أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

انعكاسات محتملة:

دوافع تركيا لاختبار منظومة الدفاع الروسية "إس-400"

27 أكتوبر، 2020


أرجأت تركيا في مايو 2020 خططًا لنشر منظومة (إس-400) الدفاعية الصاروخية الروسية بسبب تفشي فيروس كورونا، لكنها عادت في 16 أكتوبر الجاري لاختبار المنظومة الروسية. وقد فتح اختبار تركيا للمنظومة الروسية، المجال واسعًا أمام التعاون العسكري بين موسكو وأنقرة، لكن تساؤلات عدة لا تزال تدور حول مدى تأثير اختبار المنظومة الروسية على المسارات المحتملة للعلاقة بين تركيا والقوى الغربية، خاصة في ظل إدانة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في 23 أكتوبر الجاري بشدة، اختبار تركيا منظومة (إس-400) باعتبارها تحمل في طياتها مخاطر على أنظمة الدفاع التابعة لحلف الناتو، محذّرةً من أنّ العلاقات الدفاعية بين البلدين قد تتأثر بشكل خطير جراء ذلك، إضافة إلى تهديد واشنطن في وقت سابق بفرض عقوبات على تركيا بموجب قانون أعداء أمريكا، الذي أقرّه الكونجرس عام 2017، وينص على اتخاذ تدابير عقابية تلقائية ضدّ أي بلد يشتري أسلحة روسية.

ومن مؤشرات تصاعد التوتر بين تركيا والحلفاء في الغرب، تصريحات الرئيس التركي بالتصدي للتهديات الأمريكية المنددة باختبار المنظومة الروسية، حيث أكد في 23 أكتوبر الجاري أن اختبارات منظومة (إس-400) الصاروخية جرت بالفعل. وأضاف: "إن موقف واشنطن لا يهم أنقرة"، واعتبر أن "وجود سلاح روسي (إس-400) لدينا بالتحديد هو ما يزعج البعض، لكننا مصممون على موقفنا". وأشار "أردوغان" إلى "أن اليونان لديها منظومة S-300 الروسية، وتستخدمها بالفعل، فهل سألت أمريكا الجانب اليوناني عن ذلك؟".

في المقابل، فإن تصاعد فرص التوتر تبقى مرشحة، لا سيما وأن السلوك التركي حيال تفعيل منظومة (إس-400) لم يكن هو الأول من نوعه، ففي عام 2019 اختبرت أنقرة صواريخ المنظومة الروسية أرض-جو، وهو الأمر الذي أجج التوتر بين تركيا وحلف الناتو، وردت عليه واشنطن بوقف مشاركة تركيا في برنامج طائرات F-35، وهددت بفرض عقوبات عليها.

اعتبارات متنوعة:

يُعد توجه تركيا نحو اختبار منظومة الدفاع الروسية تطورًا لافتًا، ويأتي في سياق اعتبارات متنوعة، وهو ما يمكن بيانه على النحو الآتي:

1- الانتخابات الأمريكية المرتقبة: تحاول أنقرة تكثيف الضغوط على إدارة "ترامب" لإبرام صفقة موازية تتخلى بموجبها الأولى عن منظومة الدفاع الصاروخية الروسية مقابل المضيّ قدمًا في تنفيذ التعاقد الخاص بحصول تركيا على منظومة "باتريوت" الأمريكية، ولا تنفصل ضغوط تركيا عن مخاوفها من فوز محتمل للمرشح الديمقراطي "بايدن" الذي وجه انتقادات غير مسبوقة للنظام التركي، ودعا إلى التعاون مع المعارضة التركية لإسقاط "أردوغان".

2- استيعاب الضغوط الغربية: تسعى تركيا للتحايل على الضغوط الغربية، خصوصًا في ظل اتساع الجبهة الأوروبية المطالبة بفرض عقوبات اقتصادية على أنقرة بسبب عمليات التنقيب غير القانونية التي تقوم بها شرق المتوسط. وكانت قمة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي التي عُقدت في 15 و16 أكتوبر الجاري في بروكسل وجّهت تحذيرات جديدة لتركيا بشأن التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، بعد أن نقضت أنقرة تعهداتها بالتهدئة لفسح المجال للمفاوضات. كما أن اختبار منظومة (إٍس-400) لا ينفصل عن مساعي تركيا للخروج من الدوائر المغلقة التي تمثلها العلاقات مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية، وتعزيز العلاقات العسكرية والأمنية مع روسيا، خاصة أن واشنطن خذلت الرئيس التركي باصطفافها إلى قبرص واليونان في أزمة شرق المتوسط، ودعمها قوات سوريا الديمقراطية، إضافة إلى أن التقرير السنوي للخارجية الأمريكية الصادر في يونيو الماضي تحدث بشكل مطول عن تركيا ودورها في تصدير الإرهابيين إلى خارج حدودها، وأضاف التقرير أن "تركيا بلد مَصدر وعبور للمقاتلين الإرهابيين الذين يسعون للانضمام إلى داعش والجماعات الإرهابية الأخرى التي تقاتل في سوريا والعراق رغم أنها عضو في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي".

3- تحقيق نصر خارجي: يسعى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" من خلال التوجّه نحو اختبار منظومة الدفاع الروسية إلى صرف الانتباه عن التراجع الحادث في شعبيته، بالإضافة إلى تآكل الرصيد التقليدي في صفوف القواعد الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وظهر ذلك في فوز المعارضة برئاسة البلديات الكبرى في الانتخابات المحلية التي أُجريت في مارس 2019، ناهيك عن استقالة عدد من القيادات التاريخية المؤسسة للحزب الحاكم، في الصدارة منهم: على بابا جان، وأحمد داود أوغلو، وتوجههم نحو تأسيس أحزاب بديلة، وهو ما يُعتبر ضربة موجعة لنفوذ الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان".

في المقابل، فإن الفصائل المختلفة من القوميين والموالين لـ"أردوغان، وبخاصة حزب الحركة القومية الشريك الرئيسي للرئيس "أردوغان" في الوقت الحالي، لديه مصالح متباينة في إجراء اختبار منظومة الدفاع الروسية، حيث يراهن القوميون من خلال هذه التجربة على حشد المتشددين الأتراك لمصلحة تحالف الشعب الذي يجمع "أردوغان - بهجلي"، لا سيما وأن حزب الحركة القومية يعارض الانتقادات الغربية للسلوك التركي حيال التعامل مع الأكراد، وبالتالي فإن تعزيز التوجه نحو روسيا يمنح مزيدًا من الحضور لتحالف الشعب في أوساط المتشددين الأتراك (القوميين والدينيين)، خاصة مع دعاوى تطالب بإجراء انتخابات مبكرة قبل موعدها المقرر 2023.

على صعيد ذي شأن، فإن اختبار المنظومة الروسية يأتي في سياق محاولة الرئيس التركي التحايل على الأزمة المالية الضخمة التي تواجهها الحكومة، والتي تكشفت ملامحها في تصاعد أرصدة الديون الخارجية، وخسارة العملة الوطنية (الليرة) نحو ثلث قيمتها، إضافة إلى سأم قطاعات معتبرة في الداخل التركي من تعاظم الارتدادات السلبية للانخراط التركي السلبي في أزمات الإقليم، وهو ما أسفر عن ضعف مناعة البلاد الإقليمية والدولية، وخسارة أنقرة جانبًا واسعًا من حلفائها الإقليميين، وبخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

4- طمأنة موسكو: يأتي اختبار تركيا لمنظومة الدفاع الروسية في إطار مساعٍ تركية لطمأنة الجانب الروسي الذي يتجه إلى تعزيز علاقاته مع خصوم تركيا، وبدا ذلك -على سبيل المثال- في المناورات البحرية المشتركة بين القاهرة وموسكو في البحر الأسود مطلع أكتوبر الجاري. وتسارعت وتيرة التقارب بين موسكو وجبهة الممانعة لتركيا في الآونة الأخيرة نتيجة سياسات الرئيس التركي في سوريا، ورفضه التجاوب مع المقترحات الروسية بتقليص نقاط المراقبة التركية في سوريا، ناهيك عن سياسات "أردوغان" العدائية تجاه القاهرة. كما أن توجه أنقرة لاختبار المنظومة الروسية لا ينفصل عن سعيها لطمأنة موسكو بحرص تركيا على استكمال استيراد منظومة s400، خاصة أن أنقرة كانت قد أعلنت في وقت سابق من العام الماضي أنها ستقوم بإرجاء استلام الدفعة الثانية من منظومة الدفاع الروسية s400 إلى ما بعد الموعد المحدد في 2020، بدعوى استمرار المحادثات حول تبادل التكنولوجيا والإنتاج المشترك.

انعكاسات مرتقبة:

تواجه العلاقات التركية - الأطلسية، وبخاصة مع الولايات المتحدة، اختبارًا صعبًا في المرحلة الحالية. فمن دون شك، فإن القرار الذي اتخذته أنقرة باختبار منظومة الدفاع الروسية سوف يؤثر -بدوره- على المسارات المحتملة للعلاقات التركية-الأمريكية، لا سيما وأن ذهاب تركيا نحو تفعيل (إس-400)، يعني الابتعاد عن حلف الناتو، والاقتراب من شبح الخصومة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أيضًا بدء مرحلة جديدة سوف يكون فيها التوتر هو العنوان الأبرز للعلاقات مع واشنطن التي تعارض امتلاك تركيا المنظومة الروسية. وقد تدخل العلاقة مناخ الشحن إذا ما فاز "بايدن" الذي يعارض التوجهات السلطوية للرئيس التركي، وانعطافته شرقًا ناحية روسيا.

في المقابل، فتح التوجّه التركي نحو اختبار منظومة الدفاع الصاروخية (إس-400)، الباب واسعًا أمام احتمال تصاعد الضغوط الغربية على تركيا، وهو ما قد يفرض تداعيات سلبية على تركيا يمكن بيانها على النحو التالي:

1- فرض عقوبات أمريكية: رغم سعي أنقرة للتحايل على المخاوف الأمريكية، إلا أن المؤسسات الأمريكية لا تزال ترى في الصفقة انتهاكًا لقواعد المصالح الأمريكية. وفي بيان لها في 16 أكتوبر الجاري، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن واشنطن "عبّرت لمستويات رفيعة في الحكومة التركية" عن عدم قبولها حيازةَ أنقرة لأنظمة أسلحة روسية مثل "إس-400"، محذرة من "عواقب وخيمة محتملة" لعلاقتها الأمنية مع تركيا إذا قامت بتفعيل هذا النظام.

في المقابل، تُشير التطورات الجارية في الكونجرس إلى أن هناك اتجاهًا لتصعيد الضغوط ضد تركيا، خصوصًا أن مسار التفاوض لإقناع أنقرة بالتخلي عن المنظومة الروسية وصل إلى طريق مسدود، وظهر ذلك في تلويح الكونجرس بمعاقبة تركيا وفقًا لقانون "مكافحة أعداء أمريكا". ففي 6 أكتوبر الجاري، وبعد نحو شهرين من صدور قرار بأغلبية في الكونجرس الأمريكي يحظر بيع أسلحة إلى تركيا، طالب نائبان بتوقيع عقوبات جديدة على خلفية الكشف عن اختبار أنقرة منظومة S-400 الروسية في قاعدة سامسمون المطلة على البحر الأسود على طائرات 16 F الأمريكية خلال تدريبات عسكرية قامت بها فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص أثناء الأزمة التي اندلعت بين تركيا واليونان. كما دعا، في 7 أكتوبر الجاري، رئيس لجنة الاستخبارات في الكونجرس الأمريكي "آدم شيف" إلى التعامل مع تركيا بصلابة.

في هذا السياق، فإن ثمة تصميمًا متوافقًا عليه من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونجرس ليس فقط باتجاه فرض عقوبات على تركيا، بل إن هناك اتجاهًا لدى الإدارة الأمريكية، وأيضًا لدى الكونجرس، نحو فك الارتباط العسكري مع تركيا التي انتقلت من كونها حليفًا استراتيجيًّا للولايات المتحدة إلى خصم، بالنظر إلى العديد من السياسات التي تتبعها، وتتنافر مع التوجهات الأمريكية.

2- أزمة مضاعفة مع الناتو: على الرغم من أن حلف "الناتو" تعامل بمرونة نسبية مع أزمة اقتناء تركيا منظومة دفاع روسية، على نحو بدا جليًّا في العروض التي قدمها لأنقرة من أجل التراجع عن إتمام الصفقة، ومنها تقديم بديل آخر لمنظومة "إس 400" بخلاف منظومة "باتريوت" الأمريكية؛ إلا أن تركيا رفضت ذلك، واتجهت مؤخرًا إلى اختبار منظومة s400، بشكل دفع دول الحلف إلى التلويح بأن استخدام تركيا المنظومة الروسية سوف يؤثر على التعاون مع حلف "الناتو".

ورغم تململ العلاقة بين تركيا والناتو في السنوات الأخيرة، وحِرْص الطرفين -بعد توقيع تركيا استيراد منظومة الدفاع الروسية- على الإبقاء على الحد الأدنى في تلك العلاقات، فيما عُرف بسياسة الاحتواء المتبادل، لكن تصاعدت حدة القلق داخل حلف الناتو بعد ذهاب تركيا إلى إجراء اختبارات على منظومة s400، وظهر ذلك في تصريحات أطلقتها في 17 أكتوبر متحدثة باسم الحلف، وقالت فيها: "هذا النظام يمكن أن يُمثّل خطورة على طائرات الحلفاء، وأن يؤثر على العلاقات بين شركاء الحلف". وأضافت المتحدثة أن من المهم أن تواصل تركيا البحث عن حلول بديلة مع الحلفاء الآخرين.

وزاد قلق الناتو مع فشل تركيا في تبديد هواجس الحلف من جهة، ومن جهة أخرى ظهور بعض المؤشرات التي تلمح إلى مضيّ أنقرة في الحصول على مقاتلة "الجيل الخامس" الروسية SU57 كبديل للمقاتلة الأمريكية 35F، بل إن بعض التقديرات التركية تشير إلى أن أنقرة قد تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بالحصول على منظومة دفاعية روسية أخرى، سواء من الطراز ذاته (S-400) أو أكثر تطورًا منها.

3- تصاعد التوتر مع أوروبا: مع الاختبارات الجديدة لمنظومة (إس-400)، تكون تركيا قد تجاوزت نقطة اللا عودة فيما يتعلق بالعلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي، التي وجهت انتقادات حادة لقرار أنقرة بشأن اختبار منظومة الدفاع الروسية. وتخشى الدول الأوروبية انعطافة تركيا شرقًا، واتجاهها نحو تطوير التعاون العسكري التقني مع موسكو، خاصة في ظل تصاعد القضايا الخلافية بين أنقرة ودول الاتحاد. كما أن الدول الأوروبية تعتقد أن اختبار منظومة (إس-400)  لا يمكن فصله عن النزاع المتصاعد في شرق المتوسط بين تركيا من جهة، وقبرص واليونان من جهة أخرى. وبالتالي، يُمكن قراءة اختبار منظومة (إس-400) بأنه أداة ضغط تركية على الاتحاد الأوروبي للدفع إلى الوقوف على الحياد في مسألة شرق المتوسط، أو على الأقل عدم اتخاذه إجراءات عقابية ضد أنقرة. هنا، يُمكن فهم قلق الدول الأوروبية من خطوة تركيا باختبار منظومة الدفاع الروسية، ولا سيما أنها ترتبط في جانب واسع منها بديناميكيات الصراع في شرق المتوسط.

المسارات المحتملة للمنظومة الروسية:

رغم تأكيد "أردوغان" تمسكه بالبقاء على تشغيل منظومة الدفاع الروسية، إلا أن الارتباك لا يزال هو العنوان الأبرز في تركيا بعد الإنذار الأمريكي الأخير لتركيا بإلغاء صفقة صواريخ S400 الروسية أو انتظار عقوبات. فتركيا تخشى التراجع بشكل مفاجئ وغير مبرر عن الصفقة، وهو ما قد ينتج عنه انهيار العلاقة مع موسكو التي تمثل رقمًا مهمًّا في معادلة صراعات الإقليم، ويمكنها إرباك الحسابات التركية في سوريا وليبيا.

في المقابل، تدرك تركيا أن توجهها نحو إجراء اختبار المنظومة الروسية يعني استمرار تراجع مناعتها دوليًّا، ويعجل بتصعيد كارثي في العلاقة مع واشنطن التي وجهت -في 23 أكتوبر الجاري- على لسان "مورجان أورتاجوس" المتحدثة باسم "البنتاجون": "إذا تأكد ذلك.. فسندين بأشد العبارات اختبار إطلاق صاروخ من منظومة إس-400 باعتباره لا يتسق مع مسؤوليات تركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي وكشريك استراتيجي للولايات المتحدة". في هذا السياق العام، فإن ثمة مسارين محتملين:

تشغيل المنظومة: قد تتجه تركيا في المستقبل بعد تجربة المنظومة الروسية إلى تشغيلها بصورة كاملة، واستلام الدفعة الثانية من المنظومة الروسية بعدما قررت أنقرة في وقت سابق تأجيل استلامها إلى ما بعد الموعد المحدد في 2020، بدعوى استمرار المحادثات حول تبادل التكنولوجيا والإنتاج المشترك. كما يمكن لتركيا تعويض المقاتلة f35 بالمقاتلة سوخوي 57 الروسية، خاصةً أن روسيا عرضت على "أردوغان" في أغسطس 2019 خلال مشاركته بمعرض نظّمته موسكو لمنتجاتها الجوية، طائرتها المقاتلة الشبح من الجيل الخامس سوخوي "سو57"، كما سبق أن قال رئيس شركة روستيخ "سيرجي تشيميزوف" في مايو 2019، إن موسكو مستعدة للتعاون في بيع المقاتلات الروسية من طراز "سو57" لتركيا عندما تُنهي أنقرة مشاركتها في برنامج إنتاج F35.

والواقع أن التوجه التركي المحتمل لتشغيل المنظومة الروسية S400 بشكل كامل، يرتبط باعتبارات متعددة، منها: أن أنقرة لم تحصل على ضمانات من الولايات المتحدة وشركائها الغربيين بضمان الحصول على منظومة "باتريوت"، إضافة إلى تجميد مشاركة تركيا في برنامج إنتاج المقاتلات الأمريكية F35. كما أن الرئيس التركي، وفي ظل تنامي مساحات التوتر مع أوروبا والولايات المتحدة على خلفية التوتر شرق المتوسط بين تركيا من جهة، وقبرص واليونان العضوين في الناتو والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى؛ يبقى في حاجة ماسة إلى توثيق العلاقة مع موسكو، ناهيك عن أن أنقرة لا يمكنها أن تتنبأ برد فعل روسيا إذا ما تراجعت عن الصفقة، وظهر ذلك في تحذيرات "ماريا فوروبيوفا" المتحدثة باسم الهيئة الاتحادية الروسية للتعاون العسكري التقني، عندما قالت في يونيو الماضي: "إنه لا يمكن لتركيا إعادة تصدير منظومة الدفاع الصاروخي الروسية S400 بدون إذن موسكو".

فإن تجربة اختبار منظومة الدفاع الروسية تمهيدًا لتشغيل كامل، يأتي في سياق رغبة تركية ملحة في استباق فوز محتمل للمرشح الديمقراطي "بايدن"، الذي يؤدى إلى تصاعد مخاوف تركيا، ويعارض التقارب التركي مع موسكو، خاصة أنه أشار في تصريحات سابقة له في أغسطس الماضي لصحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنه سيتخذ موقفًا أكثر حزمًا بشأن تركيا، وأضاف: "إن على "أردوغان" أن يدفع الثمن".

والأرجح أن العلاقة مرشحة للتوتر بين أنقرة وواشنطن إذا ما فاز "بايدن"، وظهر ذلك في شن "أردوغان" في 24 أغسطس الماضي هجومًا ضد "بايدن"، حيث أشار إلى أن السياسة الأمريكية "أسيرة عقلية مريضة". كما هاجم المتحدث الرسمي باسم "أردوغان"، إبراهيم قالن، "بايدن" أيضًا. وقال إن تصريحاته حول تركيا تزيد من سوء صورة الولايات المتحدة في العالم. وأكد أن طرح واشنطن إزالة تركيا أنظمة الدفاع الجوي الروسية كشرط أساسي لتعزيز علاقاتها الأمنية والتجارة وغيرها مع أنقرة هو "أمر خاطئ". وأضاف "قالن" أن هذا الشرط "غير مقبول" بالنسبة لأنقرة. وأكد أن تركيا دولة صاحبة سيادة، وأن اتخاذها قرار شراء أنظمة الدفاع الروسية كان على أساس سيادي.

محاولات التسوية: تدرك أنقرة أن التعقيدات الراهنة في الأزمة التركية-الأمريكية على خلفية توجه الأولى نحو اختبار منظومة الدفاع الصاروخية الروسية s400، تتجاوز الخسائر الاقتصادية وتمتد إلى المميزات العسكرية الدفاعية واللوجستية التي تحظى بها أنقرة بفض ارتباطها الاستراتيجي مع منظومة الدول الغربية، ناهيك عن قلق تركي من انعكاس عملية اختبار المنظومة الروسية على موقع وموضع تركيا الدولي.

هنا، يمكن فهم تصريحات وزير الدفاع التركي "خلوصي آكار"، في 24 أكتوبر الجاري، التي قال فيها، إن اختبار أنقرة لمنظومة الدفاع الصاروخية الروسية "إس-400" (S-400) لا يعني ابتعادها عن حلف الناتو (NATO). مؤكدًا -في الوقت ذاته- تواصل اختبار المنظومة وفق الخطط المعدّة. كما قالت المتحدثة باسم وزارة الدفاع التركية "ناددة شبنم آق طوب" إن اختبار "إس-400" جزء من العملية الطبيعية في إطار تحضيرات المنظومة طويلة المدى. وأضافت "أن الادعاء بأن تركيا تتصرف بما يتعارض مع التزامات حلف (الناتو) لا ينسجم مع المنطق"، وأكدت أن تركيا "تفي بمسؤولياتها داخل الحلف بحذافيرها".

وفي هذا السياق، سعت تركيا لاستيعاب الضغوط الأمريكية من خلال محاولة إقناع الولايات المتحدة بتشكيل لجنة مشتركة لفحص الثغرات الأمنية في منظومة حلف الناتو الدفاعية، ومقاتلات F35 قبل تشغيلها المنظومة الروسية بصورة نهائية، وهو ما قد يوفر مبررًا لتركيا في تخليها عن صفقة S400 من دون الدخول في علاقة صعبة مع الكرملين. كما تسعى تركيا إلى تعزيز مساحات الحوار مع واشنطن لاحتواء الأزمة، لا سيما وأن ثمة مخاوف تركية من أن تنعكس العلاقة العسكرية المتنامية مع موسكو على قدراتها لتطوير قواتها المسلحة، فتوثيق التعاون العسكري مع موسكو سوف يواجه عددًا من الصعوبات، وفي مقدمتها ضرورة إعادة هيكلة بنيتها العسكرية، بالإضافة إلى آليات الإمداد والتدريب واللوجستيات الخاصة بالجيش التركي بالكامل. ومن جهة أخرى، فإن روسيا ليست مورّدًا عسكريًّا يُعتمد عليه، في ظل تصاعد القضايا الخلافية والإرث التاريخي السلبي بين البلدين. علاوة على ما سبق، فإن روسيا ربما لا تتيح الكثير من قدراتها العسكرية الحساسة لتركيا، الدولة التي لا تزال عضوًا في حلف الناتو المناهض لموسكو، والتي تعارض سيطرتها على شبه جزيرة القرم، فضلًا عن سعي تركيا لتحدي النفوذ الروسي في الجمهوريات السوفيتية الناطقة بالتركية.

ولهذا قد تلجأ تركيا إلى السبل القانونية للحصول على مقاتلات F35، خاصة أنها استثمرت نحو مليار دولار في برنامج إنتاج المقاتلة، وبالتالي فإن أي قرار أمريكي يمنع وصول المقاتلات سيمثّل خرقًا للعقد، غير أن واشنطن أبدت استعدادها لتعويض أنقرة ماديًّا.

ختامًا، يمكن القول إن توجه تركيا نحو اختبار منظومة الدفاع الصاروخية الروسية، يعني مضاعفة التوتر مع دول حلف الناتو، وبخاصة الولايات المتحدة، الأمر الذي يُضعف من احتمالات نجاح أية جهود قد تُبذل للتهدئة في تحقيق نتائج تذكر. وبرغم مساعي تركيا للقفز على أزمة المنظومة الروسية؛ إلا أن ثمة فشلًا في إقناع واشنطن بعدم تعارض الصفقة الروسية مع الأنظمة التسليحية للناتو. لذا، فإن العلاقة مرشحة للتفاقم، وقد تصل إلى ذروة التأزم حال نجاح المرشح الديمقراطي "بايدن" في الرئاسيات الأمريكية المقرر لها نوفمبر المقبل. لكن في المقابل، ربما يكون من الصعب على تركيا التخلي مستقبلًا عن منظومة الدفاع الروسية S400، خصوصًا أن واشنطن لم تقدم بديلًا لأنقرة، ناهيك عن حرص موسكو على التماهي نسبيًّا مع السياسات التي تتبناها أنقرة في بعض القضايا على غرار الموقف من الميليشيات الكردية في شمال سوريا، وتوفير مساحات للتلاقي والتنسيق لحلحلة الصراع في ناجورنو كارباخ، وذلك على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي تتبنى مواقف مضادة للسياسات التركية في مناطق متعددة.