أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

خطاب "الشماتة":

من يقود للآخر في "حرائق" إسرائيل.. الكراهية أم المؤامرة؟

01 ديسمبر، 2016


 تبدو العلاقة الجدلية بين الشعور بالكراهية تجاه الآخر، وبين رؤيته كطرف يُجيد تدبير المؤامرات، هي أكثر العلاقات الإنسانية استقلالا عن مستوى التطور الحضاري، بما يُقلل من صحة المقدمة أو المُسلمة التي تفترض أن فعل الكراهية وسيادة التفسير عبر نظرية المؤامرة هو أمر لصيق بالمجتمعات الأقل تقدمًا فقط أو بالأفراد الأقل تعليمًا.

لقد أظهر تفاعل العرب والإسرائيليين مع ظاهرة الحرائق الضخمة التي شهدتها إسرائيل مؤخرًا مدى صحة المقولة السابقة، فالإسرائيليون (بما في ذلك بعض المسئولين الرسميين) أظهروا استعدادًا كبيرًا -بدون أي دليل- لتقبل فكرة أن الحرائق كان بعضها على الأقل مدبرًا وليس من صنع الطبيعة. فيما أظهرت بعض التعليقات العربية نوعًا من الشماتة في إسرائيل، آملةً أن تمتد الحرائق حتى تقتلع هذه الدولة "المكروهة" من جذورها.

كراهية ممتدة:

على امتداد تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، تغذت مشاعر الكراهية المتبادلة بين الطرفين من جملة من الأساطير التي تم الترويج لها إعلاميًّا، وتبنتها حكومات وجماعات ثقافية على الجانبين بلا تمييز، وأضحت إزالة هذه المشاعر أو التقليل منها أمرًا صعبًا برغم توقيع اتفاق سلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية منذ ما يقرب من أربعين عامًا. أضف لذلك، ابداء دول أخرى - عبر مبادرة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في العام 1981 عندما كان وليا للعهد - استعدادها لتقبل وجود إسرائيل والاعتراف بها وإقامة علاقات طبيعية معها في حالة انسحابها من الأراضي التي ما زالت تحتلها، وسماحها بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧.

ويمكن القول إن الكراهية المتبادلة تأسست بين الطرفين على أسس دينية وقومية ما تزال حاضرة فاعليتها في تحديد المواقف من كلا الطرفين في الأحداث الجارية أقوى من المصالح المتبادلة بينهما، الأمر الذي وضع الحكومات على الجانبين في حالة ارتباك لتفسير سياساتها أمام شعوبها حيال بعضها بعضًا.

فإسرائيل الرسمية لم تُبالغ في إبداء امتنانها من تلقي مساعدات لإطفاء الحرائق من جانب مصر والأردن وتركيا وحتى السلطة الفلسطينية خوفًا من الجماعات الكارهة للعرب والفلسطينيين، وعلى رأسهم مؤيدو الأحزاب الحريدية، وتحديدًا حزب شاس، والأحزاب القومية-الدينية. فحزب البيت اليهودي الذي يتزعمه نفتالي بينت -مثلا- اتهم الفلسطينيين مباشرة وعرب إسرائيل بأنهم ربما تعمدوا إشعال هذه الحرائق كامتداد لأساليبهم الجديدة في محاولات لتحطيم الدولة العبرية، مثل، حوادث الطعن والدهس التي ما زالت جارية حتى الآن، وإن على نطاق أضيق مقارنةً بحجمها منذ منتصف العام الماضي.

على الجانب الآخر، فإن كثافة شعور الشماتة التي تم التعبير عنها في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض محطات التلفزيون العربية، أوقعت الدول العربية التي أرسلت مساعدات لإسرائيل لإطفاء الحرائق في موقف حرج أمام شعوبها، فلم تحرص الأجهزة الرسمية على الإعلان عن تقديم هذه المساعدات علانية، متجاهلين نشر إسرائيل رسميًّا بيانات تشكر الدول التي قدمت لها العون، والتي تم وضعها على موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على شبكة الإنترنت.

علاقة سببية:

في كتابه الصادر في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بعنوان "مكان تحت الشمس" حاول بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) ، وكان في حينها في بداية رحلة صعوده في الحياة السياسية الإسرائيلية، أن يبرهن على أن كراهية العرب لإسرائيل والفكرة الصهيونية هي نسخة متطورة من العداء للسامية، والتي يعرفها بأنها العداء لليهود بسبب هويتهم وليس بسبب سلوكياتهم. وبالتالي، فإن هذه الكراهية غير مرشحة للاختفاء حتى لو انسحبت إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو، وسمحت بإقامة دولة فلسطينية إلى جوارها.

على الجانب الآخر، فإن صورة اليهود -وبالتبعية إسرائيل- في الذهنية العربية والإسلامية ارتهنت لصالح المحرمات الثلاثة الشهيرة في تاريخ تطور البشرية، فصارت إسرائيل في هذه الذهنية محرمًا دينيًّا (بفعل التفسيرات الدينية)، ومحرمًا سياسيًّا (بفعل سياسة المقاطعة وعدم الاعتراف التي انتهجتها الدول العربية حتى عام ١٩٧٧ على الأقل)، وأخيرًا محرمًا جنسيًّا (اعتبار اليهود مسئولين عن نشر الأفكار الإباحية التي تستهدف تحطيم المجتمعات من داخلها).

وبالتالي، أصبح فعل الكراهية والتشفي في كوارث إسرائيل هو "فعل أخلاقي"، وفقًا للصورة الذهنية المشار إليها، وهو أمر يصعب اقتلاعه من هذه الذهنية حتى في حالة حدوث تطور إيجابي في عملية صنع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: مَن يقود إلى الآخر.. هل مشاعر الكراهية هي التي تُنتج التفسير التآمري لسلوك الآخر، أم أن التفسير التآمري هو الذي يقود إلى نشوء مشاعر الكراهية؟. أيضًا: ما هي الشروط التي يُمكن بتحققها أن تُقلل من تمدد هذه الظاهرة الجدلية بين الكراهية ونظرية المؤامرة؟.

ليس من السهل حتى من خلال البحث التاريخي والأنثروبولوجي والسوسيولوجي حسم أيهما كان يقود للآخر في المجتمعات الإنسانية في فجر التاريخ: كراهية الآخر أم التفكير فيه كونه متآمرًا بالفطرة. فمما لا شك فيه أن الصراع على الموارد وعلى عناصر القوة في الجماعات البشرية قد ولّدت تقليديًّا تعريفات لهوية الذات والآخر سهلت من تبرير أفعال القتال والحرب بخلع الصفات الأخلاقية على الذات، ووضع نقيضها كصفات للآخر. 

ولكن نتنياهو حاول في كتابه المشار إليه وضع القضية في سياق مختلف، ورأى أن الأوروبيين كانوا وراء نشأة مشاعر الكراهية من جانب العرب لليهود وإسرائيل، فمعاناة العرب من غزوات الأوروبيين (الغزوات الصليبية) في الماضي، ووقوعها ضحية الظاهرة الاستعمارية الأوروبية في العصر الحديث، أسفر عن تركز العداء العربي على إسرائيل بعد انتهاء الظاهرة الاستعمارية، وخفوت التأثير العاطفي لميراث الحروب الصليبية على العرب والمسلمين.

 ولكن في جوهر ظاهرة الكراهية العربية لإسرائيل يلمح نتنياهو إلى وجود المكون الأوروبي (العداء لأوروبا) كمكون أصيل في هذه الظاهرة، فمن خلال هذا التفسير لا يُبرئ نتنياهو إسرائيل وسياستها تجاه الفلسطينيين من تهمة التسبب في كراهية العرب لها فقط، بل يحاول إسناد الظاهرة إلى أسباب ليست قابلة للتلاشي طالما ظل الربط في الذهنية العربية بين شعور الكراهية المضمر لأوروبا وبين وجود دولة إسرائيل ذاتها، بحيث يبدو حلم إزالة الدولة العبرية -كما يرى نتنياهو- من الوجود هو محاولة من جانب العرب للتخلص من عقدة الكراهية الكامنة تاريخيًّا تجاه الأوروبيين.

على الجانب الآخر، وبرغم أن استمرار احتلال إسرائيل لبعض الأراضي العربية، وانتهاج سياسة عنصرية معادية لحقوق الفلسطينيين، كان بوسعهما تمرير وتبرير الكراهية العربية لإسرائيل أخلاقيًّا وسياسيًّا، إلا أن أغلب الخطاب الشعبوي وجزء من خطاب النخب العربية يصر على إسناد هذه الكراهية لعناصر أبعد من عنصر استمرار الاحتلال والاضطهاد للفلسطينيين.

بمعنى أكثر وضوحًا، تتلبّس الطرفين -العربي والإسرائيلي- رغبةٌ شديدةٌ في إحياء العناصر الميتافيزيقية المتسببة في ظهور مشاعر الكراهية والشماتة المتبادلة بينهما أكثر من رغبتهما في وضع مبررات سياسية لهذه المشاعر،وهو ما توضحه ردود الفعل على ظاهرة الحرائق في إسرائيل على النحو التالي:

أولا: ردود الفعل الإسرائيلية:

أظهرت قلةٌ من النخبة الإسرائيلية اهتمامًا بتوجيه النقد للتصريحات الرسمية التي صدرت عن مسئولين على رأسهم رئيس الحكومة نتنياهو ووزير الدفاع أفيجدور ليبرمان اللذان وجها اتهامًا صريحًا لعرب ٤٨ بأنهم كانوا ضالعين في إشعال الحرائق بشكل متعمد.

فقد كتبت عميرا هس في "هآرتس" (٢٧ نوفمبر 2016) قائلة: لماذا لا نسمع عن اعتقالات جماعية لكُتاب التغريدات اليهود الذين يُطالبون بقتل العرب، ويشمتون بهم عند وقوع الكوارث، وفي المقابل نسمع عن ناشط اجتماعي في رهط ( مدينة في إسرائيل) اعتُقل لأنه استخف بمن بارك الإحراق؟ (في إشارة إلى اعتقال الشرطة الإسرائيلية لناشط سياسي عربي بسبب ترجمتها منشوراته بشكل خاطئ، لأن ما كتبه في الواقع جاء كتعليق ساخر على الذين يعتبرون الحرائق عقابًا إلهيًّا على خلفية قانون حظر الأذان في الكنيست).

إن مشاعر الكراهية العنيفة من جانب أغلب الإسرائيليين للفلسطينيين بسبب استمرار المواجهات بينهما، سهلت كثيرًا من عملية توجيه الاتهام لعرب ٤٨ بالتآمر لتخريب الدولة العبرية، وبالتالي، ظهر التفسير التآمري للحرائق كما لو كان ناتجًا عن الكراهية متجاوزًا واقع أن المستوى الثقافي والتعليمي المرتفع لأغلب الإسرائيليين لم يمنع في الواقع من انتشار التفكير عبر نظرية المؤامرة في أوساطهم.

ثانيا: ردود الفعل العربية:

لم يؤدِّ انشغال الشارع العربي بالقضايا الداخلية في بلاده وتراجع الاهتمام من جانبه بالصراع العربي-الإسرائيلي في السنوات الخمس الأخيرة التي أعقبت الثورات العربية، إلى تراجع مشاعر الكراهية تجاه إسرائيل، وأظهرت التعليقات على شبكة التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام التقليدية أن شعور الشماتة في إسرائيل كان حاضرًا بقوة.

 كما أن تفسير نشوب الحرائق امتلأ بنفس العناصر التي تأسست عليها الكراهية العربية لليهود والإسرائيليين، فقد أشارت أغلب التعليقات إلى أن ما حدث كان انتقامًا إلهيًّا من إسرائيل بسبب منعها الأذان في المساجد، أو بسبب اضطهادها الفلسطينيين.

وأشارت تعليقات أقل إلى أن الحرائق أمر دبرته إسرائيل لإخفاء نواياها في توسيع الاستيطان في الجليل بحجة إصلاح التلفيات التي ترتبت على الحرائق، الأمر الذي حدا بالكاتبة الصحفية سيمدار بيري لأن تكتب في "يديعوت أحرونوت" (٢٧ نوفمبر 2016) راصدةً ما لاحظته من تعاطف رسمي من بعض الحكومات العربية مع إسرائيل، وكراهية وشماتة من جانب أغلب المعلقين في وسائل التواصل الاجتماعي العربية، قائلة: هذه الحالة تبرز الفجوة الهائلة بين الحكم والشارع هناك. نظرية المؤامرة، التي يحبها العالم العربي، خلقت منذ الآن شائعات عن عمق التزام الحكام العرب وحجم دينهم لإسرائيل.

دلالة ختامية:

لم تُفاجِئ مشاعرُ الشماتة العربية في ظاهرة الحرائق في إسرائيل أحدًا، لا في العالم العربي ولا في الدولة العبرية، كما لم تفاجئ التفسيرات التآمرية للأحداث أحدًا على الجانبين أيضًا، بما يؤكد أن العناصر التي تتسبب في ظهور مشاعر الكراهية والشماتة المتبادلة بين العرب والإسرائيليين، وكذلك احتلال نظرية المؤامرة مكانة بارزة في تفسيرات الحرائق وكيفية اندلاعها، أمر يستند إلى ما هو أبعد من مجرد الخلافات السياسية حول كيفية معالجة القضية الفلسطينية، وقد يُفيد السلام إذا ما تحقق لاحقًا في تقليل قوة هذه الظاهرة، ولكنه بكل تأكيد لن يقضي عليها نهائيًّا.