أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"حضارة السايبورج".. تكامل الإنسان والآلة

09 يناير، 2023


هل من الممكن أن تكون الثورة الصناعية الخامسة Industry 5.0 هي الثورة الأخيرة في هذه الحقبة من الحضارة الإنسانية، لكي تعلن بذلك عن نهاية عصر وبداية فجر جديد لحضارة مختلفة تماماً عن سابقتها، تكون فيها الغلبة لإنسان السايبورج، ذلك الإنسان الهجين بين البشر والذكاء الاصطناعي، فتبدأ حضارة السايبورج Cyborg Civilization في الانتشار، تلك الحضارة التي لا نعلم عنها شيئاً ولا نستطيع حتى تخيلها، تماماً كأنك تسأل أحد جنود جيش الرومان عن شكل الحرب العالمية الثانية، فلا يستطيع تخيلها ولا تخيل شكل الأسلحة أو الطائرات والدبابات أو حتى القنبلة النووية التي أنهت هذه الحرب.

بهذا المنطق، فإن الثورات الصناعية الأربع السابقة يمكن النظر إليها على أنها جميعاً كانت ثورات تمهيدية للثورة الصناعية الخامسة والتي قد تصبح الأخيرة، فالبناء قد اكتمل بالفعل ولم يعد منتظراً إلا أن يجلس الملك على عرشه، فالثورات السابقة قد قامت بالفعل ببناء هذا العرش الذي يتكون من نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغيرها من التقنيات الذكية، ولم يتبق إلا أن يجلس الإنسان الهجين "المٌعدل تقنياً" عليه، معلناً تدشين حقبة جديدة من التاريخ الإنساني/ السايبورجي.

الثورات التمهيدية:

يبدو أن المرحلة التي سوف يكون فيها الإنسان هو "التقنية" أو "الأداة" التي يخضع فيها للتطوير والابتكار قد اقتربت بالفعل، فالوتيرة التي تسير بها الثورة الصناعية متسارعة بصورة أكبر مما توقعه البشر، فإذا اتخذت الثورة الصناعية الأولى والثانية قرناً من الزمان لكل منهما حتى تكتمل أبعادها كافة، فقد اتخذت الثورة الصناعية الثالثة نصف هذه المدة، وعلى ما يبدو أن الثورة الصناعية الرابعة التي أوشكت على الانتهاء اتخذت حتى أقل من ربع هذه المدة، لكي يبدأ الحديث عن ثورة صناعية خامسة Industry 5.0، قد يصبح الإنسان فيها هو موضوع هذه الثورة وأداتها، تماماً مثلما كان الفحم والكهرباء والكمبيوتر في الثورات الصناعية السابقة.

فقد استمرت الثورة الصناعية الأولى Industry 1.0 التي كانت قائمة على الفحم وقوى البخار حوالي مائة عام، من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، استطاع خلالها الإنسان بناء الآلات والمحركات الضخمة التي تساعده في القيام بالوظائف الصعبة عبر توظيف قوى البخار، فأنشأ السفن والسكك الحديدة وبنى المصانع الكبرى، وما أن اكتملت هذه الثورة حتى بدأت الثورة الصناعية الثانية Industry 2.0 على مكتسبات الثورة الأولى، فاكتشف الإنسان الكهرباء ووظفها إلى جانب قوى البخار، ومن بعدها تغير شكل الحياة البشرية فظهرت نظم الإنارة في الشوارع والمنازل، وظهرت الآلات الكهربائية ونظم الإنتاج الضخم، وتغيرت كذلك نظم المواصلات، فظهرت الطائرات والمركبات إلى جانب السفن والسكك الحديدية، واستمرت أيضاً هذه الثورة قرابة قرن آخر من الزمان.

ومع بداية اختراع الكمبيوتر في خمسينيات القرن الماضي، بدأت الثورة الصناعية الثالثة Industry 3.0 القائمة على المعلومات، والتي استمرت قرابة نصف قرن من الزمان، حتى بدأت تظهر وفرة في المعلومات وتطور في حجم الترانزستور ساهم في تسريع عملية دخول الثورة الصناعية الرابعة Industry 4.0 ، التي بدأت منذ أكثر قليلاً من عقد من الزمان، مدفوعة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والويب والاتصالات اللاسلكية، ودفع ذلك إلى ظهور عدة تقنيات أخرى، مثل البلوكتشين والعملات المشفرة والطابعات ثلاثية الأبعاد والحوسبة السحابية وغيرها من التقنيات الذكية.

وإذا كان مقدراً لهذه الثورة أن يكون عمرها أقل بكثير عن سابقيها ولا نستطيع تحديد نقطة زمنية فاصلة حتى نقول إنها انتهت وبدأت ثورة صناعية جديدة، إلا أنه من الواضح أن التقنيات الذكية التي أفرزتها الثورة الصناعية الرابعة قد وصلت إلى أقصى مراحل النضج، وبالكاد يوجد تطور في تقنيات الهواتف الذكية، أو أجهزة الكمبيوتر، حتى نظم الذكاء الاصطناعي المستقلة اقتربت من مرحلة النضج وباتت أقرب إلى الواقع من أي وقت مضى، وبعد أن كانت العملات المشفرة هي محور الاستثمار والحديث خلال العقد الماضي، انتهت بفقاعة كبيرة سوف تساهم في مزيد من تطويرها لتجنب تكرار هذا السيناريو مرة أخرى، وأصبحت هناك رغبة شديدة للتوجه نحو نوع جديد من الصناعات الذكية التي تستهدف تطوير الإنسان إلى جانب تطوير التقنيات الذكية.

الثورة الأخيرة!

سيطر مفهوم الثورة الصناعية الرابعة Industry 4.0  على التطورات التكنولوجية التي شهدها العالم خلال العقد الماضي، وعلى ما يبدو أن الاتجاهات التكنولوجية القادمة سوف يسيطر عليها جيل جديد من الثورات الصناعية هو الجيل الخامس منها Industry 5.0، وإذا كانت أهم إنجازات الثورة الصناعية الرابعة تتمثل في تطوير نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والعملات المشفرة والبلوكتشين، فإن أهم إنجازات الثورة الصناعية الخامسة هي تطوير الإنسان البشري نفسه من خلال ذرع شرائح إلكترونية داخل الأجساد البشرية بهدف ترقية البشر للتحكم في كل ما ابتكره عبر الثورات الصناعية السابقة.

هذا هو الغاية النهائية التي قد تحققها الثورة الصناعية الخامسة، بأن تجعل الإنسان ولأول مرة هو محور التطور التكنولوجي نفسه، وكأن الثورات الصناعية السابقة كانت تمهيد لهذه الثورة الخامسة، وعلى عكس الثورة الصناعية السابقة التي كان محورها الآلات والأدوات نفسها، سوف يصبح البشر هم الثورة الصناعية الخامسة (We are the fifth industrial revolution).

فمثلاً إذا استطاعت الثورة الصناعية الرابعة أن تقوم بترقية الآلات من خلال منحها سيطرة على ذاتها، بأن تجعلها ذكية وقادرة على اتخاذ قراراتها بصورة مستقلة عن الإنسان، فإن الثورة الصناعية الخامسة تستهدف ترقية الإنسان نفسه، عبر طريقين رئيسيين، الأول من خلال منحه سيطرة أكثر على الآلات، بأن يتحكم في أجهزة إنترنت الأشياء والأجهزة ذاتية التشغيل فقط من خلال التفكير، والثاني من خلال منح الإنسان حرية أكثر للحركة في بيئته الصناعية الجديدة. 

- السيطرة العقلية:

قد يستطيع الإنسان أن يسيطر على الآلات الذكية من خلال ربط هذه التقنيات كافة بالإنسان عبر الشرائح الذكية المزروعة في الأجساد والأدمغة البشرية، كتلك التي يسعى أيلون ماسك لزرعها في الأدمغة البشرية، حتى تمنحه صلاحيات التحكم في الأجهزة الذكية الموجودة بالمنزل أو العمل أو حتى الأسواق والمواصلات، كأن يقوم بتشغيل التكييف وضبط درجة حرارة المنزل بمجرد التفكير في ذلك، أو أن تقوم ماكينة الطباعة ثلاثية الأبعاد بطباعة الطعام الذي يفضله وفقاً لتخيلات المستخدم غير المرئية، أو أن يتحكم في سيارته ذاتية القيادة عن بعد من خلال أوامر عقلية.

- حرية الحركة:

وعلى مستوى حرية الحركة فإن الترابط المعرفي بين النظم الذكية وتجانس العمليات التشغيلية بينها سوف يوفر على الإنسان كثيراً من الوقت الذي قد يستغرقه في القيام بالأعمال الروتينية، فتصبح كثير من الأعمال الروتينية في حياة الإنسان ميكانيكية، تتم عبر نظم الذكاء الاصطناعي والآلات الذكية، يشمل ذلك القيام بأعمال النظافة والتسويق والتوصيل ومعرفة الاخبار وكتابة الحالات (Statues) ومشاركة الصور والفيديوهات مع الأصدقاء والرد على البريد الإلكتروني ورسائل الدردشة ومتابعة الحالة الصحية والمرضية وغيرها من الأعمال الروتينية.

وعلى مستوى العمل تتعدى حرية الحركة ذلك بكثير، فإذا استطاعت الثورة الصناعية الرابعة أن تعيد هيكلة بعض الوظائف التي يقوم بها البشر وأن تغير من آلية القيام بهذه الوظائف، فإن الثورة الصناعية الخامسة سوف تزيحهم تماماً من منظومة العمل، لكي تقوم نظم ذكية مستقلة بالأعمال كافة بصورة دقيقة للغاية.

وإذا كان ذلك سوف يؤثر سلباً على كثير من الأفراد الذين سوف يفقدون وظائفهم، لكن ستظل هناك وفرة في الإنتاج تتطلب منح هؤلاء الأفراد أمولاً لكي يعيدوا استخدامها في شراء هذه المنتجات مرة أخرى، سواء من خلال منحهم إعانات بطالة مجزية أو رواتب جيدة نظير أعمال بسيطة، هي في الحقيقية أعمال "كاذبة"، أو وظائف "مزرية" shit jobs، وذلك تطبيقاً للنظرية الماركسية حتى لا يتداعى النظام الرأسمالي القائم عليه هذا النظام الجديد، فنصل إلى نظم عمل تستمر لأربع ساعات يومياً ولمدة أربعة أيام في الأسبوع، أو حتى أقل من ذلك، يقوم فيها الأفراد بوظائف إشرافية وهندسية أكثر من قيامهم بمهام تشغيلية. معظمها تتم من دون التقيد بالحدود الجغرافية والمكانية، قد يكون ذلك في ظاهره مفيداً للإنسان، لكن مع الوقت سوف يكتشف الإنسان أنه فقد كثيراً من المهارات التشغيلية التي يقوم بها لصالح الآلات.

حضارة السايبورج:

مع استمرار نمو هذا النوع من التقنيات فائقة الذكاء، قد يؤدي ذلك إلى تدشين الثورة الصناعية الأولى في حضارة السايبورج "Cyborg"، تلك الحضارة التي تختلف تماماً عن الحضارات السابقة التي عرفتها الإنسانية، فقد ينتج عن الانسجام التام بين الآلات وبعضها، وبين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي نوع جديد من المعرفة (البشرية - الاصطناعية)، يولّد أنواعاً مختلفة من الفنون والآداب والموسيقى والعادات والتقاليد، تختلف عن تلك التي صنعها الإنسان العادي، لها طابعها المميز وبصمتها الخاصة التي تتلائم مع هذا النوع المبتكر من الحضارة التي، ولأول مرة، لن يكون الإنسان فيها هو المسيطر.

وعندما نتحدث عن الفنون، فيجب الإشارة إلى أنها صبغة حضارية إنسانية بحته، لم يشارك الإنسان فيها أحداً من المخلوقات على هذا الكوكب، فهي سمة بشرية خالصة، ودليل قاطع على أن هناك بشرياً قد مر من هذا المكان، يشمل ذلك الرسم والتصوير والموسيقى والآداب، وإذا استطعنا خلق نظام ذكاء اصطناعي قادر على ابتكار هذه النوعية من الفنون، فهذا يعني أن الذكاء الاصطناعي أصبح بشرياً إلى حد كبير، وأنه ولأول مرة سوف تكون لدينا حضارة جديدة ليس من صنع الإنسان وحده.

هذه الحضارة الجديدة قائمة على مبادئ وقيم الذكاء الاصطناعي التي تتسم بالسرعة والدقة والكفاءة في القيام بالمهام التشغيلية التقليدية، كما أنها تتسم أيضاً بالمصلحة والمادية والنفعية والعصمة من الخطأ، ومع هذا الانسجام بين الإنسان والآلة يبدأ كل واحد فيهم في الاعتقاد بأنه سيطر على الآخر، وتبدأ الحرب التي تنبأت بها أفلام الخيال العلمي بين الإنسان والروبوت في الاندلاع، لا نعلم من سيفوز في النهاية، فهل سيقطع البشر مصادر الطاقة عن هذه الآلات فتموت، أم سوف تستغل الآلات نقطة ضعف الإنسان بأنه فانٍ فتقضي عليه.

لا اعتقد أن إنسان الحضارة الجديدة سوف يستسلم لهذا الخصم بسهولة، وسيحاول جاهداً تطوير خصائصه لكي تصبح مثل الآلات أو أكثر تقدماً، فيمتلك أطرافاً من الصلب، ويستبدل أعضاءه التي انتهى عمرها الافتراضي عبر الطباعة ثلاثية الأبعاد، ويستبدل جلده بآخر لا يتأثر بالعوامل الخارجية، ساعياً نحو اكتساب صفة الخلود التي تمتلكها الآلات، فيعتقد مخطئاً أنه بدأ في السيطرة على حضارة هذا العالم الجديد. 

فئران التجارب:

إذا استطاعت الثورة الصناعية الرابعة أن تقدم محاولات لإعادة تعريف بعض عناصر الحياة الإنسانية الضرورية، مثل نظم التعليم والعمل والتسوق، وقدمت أشكالاً جديدة للعملات النقدية، فإن تأثير ذلك عبر الثورة الصناعية الخامسة سوف يكون واضحاً وراسخاً، فيصبح الميتافيرس هو الفضاء الرئيسي للتفاعل الإنساني، وتصبح العملات المشفرة، التي سوف تستقر بعد تلافي سلبيات النظام القديم، هي وسيلة التعامل النقدي، وتصبح التقنيات الذكية القائمة على شرائح السيليكون وأشباه الموصلات من نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء هي المورد الرئيسي للإنسانية بعد الماء والهواء والغذاء، ويصبح الإنسان هو محور الابتكار والتطوير.

قد يجادل البعض بأن ما يحدث ليس ثورة جديدة، وأنه استمرار للثورة الرابعة أو حتى الخامسة، وأنه لن تكون هناك حضارة جديدة، بل قد يجادل البعض الآخر بأن هناك ردة سوف تحدث إما بسبب تغيرات مناخية أو أوبئة أخرى تعطل مسيرة التقدم البشري وتعود به إلى الطبيعة من جديد، قد يكون ذلك صحيحاً، لكن لايزال من المبكر جداً إصدار هذا الحكم، فنحن ما زلنا عاجزين عن إدراك ماهية التطور القادم، وما سوف ينتج عن عملية الاندماج والانسجام بين البشر والآلات الذكية، وبين الآلات الذكية وبعضها البعض، ولا نعلم ما هو شكل الحياة الجديدة التي سوف تنتج من عملية التحول هذه، وما هو نمط العلاقات الذي سوف يستقر في النهاية بعد اكتمال هذه الصيغة الجديدة، ولا نوعية التحديات التي يمكن أن تظهر، ولا حتى معرفة الطريقة التي سوف تتفاعل بها البيئة الخارجية مع هذا التطور، وكأن البشر هم فئران التجارب هذه المرة.