أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

رسائل "الردع" الروسي بعد الانسحاب من معاهدات ضبط التسلح

20 نوفمبر، 2023


وقّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في 2 نوفمبر 2023، قانوناً بإلغاء مصادقة بلاده على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وهي المعاهدة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1996 بهدف منع كل التجارب النووية، بيد أنها لم تدخل حيز التنفيذ بسبب عدم انضمام عدد من الدول النووية الرئيسية إليها، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين، بجانب كل من الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية كدول نووية غير معترف بها. 

وفي 7 نوفمبر الجاري، أعلنت موسكو، في بيان صادر عن وزارة الخارجية الروسية، أنها انسحبت نهائياً ورسمياً من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، المبرمة عام 1990. ووفقاً للبيان، "أصبحت المعاهدة الآن من التاريخ.. وأنها أُبرمت في نهاية الحرب الباردة عندما بدأ تشكيل هيكل جديد للأمن العالمي الأوروبي على أساس أن التعاون ممكن". وأضاف البيان أنه لم يعد من الممكن حالياً إبرام اتفاقيات مع دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" في مجال الحد من التسلح، وأن روسيا تُودع معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا "دون ندم"، وأنها "أصبحت ضرباً من الماضي بعد تدهور الوضع في أوروبا، على خلفية ممارسات الغرب".

انتقادات غربية:

واجه قرار روسيا بالانسحاب من المعاهدتين المُشار إليهما، انتقادات أمريكية وأوروبية. فقد أعرب جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، في 2 نوفمبر الجاري، عن "أسفه العميق" إزاء قرار روسيا بإلغاء مصادقتها على معاهدة حظر التجارب النووية، مشيراً إلى أنها أداة ذات أهمية شديدة لنزع السلاح النووي والحد من انتشاره. ونقلاً عن "وكالة الأنباء الفرنسية"، أعلنت باريس أنها تستنكر قرار روسيا، الذي "يقوض جهود جعل المعاهدة عالمية". 

كذلك انتقد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، تلك الخطوة الروسية، قائلاً: "هذا استمرار لجهود موسكو المزعجة والمضللة لزيادة المخاطر النووية وزيادة التوترات في الوقت الذي تواصل فيه حربها غير الشرعية ضد أوكرانيا.. يقول المسؤولون الروس إن تحرك بلادهم المخطط له لسحب مصادقتها لا يعني أنها ستستأنف التجارب، ونحن نحث موسكو على الالتزام بهذه التصريحات". من جانبها، دعت أمانة منظمة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، روسيا إلى مواصلة التزامها بالمعاهدة، بما يشمل تشغيل محطات المراقبة القادرة على اكتشاف أدنى انفجار في الوقت المناسب". ومن المعلوم أن روسيا تستضيف 30 محطة من مجموع أكثر من 300 لرصد الزلازل وغيرها من العناصر التي تشكل شبكة التحقق العالمية في إطار المعاهدة.

وفي بيان مقتضب يوم 7 نوفمبر الجاري، ندد حلف "الناتو" بقرار موسكو الانسحاب من معاهدة القوات المسلحة التقليدية، قائلاً إنه "يقوض الأمن الأوروبي الأطلسي"، ومن ثم قررت دول الحلف تعليق جميع التزاماتها بموجب المعاهدة. وفي بيان صادر عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، في نفس اليوم، ذكر أن "الولايات المتحدة تنضم بالكامل إلى هذا القرار وتؤيده"، مضيفاً أن هذه الخطوة تتوافق "مع حقوقنا بموجب القانون الدولي كرد على التغيير الأساسي في الظروف الناجمة عن انسحاب روسيا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، ومواصلة حربها العدوانية واسعة النطاق على أوكرانيا"، على حد وصفه. وأضاف البيان أن انسحاب موسكو يؤشر على جهد إضافي من جانبها لتقويض عقود من التقدم المحرز نحو بناء الشفافية والمقاربات التعاونية للأمن في أوروبا. وختم بأن "الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو سيبقون ملتزمين بالحد من الأسلحة التقليدية كعنصر حاسم في الأمن الأوروبي الأطلسي، وستواصل اتخاذ التدابير مع الشركاء المسؤولين الذين يهدفون إلى تعزيز الاستقرار والأمن في أوروبا والحد من المخاطر ومنع المفاهيم الخاطئة وتجنب الصراعات وبناء الثقة".

رسائل متعددة:

يأتي انسحاب روسيا من المعاهدتين على خلفية الحرب في أوكرانيا، وما بدا واضحاً لموسكو من تصميم غربي بقيادة واشنطن على المُضي قدماً في دعم كييف عسكرياً ومالياً في هذه الحرب بهدف استنزاف القدرات العسكرية الروسية، على أمل حدوث نوع من التحول في العمليات العسكرية الجارية قد يجبر روسيا على طلب التفاوض. من ناحية أخرى، تخلق الانسحابات المتتالية لموسكو من المعاهدات والآليات التي تنظم الرقابة على التسلح، وضعاً جديداً في أوروبا والعالم؛ لأنها تقطع كل قنوات الاتصال والحوار وتطلق أيدي الأطراف المعنية للقيام بأنشطة عسكرية دون رقابة.

وفي هذا السياق، ينطوي انسحاب روسيا من المعاهدتين على عدد من الرسائل، لعل أبرزها ما يلي: 

1- تمسك روسيا بموقفها ورؤيتها للحرب في أوكرانيا من الجوانب التالية:

أ- اعتبار أن الأزمة الحالية بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها تتعلق أساساً ببنية الأمن الأوروبي وليس بأوكرانيا. فهدف موسكو هنا هو استبدال النظام الأمني ما بعد الحرب الباردة، الذي تهيمن عليه واشنطن ويُدار من قِبل حلف "الناتو"، بنظام آخر تكون فيه روسيا شريكاً رئيسياً على قدم المساواة وتنظمه اتفاقيات يلتزم بها الجميع. ويُلاحظ هنا تبرير روسيا سحب تصديقها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بـــ"استعادة التكافؤ الاستراتيجي" مع الولايات المتحدة، التي لم تصدق على المعاهدة. وهذه الخطوة قد تقود إلى اشتداد سباق التسلح، بالرغم من أن روسيا لم تقم بإجراء مثل تلك التجارب منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، إذ كان آخرها عام 1990، وعام 1992 بالنسبة للولايات المتحدة.

ب- تأكيد أن روسيا ما تزال تمتلك أوراقاً ذات طابع استراتيجي عالمي لا يمكن تجاهلها. ففي 5 أكتوبر الماضي، قال الرئيس بوتين، خلال لقاء له في "نادي فالداي للنقاش" في سوتشي، إنه غير مستعد للكشف عمّا إذا كانت بلاده ستستأنف التجارب النووية. وأثار هذا التصريح مخاوف الغرب، خاصة في ضوء نشر روسيا أسلحة نووية تكتيكية في أراضي حليفتها بيلاروسيا قبل أشهر. وكان لافتاً في هذا السياق تأكيد سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي للأمن الدولي، في 25 أكتوبر الماضي، أن بلاده لن تتحدث عن الحد من الأسلحة النووية إلا عندما تتوقف واشنطن، الداعم العسكري والمالي لأوكرانيا، عن "عدائها" لموسكو. وفي نفس اليوم الذي وافق فيه مجلس الاتحاد على سحب التصديق على المعاهدة (25 أكتوبر)، أعلنت موسكو، على لسان وزير الدفاع، سيرغي شويغو، عن إجراء تجارب إطلاق صواريخ بالستية بهدف إعداد قواتها لـــ"ضربة نووية هائلة من قِبل القوات الهجومية الاستراتيجية، رداً على ضربة نووية عدائية مماثلة".

وأشرف بوتين على المناورات التي تخللها إطلاق صاروخ بالستي عابر للقارات من طراز "يارس" من قاعدة بليسيتك الفضائية في شمال روسيا، وصاروخ بالستي آخر من طراز "سينيفا" من غواصة في بحر بارنتس. كما أطلقت قاذفات استراتيجية من طراز "تو – 95 أم أس" البعيدة المدى وصواريخ "كروز" ذات مدى أقصر، والتي تُستخدم أحياناً في ضربات بأوكرانيا. وبث التلفزيون الروسي مقطعاً قصيراً يُظهر بوتين وهو يستمع إلى تقرير شويغو ورئيس الأركان، فاليري غيراسيموف، بعد هذه المناورات. وكان بوتين قد صرح، في 21 سبتمبر الماضي، بأن استعمال أسلحة نووية تكتيكية أمر مطروح على طاولة خططه العسكرية، لكنه ربط ذلك بتعرض بلاده لخطر وجودي. 

وربما حققت روسيا نجاحاً كبيراً في تقييد الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، من خلال استخدام لغة التهديد حول الاستخدام المُحتمل للأسلحة النووية. فقد برر القادة الغربيون الإحجام عن تقديم المساعدة العسكرية الأساسية لأوكرانيا، بالإشارة إلى السرديات الروسية عن التصعيد الذي لا يمكن السيطرة عليه. وبالتالي فإن "حملة الترهيب النووي" التي تشنها موسكو منذ فترة طويلة، تحقق نتائج من جانب ردع الردود الغربية على الممارسات الروسية، وحماية موسكو من عواقب أفعالها في أوكرانيا، وأن "أحد النجاحات الروسية الرئيسية في هذا الشأن هو استبدال تجنب التصعيد بإدارة التصعيد كأولوية في التفكير الغربي".

2- رفض روسيا الهيمنة السياسية والعسكرية الأمريكية في أوروبا منذ انتهاء الحرب الباردة، عندما أطلقت عملية توسيع "الناتو" شرقاً. في هذا السياق، رأت موسكو أن توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي ليشمل كلاً من فنلندا والسويد هو نوع من "التحايل العلني" على القيود التي تفرضها معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا على الحلف، وبالتالي أدى انضمام البلدين إليه إلى "موت" المعاهدة، والتي أصبح الحفاظ الرسمي عليها غير مقبول من وجهة نظر المصالح الأمنية الأساسية لروسيا.

وفضلاً عن ذلك، من المهم الإشارة إلى أنه بسبب عدم تصديق الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين على تلك المعاهدة بعد إدخال تعديلات عليها عام 1999، لم تحظ بأي شعبية في موسكو، وهو ما دعاها إلى تعليق مشاركتها في المعاهدة عام 2007، وأوقفت مشاركتها الفعالة فيها عام 2015. وقد نُظر إلى المعاهدة دائماً على أنها أُبرمت في فترة الفوضى والضعف التي مرت بها روسيا في عقد التسعينيات من القرن الماضي إبان حكم بوريس يلتسين، ومن ثم انطوت على إجحاف بحقوق موسكو وتجاهل لهواجسها الأمنية والاستراتيجية.

3- استمرار انفتاح موسكو على إمكانية التوصل إلى تفاهمات مع واشنطن حول ضبط التسلح والاستقرار الاستراتيجي. فقد أبقت روسيا الباب مفتوحاً أمام إمكانية التفاهم مع الولايات المتحدة على تدابير غير رسمية، بعد انهيار الاتفاقيات، للحد من المخاطر على الاستقرار الاستراتيجي الذي ظل دائماً الهدف الرئيسي للجهود الأمريكية الروسية لضبط التسلح. وفي هذا الصدد، رحبت موسكو، على لسان ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، في 5 يونيو الماضي، باقتراح مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، بالدخول في حوار ثنائي بشأن الحد من المخاطر النووية وضبط التسلح "دون شروط مسبقة"، وشدد على أنه "بدلاً من انتظار حل جميع خلافاتنا الثنائية، فإن الولايات المتحدة مستعدة لإشراك روسيا حالياً لإدارة المخاطر النووية وتطوير إطار لضبط التسلح لما بعد عام 2026". ووصف بيسكوف هذه التصريحات بأنها "مهمة وإيجابية".

علاوة على ما تقدم، ما زالت مقاربة بوتين لمسألة الاستخدام المُحتمل للسلاح النووي محسوبة وحذرة. فكما كان الحال في فبراير الماضي عندما أعلن أنه "مضطر" لتعليق انخراط روسيا في الأنشطة المرتبطة بمعاهدة "نيو ستارت"، وأن الأمر يتعلق بتعليق المشاركة وليس الانسحاب منها، أكد الرئيس الروسي أن إلغاء التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية لا يعني خروج بلاده منها. وفي هذا السياق، أكد سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن بلاده لن تستأنف التجارب النووية إلا إذا قامت واشنطن بذلك. كما نقلت وكالة "تاس" الروسية الحكومية عن فلاديمير يرماكوف، مدير إدارة منع الانتشار والحد من التسلح بوزارة الخارجية، قوله: "إن سحب التصديق لا يقوض بأي حال من الأحوال نهجنا البناء تجاه معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ولا يعني أن بلادنا تعتزم استئناف التجارب النووية". وأكد مجدداً أن موقف روسيا بشأن استئناف تجارب التفجيرات النووية قد تم تحديده في فبراير عندما قال بوتين إن روسيا لن تجري تجربة إلا إذا قامت الولايات المتحدة بذلك أولاً. 

ترتيبات نووية:

يعكس إلغاء تصديق روسيا على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وانسحابها النهائي من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، وقبل ذلك تعليق مشاركتها في معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (نيو ستارت)؛ مدى تدهور البيئة الجيوسياسية وحالة العداء الواضح التي تتسم بها علاقات موسكو مع القوى الغربية على مختلف الأصعدة، وهو ما يستوجب – من المنظور الروسي- اللجوء إلى الأدوات المتاحة كافة لمواجهة الغرب في صراع تعده موسكو وجودياً وطويل الأمد. وهنا يؤكد الخبراء الغربيون أن "الورقة النووية" تُلعب بشكل روتيني في المفاهيم الروسية لإدارة الأزمات والحروب والعلاقات الدولية على نطاق أوسع، كما يظل التقدير الغربي أنه وإن كان الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية من قِبل موسكو ليس مستحيلاً، فإنه غير مرجح بدرجة كبيرة؛ بسبب العديد من العقبات النظامية والعملية، وأنه بغض النظر عن الاستجابات الغربية، فإن العواقب العالمية المترتبة على كسر المحرمات النووية ستكون شديدة بالنسبة لروسيا. 

كما يُسلم عدد من الكتّاب الغربيين بواقع أنه من الصعب فرض قيود ثنائية جديدة للحد من الأسلحة النووية مع روسيا ما دامت الحرب في أوكرانيا مستمرة. ويضيف هؤلاء أنه يمكن للولايات المتحدة، مع ذلك، أن تسعى إلى التوصل إلى اتفاق تنفيذي أو ترتيب متبادل يتم التحقق منه بوسائل استخباراتية تقنية تلزم روسيا والولايات المتحدة باحترام الحدود الأساسية لمعاهدة "ستارت الجديدة" بشأن الترسانات الاستراتيجية، وذلك إلى أن يتم التوصل إلى ترتيبات أكثر ديمومة وشمولاً للحد من الأسلحة النووية. كما يتعين على واشنطن، بدلاً من التهديد باتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى التعجيل بالمنافسة النووية الخطرة، أن تمارس ضبط النفس النووي بحكمة، وأن تسعى بقوة إلى دبلوماسية فعالة لضبط التسلح ونزع السلاح مع روسيا والصين وغيرها من الدول النووية داخل وخارج معاهدة حظر الانتشار النووي.