في الرابع من يوليو الجاري، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بجولة أفريقية شملت أربع دول هي أوغندا ورواندا وكينيا وإثيوبيا، والتقى خلالها أيضاً رؤساء دول أخرى مثل جنوب السودان وتنزانيا وزامبيا. وحظيت هذه الزيارة، التي تعد الأولى لرئيس وزراء إسرائيلي إلى أفريقيا جنوب الصحراء منذ عام 1987، باهتمام بالغ من الدوائر الرسمية والشعبية والإعلامية على المستويين العربي والأفريقي، وأثارت الكثير من الجدل حول دوافعها، وفعالياتها، وما حققته من نتائج، وانعكاس ذلك على الأمن القومي العربي.
أهمية القارة السمراء لإسرائيل
بارك الرأى العام الإسرائيلي الزيارة الأخيرة لنتنياهو، واعتبرها فرصة ذهبية لتوطيد علاقات إسرائيل بالقارة السمراء وتمددها فيها، حيث تتيح مثل هذه الزيارات توثيق العلاقات الإسرائيلية مع دول حوض النيل والقرن الأفريقي، لما للإقليمين من أهمية فائقة في الاستراتيجية الإسرائيلية، التي تسعى، من بين أهداف عدة، إلى تطويق الدول العربية في الشمال الأفريقي، وتحريض دول منابع النيل ضد مصر، باعتبارها دولة مصب، وأكثر دول حوض النيل اعتماداً على مياهه. كما تهدف تل أبيب إلى مراقبة حركة الملاحة في البحر الأحمر، فضلاً عن فتح فرص واعدة في أفريقيا أمام المستثمرين الإسرائيليين، الذين صحبوا رئيس الوزراء الإسرائيلي في جولته الأخيرة.
وعلى الرغم من مرور نحو تسعة وعشرين عاماً منذ آخر زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي إلى أفريقيا جنوب الصحراء، بيد أن أفريقيا السمراء لم تغب يوماً عن وعي قادة إسرائيل، منذ الارتباط القديم بين الحركة الصهيونية وحركة الجامعة الأفريقية، عندما سعى الآباء المؤسسون لإسرائيل إلى خلق روابط فكرية وتنظيمية مع دُعاة الوحدة الأفريقية، وعندما اقترح بعضهم إنشاء وطن قومي لليهود في أفريقيا الاستوائية (أوغندا) قبل أن يستقروا في النهاية على فلسطين، وأيضاً عندما كانت ليبيريا ثالث دولة في العالم تعترف بدولة إسرائيل بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
فالزيارات المتبادلة بين المسؤولين الإسرائيليين والأفارقة لم تنقطع، سواء على مستوى الوزراء أو المسؤولين الدبلوماسيين أو الخبراء الاقتصاديين والعسكريين، ومن أهمها زيارة أفيجدور ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي حالياً، إلى دول منابع النيل في سبتمبر 2009، وذلك أثناء احتدام الأزمة بين مصر ودول منابع النيل، قبيل توقيع اتفاق عنتيبي. وكذلك زيارة سلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان لتل أبيب في عام 2011، لتقديم الشكر على دعم إسرئيل لانفصال جنوب السودان.
لكن حساسية العلاقات مع إسرائيل، والرغبة في خلق قدر من التوازن مع الدول العربية، كانت تدفع الدول الأفريقية إلى إحاطة تلك الزيارات بالسرية، وتفعيل العلاقات بين الجانبين من خلال المسؤولين التنفيذيين والخبراء التقنيين أكثر من القيادات السياسية العليا.
فعاليات زيارة نتنياهو ودلالاتها
بدأت جولة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأوغندا، حيث زار قبر أخيه يوناثان نتنياهو، الذي لقي حتفه في عام 1976، خلال عملية مطار عنتيبي، لتحرير رهائن الطائرة الإسرائيلية التي اُختطفت خلال رحلتها من تل أبيب إلى باريس. كما أزاح نتنياهو الستار عن نصب تذكاري يضم أسماء ضحايا هذه العملية. ولا يخلو ذلك بالطبع من دلالات رمزية وسياسية، تستهدف إظهار إسرائيل وكأنها ضحية للإرهاب، شأنها شأن الدول الأفريقية، التي تعاني انتشار الجماعات التكفيرية ذات المرجعيات الدينية، وكذا التنظيمات الضالعة في عمليات الجريمة المنظمة.
والغريب هو زيارة نتنياهو لموقع تخليد ذكرى عمليات الإبادة الجماعية في رواندا، مُتناسياً مذابح حكومته في فلسطين، بالإضافة إلى توقيعه اتفاقية للتعاون مع الأفارقة في مجال مكافحة الإرهاب، وذلك في خطوة جديدة لتجميل وجه إسرائيل، بعد أن سبقها خطوة أخرى تمثلت في ترؤس السفير الإسرائيلي دان دانون للجنة القانون الدولي التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدما فاز بعدد 109 أصوات، معظمهم من الأفارقة.
وكانت قضايا الاقتصاد والتعاون التقني حاضرة بقوة على جدول أعمال الزيارة، حيث تحرص إسرائيل على استغلال احتياج الأفارقة إلى مساعداتها وخبراتها في هذه المجالات الحيوية. وقد شهدت الزيارة بالفعل اجتماعات لرجال الأعمال الإسرائيليين بنظرائهم الأفارقة، للتعرف على الفرص والتحديات التي تجابه حركة التجارة والاستثمار الإسرائيلي في القارة السمراء. إذ تبلغ التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا جنوب الصحراء حوالي 2% من التجارة الخارجية الإسرائيلية، وهو رقم لا يعكس حجم العلاقات السياسية بين الجانبين. وتم الاتفاق على إنشاء مكاتب للتمثيل التجاري، ومكاتب للتميز تابعة للوكالة الإسرائيلية للتعاون في التنمية الدولية (ماشاف) بالدول التي شملتها الزيارة. كما تم توقيع العديد من الاتفاقيات في مجالات الصحة والتعليم والزراعة، ومن أهمها اتفاقية التعاون الإسرائيلي - الإثيوبي في مجال الفضاء والطاقة المتجددة؛ وهو أمر تبدو أهميته في ضوء الطموح الإثيوبي للانتقال من حالة الاكتفاء الذاتي من الطاقة الكهربائية إلى أن تكون قوة تصديرية للطاقة، داخل وخارج القارة، وهو الطموح الذي ازداد تمسك أديس أبابا به مع إنشاء سد النهضة، حيث تم إسناد توزيع الكهرباء المتولدة عنه إلى إحدى الشركات الإسرائيلية.
لكن اللافت للانتباه هو تواضع الميزانية التى رصدها نتنياهو لدعم الدول الأفريقية التي قام بزيارتها، حيث لم تتجاوز خمسين مليون شيكل (13 مليون دولار)، وهو ما يؤكد أمرين:
1- إن تمسك الأفارقة بعلاقات قوية مع إسرائيل ربما يعود إلى الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية وأمنية أعمق في مداها وتأثيرها من الدعم الاقتصادي، خاصةً أن إسرائيل تعد مدخلاً لعلاقات قوية مع الولايات المتحدة. كما تعتبر إسرائيل مصدراً مهماً للسلاح والتدريب للقوات الأفريقية، بما في ذلك الحرس الرئاسي. وبالفعل كان للتعاون الأمني نصيب مهم خلال زيارة نتنياهو، التي شارك فيها أيضاً الجنرال يائير جولان، نائب رئيس الأركان الإسرائيلي.
2- إن ثمة خطأ واضحاً لدى الدول العربية يعترض تنمية علاقاتها مع الأفارقة، وهو التركيز على المسار الرسمي للعلاقات، وعدم خلق روابط ثقافية مستمرة، أو تدعيم العلاقات الشعبية مع الأفارقة، لذلك فالبلدان العربية تقدم المساعدات وتنفق الأموال في أفريقيا دون أن تحقق المردود السياسي المناسب. بينما تُولي إسرائيل أهمية كبيرة لهذا الأمر، لإدراكها أن الثقافة والروابط العقيدية تُمهد الطريق أمام السياسة والاقتصاد.
فإسرائيل تحرص على خلق روابط بين اليهود والشعوب الأفريقية، بالادعاء بوجود سمات مشتركة تربطهم بالجماعات الإثنية المؤثرة في القارة، مثل الأمهرة في إثيوبيا، والدينكا في جنوب السودان، والإيبو في نيجيريا.
ويتيح ذلك لإسرائيل التأثير في الرأي العام الأفريقي، واستمالته لصالح قضايا إسرائيل، خاصةً أن الدول الأفريقية هي الكتلة التصويتية الثانية في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الكتلة الآسيوية، لذا تحرص إسرائيل على كسب تأييد الأفارقة لبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، بعدما أدانتها العديد من الدول الأوروبية، وكذلك كسب تأييدهم لسياستها في قطاع غزة. وهو أمر تبدو أهميته بعد تصويت الجمعية العامة لصالح حصول فلسطين على صفة "العضو المراقب" في الأمم المتحدة عام 2012.
وقد سبق لإسرائيل أن نجحت في كسب أصوات الأفارقة في مواقف عديدة، لعل أهمها تأييد إثيوبيا لإسرائيل في قضية الجدار العازل في فلسطين، كما كان للدول الأفريقية الفضل في إسقاط مقترح لإخضاع المنشآت النووية الإسرائيلية لتفتيش مراقبي الأمم المتحدة، وذلك عندما تم التصويت على قرار بهذا الشأن في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحتى في الحالات التي لا ترغب فيها الدول الأفريقية في إدانة إسرائيل، فإنها تكتفي بالامتناع عن التصويت أو الغياب عن حضور جلسات التصويت.
ولعل ذلك هو ما يفسر حرص نتنياهو خلال زيارته الأخيرة على الخروج من الدوائر الرسمية المغلقة إلى مخاطبة الرأي العام الأفريقي، حيث اجتمع برجال الدين المتعاطفين مع قضايا إسرائيل. وأبدى لوسائل الإعلام الأوغندية أسفه بسبب العلاقات الوطيدة التي ربطت بين إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مؤكداً سعادته بانتهاء هذه المرحلة. كما زار المتحف الوطني في إثيوبيا، وألقى كلمة أمام البرلمان الإثيوبي سعى خلالها، بشكل غير مباشر، إلى إثارة المشاعر السلبية للإثيوبيين ضد مصر.
مساعي إسرائيل لنيل صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي
سعى نتينياهو إلى تأييد الأفارقة لحصول إسرائيل على صفة المراقب في الاتحاد الأفريقي، وهو أمر تبدو أهميته بعد فشل محاولاتها لاختراق القارة الأفريقية عبر مشروعيها الخاص بالشرق أوسطية، والأخدود الأفريقي العظيم.
وعلى الرغم من نجاح نتنياهو في كسب تأييد كينيا وإثيوبيا لمنح إسرائيل صفة المراقب في الاتحاد الأفريقي، بيد أن رد رئيسة مفوضية الاتحاد نكوسازنا دلاميني زوما جاء صادماً عندما أكدت أن مبادئ الاتحاد الأفريقي تحول دون قبول دولة احتلال كعضو مراقب به. كما أكدت وزيرة خارجية رواندا، وهي الدولة التي سوف تستضيف القمة الأفريقية السابعة والعشرين في يوليو الجاري، أن مسألة قبول عضوية إسرائيل بالاتحاد غير مطروحة على جدول أعمال القمة. وهنا تجدر الإشارة إلى دور مصر والجزائر في مواجهة المساعي الإسرائيلية لاختراق الاتحاد الأفريقي، عندما أصرت الدولتان على طرد الوفد الإسرائيلي من قمة الاتحاد الأفريقي في مالابو بغينيا الاستوائية في يونيو 2014.
تقييم نتائج الزيارة
بينما أُثير الكثير من الجدل حول نتائج زيارة نتنياهو، والتي اعتبرها البعض فتحاً جديداً لإسرائيل، إلا أن الزيارة، على الرغم من كونها تعكس التمدد الإسرائيلي في القارة السمراء، فإنها لم تحقق الكثير من أغراضها، فالمساعدات الإسرائيلية إلى أفريقيا تظل أقل مما يقدمه العرب للقارة. كما أن الزيارة لن تُثني معظم الدول الأفريقية، بما في ذلك إثيوبيا وكينيا، عن تأييد حل الدولتين بالنسبة للقضية الفلسطينية، أو توثيق العلاقات مع إيران. كذلك تحفظ رئيس جنوب السودان على العديد من المقترحات الإسرائيلية خلال الزيارة. في المقابل، حاول نتنياهو إظهار قدر من التفاؤل بشأن نتائج جولته الأفريقية، فأكد أن التأثير متعدد الجوانب لهذه الزيارة سوف يستغرق وقتاً حتى تكتمل ملامحه.
بالتأكيد، لا يمكن لأحد أن يمنع قيادات إسرائيل من توثيق علاقاتها بالقارة الأفريقية، كما أن الدول الأفريقية لن تقبل بذلك. وبالتالي، فإن الكرة الآن باتت في الملعب العربي؛ بمعنى أن القيادات العربية أصبحت مُطالبة بالتحرك، لتحقيق وتعظيم المصالح العربية بالأساس، ولسد الفراغ في الفضاء الأفريقي الواسع، والتي تسعى إسرائيل إلى شغله، في عالم لا يعترف إلا بلغة المصالح، وهي اللغة التي اضطرت تركيا مؤخراً إلى التقارب مع إسرائيل. ويمكن بالمنطق ذاته أن تدفع الأفارقة إلى دعم المصالح الإسرائيلية.