أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

المكاسب المُنتظرة:

حدود فاعلية رسائل الضربات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة

23 أبريل، 2024


يأتي الهجوم الإيراني على إسرائيل يوم 13 إبريل 2024، ثم استهداف إسرائيل يوم 19 من نفس الشهر لقاعدة شيكاري العسكرية القريبة من مدينة أصفهان وسط إيران؛ ليشكل بداية معادلة جديدة من التنافس والصراع في منطقة الشرق الأوسط. وتقوم هذه المعادلة على حسابات خاصة لكل الأطراف الإقليمية الفاعلة وكذلك القوى الدولية في صياغة التفاعلات السياسية والأمنية والعسكرية على المستويات كافة في المنطقة.

فبعد الهجوم الإيراني ثم الرد الإسرائيلي عليه، أصبحت المنطقة أمام مشهدين، الأول، يصور الهجوم الإيراني بأنه "نصر استراتيجي" غير مسبوق على إسرائيل، خاصةً أنه الهجوم الأول من نوعه الذي ينطلق من القواعد العسكرية الإيرانية باتجاه الأراضي الإسرائيلية. بينما يرى أنصار الرأي الثاني، أن الهجوم الإيراني فشل؛ لأن إسرائيل أسقطت 99% من الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية. وعندما ردت إسرائيل في داخل إيران، وصف البعض هذه الضربة بأنها "اختراق استراتيجي" ودليل على فاعلية الأسلحة الإسرائيلية، بينما ما زال آخرون يشككون في جدوى الرد الإسرائيلي، بمن فيهم وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي وصف رد بلاده على الهجوم الإيراني بـ"الضعيف".

وتطرح كل هذه التطورات، تساؤلات حول الدلالات، وكذلك الرسائل التي أرادت كل من طهران وتل أبيب توصيلها من الهجمات والضربات المتبادلة، ومدى نجاحهما في ذلك.

رسائل إيرانية:

تتمثل أهم هذه الرسائل الإيرانية من الهجوم على إسرائيل، في التالي.

1- الخروج من عباءة "حروب الظل": تمثل أهم الأهداف التي تحققت لإيران في هجومها المباشر والأول على إسرائيل منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، في الانتقال من "حروب الظل" والمواجهات غير المباشرة إلى الحرب المكشوفة والعلنية. فقبل هذا الهجوم، كانت طهران وتل أبيب تخوضان حرباً طويلة وعنيفة سواء عبر الوكلاء أو عدم الإعلان عن وقوفهما خلف الكثير من "العمليات الرمادية". وكانت "حروب الظل" بين إيران وإسرائيل تأخذ مسارات كثيرة، منها الهجمات السيبرانية، وخاصةً تلك الإسرائيلية ضد البنى التحتية والمنشآت النووية الإيرانية، والاغتيالات المتبادلة بما فيها تلك الهجمات التي قتلت العديد من العلماء الإيرانيين في مجال الطاقة النووية. كما ذهب البلدان، في إطار هذه الحرب، إلى مناطق بعيدة عن حدودهما المباشرة، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، ولعل هذا كان السبب في توقع البعض في واشنطن ولندن بأن تهاجم إيران السفارات الإسرائيلية في عدد من هذه المناطق.

2- تغيير قواعد الاشتباك: لعل هذه أبرز نتيجة تحققت لمتخذ قرار الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل، فقبل ذلك كان الهجوم على الأراضي الإسرائيلية من "الخطوط الحمراء" التي رسمها الجيش الإسرائيلي لنفسه منذ سنوات طويلة، وكان يرد بعنف وقسوة على أي هجوم من هذا النوع. ولهذا تركت طهران هذه المهمة في السابق لحلفائها وأذرعها في المنطقة؛ ما كان يتيح لها مساحة من المناورة، بالقول إنها لا تتدخل في قرارات حلفائها خاصةً في سوريا والعراق واليمن ولبنان. لكن بعد هجوم 13 إبريل الجاري، ربما لم تعد الأراضي الإسرائيلية خطاً أحمر، كما أن الهجوم على العمق الإسرائيلي لم يؤدِّ إلى حرب إقليمية شاملة كما كان يخشى البعض؛ ما يشجع على تكرار مثل هذه الهجمات سواء من جانب إيران أو حلفائها. 

وترى طهران أنها بذلك فرضت معادلة جديدة على إسرائيل تقول إن الهجوم المباشر على إيران أو حلفائها سوف يُواجه بقواعد اشتباك جديدة يأتي في مقدمتها الهجوم المباشر على الأراضي الإسرائيلية. وهو هدف سعت تل أبيب بسرعة لحذفه من قائمة الأهداف الإيرانية، وذلك عبر التصميم على الرد على الهجوم الإيراني بطريقة تدفع طهران للعودة مرة أخرى لقواعد الاشتباك القديمة. 

3- رسم "الخطوط الحمراء" الإيرانية: بينما سعت إيران من خلال هجومها المباشر على إسرائيل إلى إزالة "الخطوط الحمراء" الإسرائيلية، أرادت أيضاً أن ترسم "الخطوط الحمراء" الخاصة بها، والمتمثلة في أن الاعتداء على الأراضي الإيرانية سوف يُقابل برد مباشر على نظيرتها الإسرائيلية، كما أن استهداف الشخصيات الرفيعة لا يمكن أن يمر دون رد. وسبق لإيران الرد على اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، عندما هاجمت قاعدة "عين الأسد" في بغداد، والتي كانت تضم قوات أمريكية وقوات من حلف دول شمال الأطلسي في يناير 2021.

4- صفحة جديدة مع الدول العربية: أرادت إيران أن تستثمر سياسياً في هجومها على إسرائيل عبر تعزيز علاقاتها مع دول الجوار والعالم العربي، وكان هذا واضحاً فيما تردد حول إبلاغ إيران دولاً عربية بأنها تنوي الهجوم على إسرائيل قبل وقت الهجوم بنحو 72 ساعة، وهو تطور لافت في العلاقات العربية الإيرانية، فهذه المرة الأولى التي تشارك فيها إيران دولاً عربية قراراً كبيراً بحجم هجومها على إسرائيل، وذلك منذ توقيع اتفاق عودة العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية في مارس 2023. وكان من نتيجة إبلاغ طهران دولاً عربية بقرار هجومها على إسرائيل أن كثيراً من هذه الدول حاول التوسط لتخفيف التوتر في المنطقة، ولهذا ربما جاء الإعلان عن اتصالات بين وزير الخارجية الإيراني ونظيريه السعودي والمصري. فضلاً عن ذلك، فقد حرصت طهران على طمأنة الدول العربية بأنها لا تنوي جر المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة.

5- التمهيد لصفقة مع واشنطن: تدرك إيران أن غالبية مكاسبها كانت من الإدارات الديمقراطية الأمريكية، ومنها الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015 مع الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، وانسحب منه الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب، وأعاد سلسلة من العقوبات ضد طهران. بينما الرئيس الديمقراطي الحالي، جو بايدن، كان أكثر تسامحاً في تطبيق العقوبات الأمريكية والغربية على إيران، ولهذا أرادت طهران أن تحصل على مكاسب أكبر من الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة عبر تقديم نفسها باعتبارها الدولة المؤثرة في التفاعلات السياسية والأمنية بالمنطقة. ولهذا كانت التقديرات الأمريكية حول قدرات إيران وحلفائها تقوم على أن طهران باتت المحرك والمحفز لكثير من المسارات الأمنية في مضيقي هرمز وباب المندب، بالإضافة إلى التأثير الإيراني في التطورات المتلاحقة في البحر الأحمر؛ بما قد يدفع في اتجاه إبرام صفقة بين طهران وواشنطن ربما تسمح للأولى بأداء دور إقليمي أكبر في المنطقة، مع ضمان أمن إسرائيل.

 6- وكيل إقليمي فاعل: ربما نجحت إيران من خلال الهجوم الموسع على إسرائيل، في تقديم نفسها "كوكيل إقليمي" فاعل، خاصةً مع حليفتيها روسيا والصين. فمن خلال القدرات العسكرية التي أظهرها الهجوم الإيراني، وإرسال المُسيّرات والصواريخ على بُعد نحو 1100 كلم، نجحت طهران في تقديم نفسها كقوة إقليمية يمكن الاعتماد عليها، ولهذا كان رد الفعل الروسي والصيني أكثر تفهماً للهجوم الإيراني على إسرائيل؛ إذ رفضت موسكو إدانة طهران في مجلس الأمن، بينما اقتصر الموقف الصيني على الدعوة للهدوء وعدم التصعيد. ومع انخراط الولايات المتحدة في إسقاط المُسيّرات والصواريخ الإيرانية، أصبح التضامن الإيراني الروسي الصيني يشكل مساحة جديدة من التعاون المستقبلي بين هذه الدول الثلاث.

7- تسويق السلاح الإيراني: ربما أغرى نجاح السلاح الإيراني في تحقيق الكثير من الأهداف، خاصةً لدى أذرع وحلفاء طهران في المنطقة، الكثيرين في العالم لشراء السلاح من طهران، بما في ذلك الحديث عن تزويد إيران لروسيا بمئات الطائرات المُسيّرة وصواريخ كروز والصواريخ البالستية. وعلى الرغم من إعلان إسرائيل عن إسقاط 99% من الصواريخ والطائرات الإيرانية، بات الجميع يدرك أن هناك طائرات مُسيّرة إيرانية تستطيع عبور كل هذه المسافات حتى يتم إسقاطها على حدود إسرائيل. 

8- توحيد الساحات: شكّل الهجوم الإيراني على إسرائيل لحظة فارقة في دعم وكلاء طهران الذين يحاربون إسرائيل. فقبل هذا الهجوم، كان هناك حديث طويل عن اعتماد إيران على الوكلاء فقط للهجوم على إسرائيل والمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ودفع هذا البعض للتساؤل عن أسباب عدم مشاركة إيران بشكل مباشر في الصراع الحالي؛ ومن ثم كان دحض التُّهم الموجهة لإيران بالتهرب من المواجهة المباشرة مع إسرائيل، أبرز الرسائل التي أرادت طهران إيصالها لجبهتها الداخلية، وفي ذات الوقت التأكيد للوكلاء في المنطقة أن حسابات إيران تنطلق من مصالح ما يُسمى "محور المقاومة" ككل، وليس بترك هؤلاء الوكلاء لتحمل عبء تحقيق المصالح الإيرانية.

هندسة الرد الإسرائيلي:

على الرغم من تحذير الولايات المتحدة ودول المنطقة لإسرائيل كي لا ترد على الهجوم الإيراني، فإن حكومة بنيامين نتنياهو أصرت على الرد، لكنها عملت على "هندسة ردها العسكري" بمجموعة من المحددات حتى لا تنزلق المنطقة إلى حرب إقليمية. وتمثلت أبرز هذه المحددات في التالي: 

1- توصيل رسالة بقوة القدرات العسكرية والاستخباراتية لإسرائيل، وتحقق هذا عبر ما يلي: 

أ- عدم اعتراف إسرائيل بشن الهجوم على أصفهان، وهذا ضمن سياسة "الغموض الاستراتيجي" الذي تتعامل به تل أبيب مع الملفات التي تتعلق بإيران. ولهذا عندما اعترف إيتمار بن غفير، بشكل غير مباشر بهذه الضربة، تعرض للنقد سواء من وزراء الحكومة أو حتى قادة المعارضة الإسرائيلية.  

ب- استهداف منطقة حيوية في إيران، فإسرائيل لم تضرب أهدافاً على الحدود الغربية أو الشمالية لإيران، بل قصفت، وفق صور الأقمار الاصطناعية، البطارية الخاصة بمنظومة "أس 300" الروسية، التي كانت تعمل في قاعدة شيكاري العسكرية في محافظة أصفهان وسط إيران. وتبدو رسالة إسرائيل من كل هذا أنها تستطيع الوصول إلى قلب إيران، وتخترق الدفاعات الجوية بما فيها منظومة "أس 300"، وليس "أس 200" الروسية القديمة التي طورتها إيران من قبل. 

ج- تعريض البرنامج النووي الإيراني للخطر، فالضربة في أصفهان القريبة للغاية من مفاعل نطنز النووي، والذي يضم نحو 500 ألف جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم، هي رسالة بأن إسرائيل قد تكون قادرة على تدمير المفاعلات النووية في هذه المنطقة. 

د- إفساح المجال للرواية الإيرانية، فطبيعة الرد الإسرائيلي على أصفهان، وعدم إعلان التفاصيل من جانب تل أبيب، ترك لطهران المساحة الكاملة لنشر روايتها بأن الهجوم جاء من متسللين من الداخل الإيراني، وأن الهجوم تم بطائرات مُسيّرة صغيرة جداً وتم إسقاطها، وبالتالي لا يستحق الأمر رداً إيرانياً جديداً على الهجوم الإسرائيلي.

2- الحفاظ على دفء العلاقات مع واشنطن: سعت إسرائيل في ردها العسكري لتحقيق التوازن بين هدفين؛ الأول، هو ضرورة الرد على إيران، والثاني، هو الحفاظ على متانة وقوة العلاقات مع الولايات المتحدة، والتي تجلت بوضوح في التصدي الأمريكي مع إسرائيل للهجوم الإيراني. ومن خلال غموض موقف إسرائيل، وعدم تبنيها هجوم أصفهان، مع عدم وجود خسائر بشرية أو مادية إيرانية؛ نجحت تل أبيب في توصيل رسائلها دون أن تغضب واشنطن وباقي الحلفاء الغربيين. 

3- المقايضة الإسرائيلية: تسمح طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران، وعدم انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية، لتل أبيب، بأن تعقد "صفقة جديدة" مع واشنطن بشأن تنفيذ عملية رفح في قطاع غزة، ولهذا بدأ الحديث عن إمكانية اجتياح رفح بعد إعلان إيران أنها لن ترد على الضربة الإسرائيلية في أصفهان. 

ختاماً، من المؤكد أننا أمام رسائل متبادلة بالمُسيّرات والصواريخ البالستية وصواريخ كروز بين إسرائيل وإيران، لكن تظل الأطراف الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، عنصراً فاعلاً في تقديرات الموقف التي يصوغها طرفا الصراع الإسرائيلي الإيراني.