أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

دروس أوروبية:

كيف يدعم تصنيف "التمويل المستدام" الاقتصاد الدائري؟

19 سبتمبر، 2023


عرض: هند سمير

على الرغم من أهمية الاقتصاد الدائري في المرونة الاقتصادية والازدهار الاجتماعي وتجديد البيئة، فإن الاستثمار في الأنشطة الدائرية لا يزال محدوداً للغاية. إذ تواجه مبادرات الاقتصاد الدائري فجوة كبيرة في توفير التمويل، حيث يقدر الإنفاق السنوي على هذا النمط من الاقتصاد في جميع أنحاء العالم من قبل قطاع الشركات بحوالي 850 مليار دولار، مقارنة بنحو 35 تريليون دولار تم إنفاقها على النماذج الاقتصادية "الخطية" الحالية. 

ويمكن تفسير ذلك بأن الوعي بالاقتصاد الدائري بين المستثمرين وفي القطاع المالي لا يزال منخفضاً بشكلٍ عام، كما أن هناك نقصاً في الأدوات المتاحة لتحديد وقياس تلك الأنشطة التي تسهم بشكلٍ كبير في تقدم الاقتصاد الدائري، فضلاً عن فرص الاستثمار والمخاطر المرتبطة بتلك الأنشطة.

 ويمكن لتصنيفات التمويل المستدام، وهي عبارة عن نظام تصنيف مشترك لتحديد الاستثمارات المستدامة بيئياً، أن تساعد في تحقيق الاستثمار المطلوب للاقتصاد الدائري، ويُعد تصنيف التمويل المستدام الخاص بالاتحاد الأوروبي هو التصنيف الحالي الأكثر طموحاً وشمولية، كما يتضمن الانتقال إلى الاقتصاد الدائري كأحد أهدافه الرئيسية. 

وفي هذا الإطار يقدم كلٌ من جاك باري وباتريك شرودر وسوزانا شيرمان ورقة بحثية بعنوان "توظيف تصنيفات التمويل المستدام لصالح الاقتصاد الدائري"، وتتضمن الورقة – التي نشرت في معهد تشاتام هاوس في يونيو 2023 - دراسة حالة مفصلة لتصنيف الاتحاد الأوروبي، تحدد التحديات المختلفة المرتبطة بإدماج الاقتصاد الدائري، بهدف الاستفادة منها في تطوير التصنيفات المماثلة في أماكن أخرى من العالم.

أهمية الاقتصاد الدائري:

يُعد استخراج الموارد الطبيعية ومعالجتها واستخدامها وإلقاء النفايات الناتجة عنها مسؤولاً عن حوالي نصف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، و90% من فقدان التنوع البيولوجي المرتبط بالأرض والإجهاد المائي، وثلث التلوث العالمي. في المقابل، يمثل التحول نحو الاقتصاد الدائري استراتيجية صناعية ضرورية للتخفيف من آثار إنتاج واستهلاك المواد عن طريق التصميم المسبق للنفايات والتلوث، وإعادة تدوير المنتجات والمواد (بأعلى قيمة لها)، وتجديد الطبيعة، فضلاً عن قدرته على تقديم استراتيجية بديلة للازدهار الاقتصادي وسط تقلب سلسلة التوريد وتزايد التوتر الجيوسياسي والركود الذي يلوح في الأفق. 

ومن المتوقع أن تولد الحلول الدائرية فرص نمو عالمية تقترب من 4.5 تريليون دولار بحلول عام 2030. وقد أظهر البحث الذي أجرته جامعة بوكوني ومؤسسة إلين ماك آرثر وإنتيسا سان باولو (استناداً إلى عينة من 222 شركة) في عام 2021 أن الشركات يمكنها تقديم عوائد فائقة معدلة في ضوء المخاطر من خلال تنفيذ المناهج الدائرية.

وخلال السنوات العشر الماضية، تقدم التحول نحو الاقتصاد الدائري من مجرد مفهوم إلى تفعيل في الاستراتيجيات الاقتصادية الوطنية والإقليمية، والمثال الرئيسي على ذلك هو إطلاق خطة عمل الاقتصاد الدائري للاتحاد الأوروبي في عام 2020. علاوة على ذلك، تم تقديم أكثر من 450 سياسة وتشريعاً تتعلق بالاقتصاد الدائري و54 خارطة طريق أو استراتيجية وطنية في أكثر من 100 دولة، بينما يجري تطوير مجموعة واسعة من المعايير. ولكن على الرغم من هذه التطورات، فقد انخفضت دائرية الاقتصاد العالمي بشكلٍ عام في السنوات الخمس الماضية، من 9.1% في عام 2018 إلى 7.2% في عام 2023.

فجوة التمويل:

في معظم القطاعات، لا تزال النماذج الدائرية تمثل حصة صغيرة من السوق ككل. وبالتالي كان تمويل مبادرات الاقتصاد الدائري شحيحاً، فبينما يتم استثمار مليارات الدولارات في الحلول الدائرية من قبل كل من القطاعين العام والخاص، لا تزال تريليونات الدولارات تستثمر كل عام في النماذج "الخطية" التقليدية، مما يحول دون حدوث تحول منهجي في الاقتصاد. وتظهر التقديرات الأولية من قبل "Chatham House" و"Just Economics" أن حصة الاقتصاد الدائري من إجمالي الاستثمار العالمي لا تتجاوز 3% كل عام.

يواجه أيضاً الاقتصاد الدائري فجوة كبيرة في توافر مصادر التمويل. فقطاع التمويل الدائري وصناديق الاستثمار الدائرية الحالية تُقدَّر بنحو 50 مليار دولار، مقارنة بـ100 تريليون دولار من الأصول المالية تحت إدارة أكبر 500 مدير للأصول في جميع أنحاء العالم. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الاقتصاد الدائري موضوع جديد نسبياً للمستثمرين والقطاع المالي بشكلٍ عام، كما لا يزال الوعي بالاقتصاد الدائري منخفضاً وهناك نقص في الأدوات المتاحة لتقييم الأنشطة التي تسهم فيه بشكل كبير.

ومع ذلك، فقد انتشرت أخيراً أطر وأدوات ومعايير التمويل المستدام على المستويين الوطني والإقليمي. وكان إطلاق مجلس معايير الاستدامة الدولية (ISSB)، في إطار مؤسسة المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS Foundation) خلال مؤتمر المناخ في عام 2021 لحظة محورية لتمويل الاستدامة. وسوف يقوم مجلس معايير الاستدامة الدولية بتطوير خط أساس عالمي لمعايير الإفصاح عن الاستدامة عالية الجودة لتلبية احتياجات المستثمرين من المعلومات.

حالة الاتحاد الأوروبي:

بالنظر إلى التطور المفاهيمي والتشغيلي السريع والاستيعاب للاقتصاد الدائري في كل من القطاعين العام والخاص، فإن السؤال الرئيسي هو كيف يمكن الاستفادة من أطر وأدوات التمويل المستدام الجديدة هذه لتسريع التحول نحو الاقتصاد الدائري؟ ومن أهم هذه التطورات ظهور تصنيفات التمويل المستدام، والتي تضمن مشاركة جميع أصحاب المصلحة في فهم ماهية الأنشطة الاقتصادية المستدامة وتساعد على منع "التمويه الأخضر" - وهي الآلية أو الطريقة التي تُعطي من خلالها الشركة صورة أو انطباعاً خاطئاً أو معلومات مُضلّلة بخصوص امتثال منتجاتها أو خدماتها للمعايير البيئية المنصوص عليها - من خلال توفير الشفافية، وحتى الآن تم إطلاق وتطوير أكثر من 20 تصنيفاً مالياً مستداماً في جميع أنحاء العالم. 

وفي ضوء ذلك يُعد تصنيف التمويل المستدام في الاتحاد الأوروبي من أوائل التصنيفات في العالم التي تتضمن الاقتصاد الدائري كهدف أساسي، كما يُعد هو الأكثر طموحاً وشمولاً من بين هذه التصنيفات من حيث نطاقها، ولكن بشكلٍ أكثر تحديداً فيما يتعلق بتضمين الاقتصاد الدائري. ومع ذلك، لم تغب التحديات السياسية عن المشهد أثناء عملية تطوير تصنيف الاتحاد الأوروبي. ومنها: القانون المفوض للتصنيف، والذي دخل حيز التنفيذ في 1 يناير 2023، ويشمل الطاقة النووية والغاز الطبيعي كـ"أنشطة انتقالية تسهم في التخفيف من تغير المناخ"، ويؤدي إدراج وتصنيف الطاقة والغاز النوويين في هذه الفئة إلى تقويض مصداقية تصنيف الاتحاد الأوروبي كأداة استثمارية قائمة على العلم ويهدد بعرقلة تحقيق اقتصاد دائري.

ولكن وعلى الرغم من ذلك يقدم تصنيف الاتحاد الأوروبي دروساً قيمة حول التحديات السياسية والتقنية والإجرائية للتصنيفات المستقبلية، فقد أطلق الاتحاد الأوروبي إطار التمويل المستدام في عام 2018 واستراتيجية التمويل المستدام في عام 2021، ويشتمل الإطار على ثلاثة مكونات تكميلية:

- المكون الأول: نظام إفصاح إلزامي لكل من الشركات المالية وغير المالية، ويهدف إلى تزويد المستثمرين بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات استثمارية مستدامة، فبموجبه يتعين على الشركات الإفصاح عن معلومات حول تأثير أنشطتها في البيئة والمجتمع، والإبلاغ عن المخاطر التجارية والمالية التي تواجهها بسبب تعرضها للاستدامة.

- المكون الثاني: تطوير الأدوات التي تغطي المعايير وأسس تقييم الأداء والمسميات، وتجعل هذه الأدوات من السهل على المشاركين في السوق المالية مواءمة استراتيجياتهم الاستثمارية مع أهداف الاتحاد الأوروبي المناخية والبيئية.

- المكون الثالث: تصنيف التمويل المستدام للاتحاد الأوروبي، والذي يهدف إلى توفير "نظام تصنيف قوي قائم على العلم، مما يسمح للشركات غير المالية والمالية باستخدام تعريف مشترك للاستدامة وبالتالي توفير الحماية ضد التمويه الأخضر". ويهدف أيضاً إلى مساعدة المستثمرين والشركات على التخطيط والإبلاغ عن تحولهم نحو الاستدامة. 

ويحدد تصنيف الاتحاد الأوروبي ستة أهداف بيئية رئيسية، وينطوي كل هدف على مجموعة من الأنشطة والمعايير الاقتصادية التي تهدف إلى ضمان أن يسهم النشاط بشكلٍ كبير في تحقيق الهدف دون الإضرار بالأهداف الأخرى، ويمثل الاقتصاد الدائري جزءاً لا يتجزأ من تصنيف الاتحاد الأوروبي في شكلين رئيسيين. أولاً، كأحد الأهداف البيئية الستة الرئيسية، وثانياً، يتم تحديد المعايير التي تضمن أن أنشطة الاقتصاد الدائري "لا تسبب ضرراً كبيراً" للأهداف الخمسة الأخرى وتتوافق مع الحد الأدنى من الضمانات الاجتماعية.

ويُعد تصنيف الاتحاد الأوروبي هو المبادرة الوحيدة حتى الآن التي تتضمن بشكل صريح الاقتصاد الدائري، على الرغم من إعلان كلٍ من جنوب إفريقيا والمملكة المتحدة أن التدوير سيكون هدفاً أساسياً لتصنيفاتهما التي ما زالت تحت التطوير. ووفقاً للتصنيف، يعني "الاقتصاد الدائري" نظاماً اقتصادياً يتم بموجبه الحفاظ على قيمة المنتجات والمواد والموارد الأخرى في الاقتصاد لأطول فترة ممكن، مما يعزز استخدامها بكفاءة في الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي تقليل التأثير البيئي لاستخدامها، وتقليل النفايات وإطلاق المواد الخطرة في جميع مراحل دورة حياتها، وذلك من خلال تطبيق التسلسل الهرمي للنفايات، ويتم تحديد المساهمة الكبيرة في التحول الاقتصادي الدائري من خلال الجمع بين الطموح الرئيسي لهدف الاقتصاد الدائري ومعايير الفحص الفني المحددة لكل نشاط اقتصادي.

دمج الاقتصاد الدائري:

يستعرض الباحثون هنا سلسلة من الدروس المستفادة من سعي الاتحاد الأوروبي لدمج الاقتصاد الدائري في تصنيف التمويل المستدام الخاص به، وتنقسم هذه الدروس إلى ثلاثة جوانب رئيسية وهي: 

1) بنية التصنيف: يؤدي هيكل التصنيف دوراً حاسماً في نجاحه، ونظراً للطبيعة الشاملة للاقتصاد الدائري، يظل تكامل فكرة الدائرية عبر بنية التصنيف أحد أكبر التحديات، ويُعد هدف الاقتصاد الدائري للاتحاد الأوروبي طموحاً للغاية، ويهدف إلى فصل النمو الاقتصادي عن استخراج الموارد غير المتجددة ووقف استنزاف مخزون الموارد المتجددة بحلول عام 2030. ومع ذلك، هناك تحديات إجرائية وسياسية كبيرة لتحقيق تلك الطموحات، بما في ذلك بعض التحديات المتعلقة بشكل خاص بالتحول للاقتصاد الدائري، ولعل أبرز هذه التحديات هي: عدم وجود اتفاقيات دولية بشأن الاقتصاد الدائري، والطبيعة الشاملة لهذا النوع من الاقتصاد.

2) القابلية للاستخدام: يجب أن يبقى التصنيف قابلاً للاستخدام من قبل المستخدمين المعنيين. وهناك عدد من الشروط التي يجب أن تكون موجودة لجعل التصنيف قابلاً للاستخدام في التقارير الصادرة من قِبَل الشركات والمؤسسات المالية، والمتمثلة في:

- أولاً: يجب أن يكون هناك غرض واضح وفائدة لإعداد التقارير، ومن ثم يجب وضع معايير دقيقة تجعل جمع البيانات عبر سلاسل التوريد أكثر كفاءة مما يقلل من تعدد طلبات البيانات ويوفر متطلبات الشفافية التي تمكِّن الجهات الفاعلة في الشركات من استكشاف فرص موارد جديدة.

- ثانياً: يمكن للجهات الفاعلة البدء في التخطيط لانتقال مرحلي من الإفصاح النوعي إلى الإفصاح عن التدوير الكمي، وستكون هناك حاجة إلى الإفصاحات النوعية حيث لا يمكن الكشف عن البيانات الكمية خلال مرحلة التعلم الدائري للشركات. لكن هناك حاجة إلى تدفقات المواد والأنظمة الكمية على المدى الطويل.

- ثالثاً: التشجيع على زيادة شفافية بيانات سلسلة التوريد وإمكانية التتبع يمكن أن يزيل بعض التخمينات حول ما يحدث للمنتج بعد مغادرته المصنع، ولا تزال الحلول لفهم تأثيرات المنتجات بمجرد بيعها، وكذلك مصير المواد بعد استخدامها لأول مرة، تحت الإنشاء. ويمكن لتقارير استدامة الشركات عن الاقتصاد الدائري، في كثير من الحالات، إجراء تخمينات مستنيرة حول مصير المواد بمجرد دخولها إلى السوق.

3) البيئة التمكينية: من الضروري مراعاة السياسة المالية وغير المالية والبيئة التشريعية التمكينية الأوسع. هذه البيئة ضرورية لتشجيع وتسهيل المنظمات على تبني الأنشطة التي تسهم بشكلٍ كبير في الاقتصاد الدائري، ويتطلب تحقيق الأهداف البيئية العالمية في نفس الوقت الذي يتم فيه بناء المرونة الاقتصادية انتقالاً واسع النطاق إلى اقتصاد دائري. ومع ذلك، نظراً لطبيعتها النظامية، والمرحلة المبكرة من التطوير، وقلة توافر البيانات، ومحدودية الوعي بين القطاع المالي بنماذج الأعمال الدائرية، لا يزال اعتماد الممارسات الدائرية منخفضاً.

إن التصنيفات الحالية محدودة، حيث لا تأخذ في الاعتبار بشكل متساوٍ الحاجة إلى الابتعاد عن الأنشطة الخطية الضارة بشكلٍ كبير أو الحاجة إلى تشجيع الأنشطة الانتقالية في القطاعات التي لا يمكن فيها تحقيق مساهمة كبيرة في الاقتصاد الدائري. كما لا تأخذ في الاعتبار الحاجة إلى مواصلة تمويل الأنشطة التي "لا تسبب أي ضرر" حالياً، وهي عوامل تمكين مهمة للانتقال إلى الاقتصادي الدائري.

أخيراً، لا ينبغي التقليل من تعقيد تقارير الاقتصاد الدائري، حيث تبقى مستويات النضج من حيث المقاييس والمنهجيات منخفضة، في حين أن الوصول إلى البيانات ذات الصلة المطلوبة للإبلاغ محدودة، ويمكن أن يؤدي نقص البيانات المتاحة والتكلفة المرتبطة بجمع مثل هذه البيانات إلى انخفاض مستويات الحماس والمشاركة بين الشركات.

المصدر:

Jack Barrie, Patrick Schröder and Suzannah Sherman, Making sustainable finance taxonomies work for the circular economy: Lessons from the EU Taxonomy, Environment and Society Programme, Research Paper, Chatham House, June 2023.