شهدت إيران، خلال الفترة الأخيرة، تصاعداً في عمليات الاستهداف المعنوي والجسدي، ضد رجال الدين والمعمَّمين، من قِبل مواطنين عاديين، غير مؤدلجين في الغالب، للدرجة التي أصبح فيها خروج رجال الدين إلى الشوارع والميادين العامة، في بعض الأوقات، مخاطرة غير مأمونة العواقب. وربما الملمح المهم في حوادث الاستهداف هذه هو الانتقال الاحتجاجي في إيران من التظاهرات إلى استهداف رجال الدين، وذلك في مؤشر على فشل الأدوات السلمية، وبزوغ اتجاهات للعنف الاجتماعي بدلاً منها. ومن ثم وُجدت الحاجة إلى تشريح تلك الظاهرة، باعتبارها آخذة في النمو والانتشار داخل المجتمع الإيراني.
حوادث متكررة
يمكن الوقوف على أبرز المؤشرات التي تُدلل على تراجع مكانة رجال الدين في إيران على النحو التالي:
1- تصاعد حوادث القتل والإصابة: تصاعدت حوادث الاستهداف الجسدي ضد رجال الدين والمعمَّمين في إيران، وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات مُوثّقة بشأن تلك الحوادث، أشارت بعض المواقع، ومنها موقع "فردا" الإيراني، إلى أنها تجاوزت 30 حادثاً خلال العقد الماضي، ولم تقتصر فقط على استهداف رجال الدين البارزين، بل شملت أيضاً المستويات الدينية منخفضة الرتبة.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى تعرض عضو مجلس خبراء القيادة "الجهة المسؤولة عن اختيار وتعيين وعزل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران"، آية الله عباس علي سليماني، في 26 إبريل 2023، لاغتيال بنيران حارس أحد البنوك التي كان يوجد فيها سليماني، في مدينة بابلسر بمحافظة مازندران. كما تعرض رجلا دين في مدينة قم بوسط إيران، وهي معقل التيار الأصولي ومقر الحوزات والمكاتب الدينية، لعملية دهس من قِبل سيارة أحد المارة، الذي ترجل أيضاً من سيارته وطعن أحد رجلي الدين بسكين، في 29 إبريل 2023. وقد سبق ذلك، مقتل رجلي دين وإصابة ثالث في هجوم نادر وقع بأكبر مزار ديني للشيعة في إيران، وهو مرقد الإمام الرضا في مدينة مشهد الدينية، في إبريل 2022. هذا بجانب الإعلان عن إصابة رجل دين أثناء إلقاء كلمة في مرقد "إمام زاده محمد" في كرج بطهران، في يوليو 2022، وكذلك مقتل المعمَّم في الحوزة الدينية في محافظة همدان، مصطفى قاسمي، برصاصتين من سلاح كلاشنكوف، في إبريل 2019.
2- تعمّد إهانة رجال الدين: شهدت الاحتجاجات الأخيرة في إيران، التي اندلعت في منتصف سبتمبر 2022، نتيجة وفاة الشابة الإيرانية من أصل كردي، مهسا أميني، في أحد مراكز الاحتجاز التابعة لشرطة الأخلاق في طهران، تعمّداً في توجيه الإهانات لرجال الدين والمعمَّمين في إيران، إذ انتشرت ما عُرفت إعلامياً بـ"ظاهرة إسقاط العمائم"، حيث قام الشباب والفتيات بالتسلل من خلف رجال الدين وإسقاط عمائمهم من فوق رؤوسهم، في حركات لا تخلو من السخرية والاستهزاء. كما أشارت وسائل الإعلام إلى صفع شاب لرجل دين في الطريق العام، واتهامه رجال الدين بتدمير مستقبله، كما هاجمت إحدى الفتيات رجل دين في محطة مترو العاصمة طهران هاتفة بـ"الملالي يجب أن يخسروا... وارحلوا".
3- كسر "التابوهات" وإسقاط الرموز: كان لافتاً في الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إيران تصاعد المؤشرات التي تؤكد تراجع قدسية الرموز الدينية والسياسية لدى المواطنين، حيث هتف المتظاهرون بسقوط المرشد الأعلى، علي خامئني، وتعالت هتافات "الموت للديكتاتور" ربما في إشارة إلى خامنئي أيضاً. كما حرق المتظاهرون صوره وصور القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري، قاسم سليماني، وسائر رموز النظام في الشوارع والميادين العامة، بالإضافة إلى تعليق مشانق رمزية لُدمى "الملالي" على الجسور.
ووصل الأمر إلى إضرام النار في منزل مؤسس النظام الإيراني ورمزه الأكبر سياسياً وعقائدياً، روح الله الخُميني، في 17 نوفمبر 2022، في سابقة ربما هي الأولى في تاريخ إيران الحديث، كما شهدت الحوزات العلمية حوادث حرق متعمدة، ولم يكن ذلك بالأمر المُستجد خلال الاحتجاجات الأخيرة، بل حدث من قبل، إذ أُضرمت النار في حوزة علمية في مدينة تركستان بمحافظة قزوين شمال إيران، في الاحتجاجات التي اندلعت مطلع يناير 2018.
دوافع الاستهداف
يبدو جلياً أن ثمة اتجاهاً مُتصاعداً داخل المجتمع الإيراني لانتقاد رجال الدين ورفض تدخلهم في الشأن العام، ويمكن الوقوف على أبرز الأسباب التي دفعت إلى ذلك على النحو التالي:
1- تزايد السخط الشعبي من سياسات النظام الإيراني: اتسع نطاق غضب الشارع الإيراني جراء السياسات التي يتبناها النظام الحاكم، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وهو ما بدا جلياً في تكرار الاحتجاجات ضد النظام خلال السنوات الأخيرة، والتي جاءت على فترات متقاربة، ووصل سقف طموحها إلى المطالبة بإسقاط النظام. وأدى ذلك إلى لجوء الإيرانيين إلى التعبير عن غضبهم من النظام باستهداف رجال الدين، باعتبارهم ممثلين عنه. وبالنظر إلى التحقيقات الخاصة بحوادث الاعتداء على رجال الدين المُشار إليها، يمكن القول إن أغلبها لم يكن بدوافع شخصية، وإنما فقط للرغبة في الانتقام منهم كرجال دين يمثلون النظام.
وللتدليل على ذلك، فقد كشفت التحقيقات الأولية بشأن حادث اغتيال عباس علي سليماني، عن أن القاتل لم يكن يعرفه أصلاً، وكل ما حدث أنه عندما تصادف وجود سليماني داخل البنك، فقد الحارس السيطرة على نفسه وأفرغ غضبه على رأس أحد رجال الدين الذي ظهر أمامه بالمصادفة، لاعتقاده أنهم هم سبب مشكلات حياته.
2- فشل الأساليب السلمية في تحقيق المطالب: دفع تراجع الموجة الاحتجاجية الأخيرة في إيران نتيجة للعنف من جانب السلطات الإيرانية وعدم وجود قيادة واضحة لها، فضلاً عن افتقارها للدعم الخارجي؛ إلى تبني البعض مقاربة قائمة على استخدام العنف كبديل للتظاهر السلمي، للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. بمعنى أنه إذا كانت السلطات الإيرانية قد نجحت في إخماد الاحتجاجات، فإن المتظاهرين ما زالوا متمسكين بمطالبهم، ما يعني إمكانية تجدد الاحتجاجات مع أي حادث، نظراً لأن تلك المطالب لم يتحقق منها شيئاً.
فعلى الرغم من إعلان السلطات الإيرانية حل شرطة الأخلاق، المسؤولة عن مراقبة تطبيق القواعد الخاصة بالسلوك الاجتماعي والملبس، تم استحداث كاميرات مراقبة لرصد المخالفين. كما تتواصل الإضرابات الاحتجاجية للعمّال في مختلف القطاعات، ولاسيما صناعات النفط والغاز والصلب. وبناءً عليه، قد يلجأ الإيرانيون لاستخدام العنف ضد النخب الدينية، في محاولة للضغط على النظام من أجل تحقيق مطالبهم.
3- تلاشي الخطوط الفاصلة بين النظام ورجال الدين: أسفرت عمليات التأميم التي قام بها المرشد علي خامنئي للحوزات العلمية ورجال الدين، عن تبعية الأخيرين للولي الفقيه، وفقدان استقلالهما التاريخي عن السلطة، الذي كانا يتمتعان به قبل اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979، وبشكل خاص قبل تولي خامنئي منصب المرشد في عام 1989، حيث عَمد الأخير إلى اتخاذ عدد من الإجراءات في بداية توليه هذا المنصب تقضي بتوسيع صلاحياته وإضعاف دور الحوزة واستقطاب بعض رجالها بالمنح والعطايا وترهيب آخرين، وجعل رواتب رجال الدين تابعة لخزينة الدولة بعد أن كانت قائمة على التبرعات وأموال الأوقاف. ومن ثم أصبح المعمَّمون في إيران ملزمين باتباع المرشد واختياراته الفقهية في الشأن العام، في حالة من التماهي لم تحدث من قبل. ومن هنا، فإن الشارع الإيراني لا يفصل بين رجال الدين والمسؤولين الرسميين في النظام، ويتجه المواطنون لاستهداف رجال الدين، باعتبارهم هدفاً سهلاً؛ نظراً لافتقارقهم للتأمين الذي يحظى به المسؤولون الرسميون، فضلاً عن اختلاطهم بالعامة في الشوارع.
4- عدم تأييد "الجيل زد" لمبادئ الثورة الإسلامية: أدت جائحة "كورونا" إلى تعزيز ظهور ما يُسمى بـ"الجيل زد" في إيران، والذي يُقصد به عادة المواليد بعد عام 2000، وهم يمثلون نحو 7% من الشعب الإيراني بواقع 6 ملايين نسمة؛ وذلك نتيجة لاضطرار السلطات الإيرانية إلى توفير خدمات الإنترنت لأطياف واسعة من الشعب الإيراني لمواجهة أجواء الإغلاق التي سادت وقت الجائحة، إلى جانب فشل مؤسسات النظام في تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأضحى هناك جيل جديد من الشباب والفتيات في إيران لا يتلاقى مع الأدبيات والركائز التي رسخت لها الثورة الإسلامية 1979، ولا يؤمن بمبادئها وشعاراتها.
ومن جهة أخرى، اتجه الإيرانيون للمطالبة بإنهاء تركز الثروة في يد النخبة الدينية، فيما عُرف إعلامياً بظاهرة "Ayadollar"، بدلاً من Ayatollah""، والتي تعبر عن النفوذ الذي يمتلكه رجال الدين. ولعل ما أشارت إليه بعض التقارير من أن سبب وجود رجل الدين عباس علي سليماني داخل أحد البنوك في بابلسر، حيث تم اغتياله، كان بهدف استلام 4 مليارات و200 مليون تومان، في الوقت الذي يعاني فيه قطاع واسع من الشعب الإيراني من مشكلات معيشية واقتصادية نظراً لاستمرار تراجع مؤشرات الاقتصاد في ظل استمرار فرض العقوبات الغربية على طهران.
تضرر النظام
قد تتمخض تلك الحوادث عن تداعيات مختلفة خلال الفترة المقبلة، لعل أبرزها تململ رجال الدين من سياسات النظام، فقد يدفع تصاعد التهديدات ضدهم إلى اتجاههم نحو المطالبة بإجراءات تأمين لهم ضد هذه التهديدات، أو تبنيهم لرؤى مغايرة لتوجهات النظام، على أساس أن استمرار التماهي مع الأخيرة قد يُعرض حياتهم للخطر. وقد صرّح رئيس لجنة الأمر بالمعروف الإيرانية، كاظم صديقي، في 6 مايو 2023، بأن "رجال الدين شريحة مظلومة، تتعرض لظلم الناس واعتداءاتهم، وأنهم لا ناقة لهم ولا جمل ولا يتولون منصباً ولا مقاماً".
ومما يُعزز من ذلك الاتجاه، ما أبداه بعض رجال الدين الإيرانيين من مواقف مناهضة لسياسات النظام، خاصة فيما يتعلق بالتعامل الأمني العنيف ضد المتظاهرين في الاحتجاجات الأخيرة، ومنهم آية الله مرتضى مقتدائي، عضو مجلس خبراء القيادة، كما أن بعضهم قد عارض فرض القيود الاجتماعية، ومنها الحجاب، ومراقبة تطبيقها بواسطة دوريات الإرشاد، ورأى أن ذلك يُنفِّر الناس من الالتزام بتلك القواعد.
ختاماً، يمكن القول إن تكرار حوادث استهداف رجال الدين في إيران، وعلى فترات متقاربة، يوحي بأن هذه الظاهرة آخذة في التصاعد، ولم تعد تقتصر على حوادث فردية، خاصة وأن ملابسات تلك الحوادث تُدلل على أن الاستهداف ليس بدافع خصومات وحسابات شخصية، وإنما بسبب هويتهم كرجال دين، يمثلون في أعين مستهدفيهم النظام الذي سلبهم حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. كما أنه من المرجح أن تستمر العلاقة المتوترة بين المجتمع ورجال الدين في إيران، طالما بقي النظام متمسكاً بسرديته القديمة في التعامل مع مطالب الشارع، واستمراره في توظيف الدين في تعزيز شرعيته وقمع معارضيه، فضلاً عن بقاء رجال الدين تحت مظلة هذا النظام بهدف تحقيق منافعهم الخاصة وتأمين مصالحهم دون الاعتبار لمواقف الشارع الإيراني.