحقت الرئيس الديمقراطي "جروفر كليفلاند" فضيحة خلال حملته الرئاسية عام 1884، بعدما انتشرت أخبار حول علاقة سابقة جمعته بأرملة رُزق منها بابن غير شرعي، وتولى الإنفاق عليه بعد إيداعه في دار للأيتام بعد أن أصبحت والدته غير قادرة على تربيته، لكن صراحته واعترافه بابنه مكّنه من الفوز بالانتخابات لإدارتين (1885-1889)، و(1893-1897).
وخلال سباق الانتخابات لعام 1992 بين المرشح الديمقراطي "بيل كلينتون" –في ذلك الوقت– والرئيس الجمهوري "جورج بوش" الأب الذي كان يسعى للفوز بفترة رئاسية ثانية تعرض "كلينتون" لفضيحة "جنيفر فلاورز"، الموظفة في حكومة ولاية أركنساس وعارضة الأزياء والممثلة، التي كشفت عن علاقة استمرت لمدة 12 عامًا معه، لكنها لم تؤثر على فرص فوزه في الانتخابات، حيث فاز "بيل كلينتون" بولايتين.
وفي الوقت الذي تحاول فيه حملة "ترامب" الانتخابية تجاوز فضائحه الأخلاقية، يستخدم مؤيدوه فضيحة علاقة الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون" بمتدربة البيت الأبيض آنذاك "مونيكا لوينسكي" عام 1996، خلال فترته الرئاسية، للدعاية السلبية ضد ترشح زوجته "هيلاري كلينتون" للرئاسة.
استمرار تأييد المحافظين لـ"ترامب":
اعترف "ترامب" بصحة التسريب، وقام بتقديم اعتذار مصور بعد ساعات من نشر الفيديو الذي تضمن تصريحاته غير الأخلاقية، والذي يعد سابقة أن يعتذر صراحة عن تصريحاته المسيئة؛ حيث كان يعمد في السابق إما إلى تبريرها والدفاع عنها ومهاجمة منتقديه، أو التنصل منها مدعيًا أنها لم تصدر عنه من الأساس.
وعلى الرغم من اعتذار "ترامب" عن فضائحه غير الأخلاقية، فإن التداعيات السلبية لتصريحاته لا تزال مستمرة؛ لأنها تأتي قبل أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولفداحة المحتوى الذي أقل ما يوصف به أنه لا يكترث بقيم وأخلاق المجتمع الأمريكي، ويبتعد كل البعد عن مبادئ السياسة الأمريكية ونظرتها للحياة والمجتمع، ويحط من شأن المرأة الأمريكية، بما لا يتناسب مع مرشح رئاسي يمثل التيار السياسي المحافظ في البلاد، فضلا عن تشويه وجه الولايات المتحدة أمام العالم.
ولم تؤثر الفضائح غير الأخلاقية للمرشح الجمهوري على فرص تأييده بين المحافظين الأمريكيين، فعلى الرغم من إثارة المسيحيين الإنجيليين الشكوك حول شخصية "ترامب" بعد وصفهم للعبارات التي استخدمها في التسريبات بالبذيئة والفاحشة، إلا أنهم استمروا في تأييده ودعمه حتى الآن، استنادًا إلى أن أهل الإيمان يصوتون على قضايا مثل حماية حياة من لم يولد بعد، والدفاع عن الحرية الدينية، وتنمية الاقتصاد، ومعارضة الاتفاق النووي مع إيران.. إلخ، ومستندين على مبدأ التسامح، وأن على المسيحيين حقًّا احتضان أولئك الذين أخطئوا ويريدون التوبة. وهو ما أكده عدد من الممثلين للتيار المحافظ المسيحي من أعضاء المجلس الاستشاري الإنجيلي الذي يؤيدون "ترامب"، كالقس مارك بيرنز، و"رالف ريد" مؤسس تحالف العقيدة والحرية، و"روبرت جيفرس" الراعي الأعلى في الكنيسة المعمدانية الأولى لدالاس، وعضو المجلس الاستشاري الإنجيلي الذي صرح: "أنا قد لا أختار هذا الرجل ليكون معلمًا في مدرسة الأحد في الكنيسة، لكن هذا ليس ما تدور حوله الانتخابات الرئاسية".
انقسام الحزب الجمهوري:
عقب الكشف عن التسريبات غير الأخلاقية للمرشح الجمهوري "دونالد ترامب"، تعرض الحزب الجمهوري لانقسام حاد لم تشهده الحياة الحزبية الأمريكية من قبل. ففي الوقت الذي استمرت فيه اللجنة الوطنية الجمهورية -التي تُمثل قيادة الحزب وذراعه التمويلية- في دعم المرشح الجمهوري، فضلا عن عدد من حكام الولايات كإنديانا، ونيوجيرسي؛ فإن عددًا من قيادات الحزب الجمهوري قد سحبوا تأييدهم لـ"ترامب" وعلى رأسهم "بول رايان" رئيس مجلس النواب والشخصية الجمهورية الأكثر نفوذًا في الولايات المتحدة، والذي ألغى لقاء مشتركًا بينه وبين "ترامب" في المؤتمر الانتخابي الأول لهما في ولاية ويسكونسن.
كما سحب عدد من الشخصيات الجمهورية البارزة في الكونجرس دعمها للمرشح "دونالد ترامب"، مثل: "جاسون شافيز" رئيس لجنة الإصلاح الحكومي بمجلس النواب، و"جون ماكين" مرشح الحزب الجمهوري في سباق الرئاسة في 2008، والذي علق على التسريبات قائلا: "سلوك دونالد ترامب هذا الأسبوع يجعل من المُستحيل مواصلة تقديم حتى دعم مشروط لترشيحه"، وانضمت وزيرة الخارجية السابقة "كونداليزا رايس" إلى المجموعة الرافضة لـ"ترامب"، معلقة على صفحتها على موقع فيسبوك: "كفى! لا ينبغي أن يتولى ترامب الرئاسة. يتعين عليه الانسحاب".
وضمت قائمة المعارضين لـ"ترامب" التي فاقت مائة وخمسين جمهوريًّا أعضاء مجلس الشيوخ عن ولايات داكوتا الجنوبية، وإيداهو، ويوتا، وألاسكا، وغرب فرجينيا، وحاكم أوهايو، والمرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية "كارلي فيورينا"، والحاكم السابق لولاية كاليفورنيا، ونجم هوليوود "أرنولد شوارزينجر".
وانتقد التسريبَ آخرون مثل السيناتور الجمهوري "كيلي آيوت"، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ "ميتش ماكونيل"، ورئيس اللجنة القومية للحزب الجمهوري "رينس بريبس"، والذي يُعرف بدعمه الكبير لـ"ترامب"، حيث قال في بيانٍ له: "ما قاله ترامب بغيض، ولا ينبغي أبدًا وصف أي امرأة بتلك الألفاظ أو الحديث عنها على ذلك النحو، أبدًا".
وردًّا على تراجع شعبيته داخل حزبه، أشار "ترامب" إلى أن الوضع صعب في ظل "عدم الدعم المطلق" من "ريان" وآخرين، لكنه أضاف في تعليق لاحق على تويتر قائلا: "رائع جدًّا أن القيود قد انفكت عني، وأستطيع الآن أن أقاتل من أجل أمريكا بالطريقة التي أريد."
تراجع شعبية "ترامب":
عن تأثير التسريبات غير الأخلاقية للمرشح الجمهوري "دونالد ترامب" على شعبيته قبل أسابيع من ذهاب الناخبين إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم الجديد، أشارت نتائج الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" وشبكة NBC الإخبارية، خلال الأيام الماضية، إلى تدهور شعبية "ترامب"، واتساع الفجوة بين المرشحين بمقدار 11 نقطة لصالح المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" بعد أن كان الحد الأقصى للفارق بينهما حتى نهاية سبتمبر الماضي، لا يتعدى 6 نقاط.
ووفقًا لنتائج استطلاعات الرأي التي تُجريها صحيفة "نيويورك تايمز" بالتعاون مع عدة صحف ومؤسسات إعلامية أخرى بعد كل مناظرة مع تحليلها إحصائيًّا لتعبر عن رأي الشارع الأمريكي، تتقدم "كلينتون" لتصل نسبة فوزها في الانتخابات إلى 84%، بينما تراجعت نسبة فوز "ترامب" لتصل إلى 16% فقط.
واستمرارًا لتداعيات التسريب على السباق الرئاسي، كانت صحف أمريكية كبيرة يغلب عليها التوجه المحافظ قد كشفت صراحةً عن معارضتها للمرشح الجمهوري في الآونة الأخيرة، من بينها: The Arizona Republic،Cincinnati Enquirer، Dallas Morning News، والتي تؤيد جميعها "كلينتون" في الانتخابات الرئاسية، فضلا عن صحيفة USA Today. وقد خرجت مجلة الشئون الخارجية Foreign Policy الأمريكية الشهيرة عن تقليدها بعدم أخذ موقف في السباق الرئاسي الأمريكي ودعم مرشح رئاسي معين، معلنة تأييدها للمرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون"، ومنددة في افتتاحية لها بمنافسها الذي وصفته بـ"أسوأ مرشح رئاسة لحزب كبير في تاريخ الولايات المتحدة"، وتابعت أن "الغضب الذي أثاره مؤخرًا سلوكه الدنيء مع النساء يثبت إلى أي مدى هو غير مناسب لمنصب الرئاسة، كما يبرهن على ذلك نبذ العديد من أعضاء حزبه له، ممن لديهم العديد من الأسباب التي تدفعهم لدعمه بشكل تلقائي".
في المقابل، تدعم صحف مثل New Hampshire Union Leader المرشح الليبرالي جاري جونسون، والذي تدعمه أيضًا صحيفة Detroit News، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الصحيفة الذي يمتد 143 عامًا والذي اعتادت خلاله على تأييد المرشحين الجمهوريين في السباق الرئاسي.
وختام القول، إن تصريحات المرشح الجمهوري غير الأخلاقية لا تؤثر فقط على فرص فوزه في انتخابات الثامن من نوفمبر، ولكن تداعياتها قد تطال فرص فوز الجمهوريين بالأغلبية في انتخابات الكونجرس، ليفوز الديمقراطيون بمنصب الرئيس وبالأغلبية في مجلسي الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ)، ولهذا تبذل قيادات الحزب الجمهوري جهودًا مضنية للحفاظ على الأغلبية الجمهورية بمجلسي النواب والشيوخ لكيلا تحصل كلينتون والحزب الديمقراطي على تفويض مفتوح، في اعتراف ضمني من الحزب بأن السباق إلى البيت الأبيض قد تم حسمه لصالح المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون".