منذ إعلان رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، عن "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" ودعوته عدداً من القوى الدولية والإقليمية لحضوره يوم 28 أغسطس الماضي، اتجهت أنظار العالم نحو العراق، وثارت عدة تساؤلات حول الهدف من قمة بغداد؟ وعن إمكانية أن يلعب العراق أدواراً إقليمية جديدة؟ وهل نجحت القمة في تحقيق أهداف الكاظمي؟ وتزامنت القمة مع اقتراب الانتخابات التشريعية في العراق التي من المقرر تنظيمها في شهر أكتوبر المقبل، إضافة إلى أن الانسحاب الأمريكي في أفغانستان أثار تساؤلات أخرى حول إمكانية تكرار السيناريو الأفغاني في العراق، في الوقت الذي تعيد فيه الولايات المتحدة صياغة تواجدها العسكري في العراق، والحديث عن سحب قوتها القتالية بالكامل في آخر العام الحالي، وتحويل دورها إلى استشاري.
وفي إطار هذه التغيرات وغيرها، استضاف مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، الدكتور محمد مجاهد الزيات، المستشار الأكاديمي للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، للحديث عن المشهد السياسي العراقي ودلالات قمة بغداد. وبدأ الزيات حديثه عن الحالة العراقية بالتأكيد على أهمية الالتفات إلى ثلاثة متغيرات أساسية لفهم المشهد العراقي الحالي، وهي: الحراك الإقليمي والدولي للعراق، وخريطة القوى السياسية في العراق وحركتها في الفترة الحالية، ومستقبل الوجود الأمريكي في العراق.
حراك الكاظمي:
لفهم الحراك الجاري في العراق والذي تمثل في عدد من المشاهد مثل "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي عُقد يوم 28 أغسطس الماضي، ومؤتمر المشرق العربي الجديد الذي سبقه؛ يتعين الوقوف عند من صاغ هذا الحراك، أي مصطفى الكاظمي. فقط كان الكاظمي ناشطاً سياسياً في فترة الرئيس الراحل صدام حسين، وغادر العراق في منتصف الحرب العراقية - الإيرانية، متوجهاً إلى إيران، ثم ذهب إلى بريطانيا، وأقام في كردستان بالسليمانية تحت رعاية حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان في هذه الفترة يصدر إحدى المجلات المشهورة حتى عام 2011. وهذا ا يعني أننا أمام أحد النشطاء السياسيين الذين هم على صلة بإيران والولايات المتحدة الأمريكية.
وتم تعيين الكاظمي رئيساً لجهاز المخابرات العراقي، حيث أتى به رئيس ائتلاف النصر، حيدر العبادي، على اعتبار أنه شخصية نزيهة. ومع ذلك فالكاظمي لا يستند إلى ثقل شعبي أو ينتمي إلى حزب أو تكتل سياسي، ولكنه جاء إلى رئاسة الحكومة كشخص أو "مرشح تسوية" عندما اختلفت الكتل السياسية، ولم تتفق على مرشح.
ومن وجهة نظر الزيات، فإن الدافع الأساسي وراء اتجاه الكاظمي إلى القمم الإقليمية (المشرق الجديد ثم مؤتمر بغداد مؤخراً)، يتمثل في اقتراب الانتخابات التشريعية في أكتوبر المقبل، والتي كان موعدها في أبريل من العام القادم، إلا أن الكاظمي قد تبنى مسار الانتخابات المبكرة حتى لا تتحمل حكومته مسؤولية الفشل في تحقيق استقرار الخدمات العامة، خاصة مع صعود الحراك الشعبي العابر للطوائف وللعرقيات، وهو الأمر الجديد على العراق منذ عام 2003. وبدأ الحديث عن فشل الحكومة، بل وفشل القوى السياسية بأكملها، وبالتالي كان السبيل لعدم تحمل المسؤولية الذهاب لانتخابات مبكرة.
ومن جانبه، أعلن الكاظمي أنه لن يشارك في هذه الانتخابات، ورأى الزيات أن هذه الخطوة تشير إلى حنكة وذكاء الكاظمي، الذي ذهب إلى مسار الانتخابات المبكرة ويبدو أنه بعيد عنها، ولكنه على صلة بكافة القوى السياسية، وهو يدرك جيداً أن الانتخابات لن تسفر عن بروز طرف أو قوى مهيمنة تستطيع أن تشكل الحكومة بمفردها.
الخريطة السياسية:
تطرق الزيات في حديثه إلى خريطة القوى السياسية في العراق، وجاءت على النحو التالي:
1- التحالفات الثلاثة الأقوى: تضم ما يلي:
أ- تحالف الكتلة الشيعية أو ما يُعرف بـ "تحالف الفتح"، ويتزعمه هادي العامري، الذي كان بين الضباط الملتحقين بإيران أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، وعمل في المخابرات الإيرانية خلال تلك الفترة. والجدير بالذكر أن هذا التحالف يضم مجموعات من عصائب أهل الحق (الإرهابية) وأحزاباً ومجموعات مرتبطة بإيران ارتباطاً وثيقاً.
ب- ائتلاف دولة القانون والذي يرأسه نوري المالكي، ويقوم على الجناح المتطرف في حزب الدعوة.
ج- ائتلاف النصر، والذي يرأسه حيدر العبادي.
2- التيار الصدري: إلى جانب هذه التكتلات الثلاثة الرئيسية، توجد تكتلات أخرى، على رأسها التيار الصدري. وعلى الرغم من قوة هذا التيار إلا أن موقف زعيمه متأرج بين مقاطعة الانتخابات المقبلة والعودة إليها. كما أن مصطفى الكاظمي نجح في تحميل هذا التيار مسؤولية تراجع الخدمات، حيث كان ينتمي وزيرا الصحة والكهرباء المستقيلين إلى التيار الصدري. علماً بأن أزمة الخدمات ليست مرتبطة بالحكومة الحالية بوجه عام، حيث تهالكت البنية التحتية العراقية لعدم تحديثها منذ عام 2003.
3- الكتلة السنية: هناك تشظ واضح لهذه الكتلة منذ عام 2003، وهي تتضمن "تحالف التقدم" الذي يقوده رئيس البرلمان الحالي، ويحاول إبعاده عن الشخصيات السنية المستهلكة. ويليه "تحالف العزم" الذي يتزعمه خميس الخنجر، وهو رجل أعمال ويسعى حزبه إلى احتلال منصب اعتماداً على الثروة، وعلى وجود شخصيات محسوبة على حزب البعث القديم. وهناك "تحالف أهل الموصل" والذي يتزعمه أسامة النجيفي، الذي كان رئيساً للبرلمان سابقاً. وفي كل الأحوال مازالت الكتل السنية متشظية ويتوقع أن تتحالف في كتله واحدة.
4- الكتلة الكردية: لأول مرة يشارك الأكراد في الانتخابات العراقية بقائمتين منفصلتين، حيث مازال الخلاف قائماً بين الحزبين الرئيسيين؛ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، حول إقليم كردستان. والجدير بالذكر أن الاتحاد الوطني قد خسر في الانتخابات السابقة بسبب خروج جزء كبير منه تحت مسمى "حركة التغيير"، والآن عادت "حركة التغير" إلى الحزب مرة أخرى. ويتزعم الحزب باسل طالباني، ابن جلال طالباني.
خلاصة القول، نحن أمام كتلتين؛ كتلة شيعية يصعب أن تلتقي قيادتها، حيث يطمع كل منهم في منصب رئيس الوزراء، وكتلة سنية متشظية تسعى إلى أن يكون لها دور، وأن تأخذ منصب رئيس مجلس النواب (البرلمان). وسيكون الأكراد بمنزلة "رمانة الميزان" أي أن تحالفهم مع أي من الكتل الموجودة، ربما يرجح سير الانتخابات.
إذن، فالمتوقع أن الانتخابات التشريعية القادمة لن تفرز قوة مركزية تستطيع أن تسيطر على القرار العراقي، إنما نحن أمام قوى تسعى إلى عقد تحالفات معقدة وستلجأ في نهاية المطاف إلى شخصية يرضى بها الجميع، ومن هنا يعود مصطفى الكاظمي مرة أخرى كرئيس وزراء مرضي عنه من كافة الأطراف.
الوجود الأمريكي:
يتركز الوجود الأمريكي في العراق في عدد محدود من القواعد العسكرية ولكنها قواعد في غاية الأهمية، حيث أنها لا ترتبط فقط بفكرة التواجد الأمريكي في العراق، ولكنها ترتبط بتواجدها في المنطقة بأكملها، خاصة مع التطورات الأخيرة ذات الصلة بإيران وأفغانستان، وتزايد الوجود الروسي في سوريا.
إذن، فالسؤال هنا هل تنسحب الولايات المتحدة من تلك القواعد؟ في واقع الأمر، خلال الحوار الاستراتيجي الذي جرى عند زيارة الكاظمي واشطن، تم الاتفاق على الانسحاب العسكري الأمريكي، وعلى إبقاء عدد محدود من المستشارين والخبراء. غير أنه، وفقاً للزيات، من المتوقع أن تتم مراجعة هذا الانسحاب بعد التطورات الأخيرة في أفغانستان، حيث إن الانسحاب الأمريكي يعني افتقاد الولايات المتحدة أدوات التأثير أو الضغط على الحياة السياسية في العراق، وإعطاء الفرصة كاملة للقوى المرتبطة بإيران لتتصرف كما تريد داخل العراق.
كما سيمثل انسحابها مأزقاً لوجودها في سوريا، حيث يوجد 2000 فرد في سوريا يتركزوا في المنطقة الشرقية منها. وهناك ارتباط أساسي بين الوجود العسكري الأمريكي في سوريا والعراق. وبذلك، فإن انسحابها من العراق لابد من أن يعقبه انسحاب من سوريا.
وهذا السيناريو يعني ترك المساحة الكردية لتصرف تركيا، وتحقيق مكاسب لروسيا التي تسعى لإعاده دمج الأكراد ضمن الدولة السورية على شكل حكم ذاتي، ويكون هذا هو الغطاء الأساسي في مواجهة تركيا. ولعل ما حدث في الأيام الماضية، يدلل على ذلك، فلأول مرة تقوم القوات الروسية بقذف القوات أو التنظيمات الموالية لتركيا في عفرين، وهي المنطقة التي تعتبرها أنقرة منطقة نفوذ خالصة لها، لكنها كانت رسالة بأن موسكو لن تسمح بتكرار الضربات التركية للأكراد، وكأنها تقول للأكراد إنها مظلة حماية لهم، بديلاً عن الولايات المتحدة التي تركت أفغانستان في حالة فوضى. على الجانب الآخر، يعني الخروج الأمريكي أيضاً توسيع مساحة حركة الحشد الشعبي، وزيادة حضور الحرس الثوري الإيراني.
في الختام، وصف الزيات "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" بأنه تظاهرة سياسية أراد أن يقول فيها العراق أنه موجود ويمارس دوراً إقليمياً، وذلك مع الأخذ في الاعتبار تعقد الأزمات التي طُرحت خلال هذا المؤتمر.