أخبار المركز
  • شريف هريدي يكتب: (الرد المنضبط: حسابات الهجمات الإيرانية "المباشرة" على إسرائيل)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (عام على حرب السودان.. ترابط المسارين الإنساني والسياسي)
  • د. أحمد أمل يكتب: (إرث فاغنر: هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟)
  • عادل علي يكتب: (موازنة الصين: دوافع تزايد الانتشار الخارجي للقوة البحرية الهندية)
  • إبراهيم فوزي يكتب: (معاقبة أردوغان: لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية التركية 2024؟)

اقتصاديات العنف:

مدخل اقتصادي لتفسير التطرف الديني

24 يوليو، 2015


إعداد: ناهد شعلان


 تزايد الحديث في السنوات الأخيرة عن العنف الديني مع انتشار الجماعات المتطرفة مثل "داعش" و"بوكو حرام" و"حركة الشباب"، ووقوع عدد من الهجمات الإرهابية في مدن مثل باريس وكوبنهاجن وسيدني، أدت جميعها إلى إثارة الرعب في المجتمعات الغربية.

هذه الموجة الأعنف من التطرف تُخفي وراءها العديد من المشكلات الجذرية الأخرى؛ ففي مختلف أنحاء العالم توجد مشاحنات اجتماعية ذات بُعد ديني، فحوالي 25% من دول العالم تعاني من مشكلات دينية مستعصية، وبالتالي يتجه العالم من جديد نحو ما أسماه البعض "إحياء الدين"، وهو ما يتناقض مع توقعات وفرضيات النظرية العلمانية.

في هذا السياق، تأتي الدراسة التي قدمها "توماس ستروبهار" Thomas Straubhaar، أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة هامبورج، تحت عنوان: "التحليل الاقتصادي للدين ولظاهرة العنف الديني". وتعتمد الدراسة على المدخل الاقتصادي لتحليل نشاطات الكيانات الدينية، حيث ينطلق الباحث من فرضية مفادها أنه إذا استطعنا فهم السبب وراء تزايد النشاطات الدينية، فإنه يمكن الوصول إلى الحلول التي يمكن تطبيقها للحد من ظاهرة العنف الديني. وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، أولها يدور حول تكذيب النظريات العلمانية، والثاني يتناول اقتصاديات الدين، فيما يشرح الجزء الأخير اقتصاديات العنف الديني.

عدم صحة الفرضيات العلمانية

يشير الباحث إلى أن ثمة مبدأين أساسيين حكما السياسات الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أولهما أن دول الجنوب الفقيرة ستلحق اقتصادياً بركاب دول الشمال الغنية والمتقدمة. وثانيهما أنه كان يتوقع مع ارتفاع مستوى المعيشة اتجاه المجتمعات تلقائياً إلى العلمانية، على اعتبار أن تحسن المستوى الاقتصادي سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التعليم والمعرفة لدى الأفراد بالعلوم الطبيعية، ومن ثم يتشككوا في قواعد الإيمان ويصبحوا أقل تديناً.

ولكن أياً من هذه الفرضيات لم ثبت صحته، فعلى النقيض اتسعت الفجوة بين الشمال والجنوب، والدول الغنية والفقيرة. ولم يختفِ الدين، بل يبدو أن العالم اتجه إلى التخلص من العلمانية. ويشير الكاتب إلى أن هناك العديد من الأمثلة في أنحاء العالم التي تدل على أن الدين مازال يلعب دوراً محورياً في الحياة السياسية والإثنية والثقافية والاجتماعية، مثل التعصب للمذهب الكاثوليكي في أمريكا اللاتينية، وعودة الكنيسة الإنجيلية في الولايات المتحدة، وظهور التيارات الدينية في أوروبا، والإسلام الأصولي في الشرق الأوسط وأفريقيا، بل وامتدادة إلى المسلمين في المجتمعات الأوروبية.

اقتصاديات الدين

تشير الدراسة إلى أن الكيانات الدينية تتصرف مثل النوادي، حيث تلتزم بتقديم بعض المنافع لأعضائها مثل التعليم الديني والخدمات الاجتماعية والاقتصادية مقابل التزام الأفراد بالمنهج والقواعد العامة لهذه الكيانات، ودفع ثمن مقابل عضويتهم.

وهناك العديد من الأسباب التي تدفع الأفراد للانضمام إلى الكيانات الدينية، فبينما يعد الهدف بالنسبة للبعض روحانياً ودينياً بالأساس، فإن البعض الآخر يسعى إلى تحقيق بعض المكاسب الدنيوية. ويبدو ذلك واضحاً بالنسبة لقادة هذه الكيانات أو الممثلين الرسميين للكنائس، فهم يكتسبون المزيد من القوة والسلطة والمكانة الاجتماعية لهذا السبب. أما بالنسبة للأعضاء فقد يحصلون على مزايا مثل الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية التي قد لا يحصل عليها سوى أعضاء تلك الكيانات. وقد تتعارض مصالح الأعضاء مع مصالح قادة الكيانات الدينية، حيث يسعى كل منهم إلى أن يكون العضو الأكثر تأثيراً، فبينما يفضل الأعضاء الكيانات الصغيرة التي تضمن لهم مكانة ووزناً مهماً نسبياً، يهدف القادة دائماً إلى توسيع الكيانات، مما يُقلل من قيمة الفرد العضو ويُعظم من مكانة القائد.

وباتباع النهج الاقتصادي، يمكن تحليل أثر بعض التغيرات الحديثة مثل العولمة والتكنولوجيا الرقمية على سلوك أعضاء وقادة الكيانات الدينية، كما يلي:

ـ قللت العولمة والتكنولوجيا الرقمية (الإنترنت) من تكلفة نقل الأفكار من مكان إلى آخر، وبالتالي أصبح لدى الأشخاص القدرة على الاختيار بين مجموعات متنوعة من الكيانات الدينية religious entities، ومن ثم أصبح من العسير على النوادي الدينية religious clubs جذب أعضاء جدد؛ فالأشخاص أصبحوا أقل رغبة في الوثوق في قادة تلك الكيانات، خاصةً إذا كانوا يعملون على تحقيق مصلحتهم الخاصة. وأصبح أعضاء النادي الديني أقل اعتماداً على المعلومات التي يقدمها لهم قادة تلك الكيانات خاصةً مع تحسن مستوى التعليم.

ـ زادت العولمة من معدل انتقال الأفراد واستقلاليتهم، ونتيجة لذلك باتت النوادي الدينية تحارب من أجل البقاء على أعضائها.

ـ سهلت العولمة من عملية التمدد الجغرافي للكيانات الدينية، وقللت من تكلفة التسويق والإعلان عن الخدمات التي تقدمها، مما مكنهم من البحث والحصول على أعضاء جدد، وترتب على ذلك زيادة حدة المنافسة والتوتر والعنف بين النوادي الدينية.

ـ تمكن قادة النوادي الدينية بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة من التواصل مع الأعضاء بشكل أسهل وبكثافة أكثر، وجذبوا أعضاء جدداً، وأحكموا السيطرة على الأعضاء المنتمين للنادي الديني، فأصبح بإمكانهم مكافئة أو معاقبة أي عضو خرج عن قانون الكيان ونشر الخبر سريعاً بين الأعضاء.

ـ بعيداً عن استراتيجية القادة الدينيين، فالعولمة والتكنولوجيا الرقمية لها تأثير على الأعضاء المحتملين للانضمام إلى النوادي الدينية، خاصةً فئة الشباب الذين يعيشون في مناطق فقيرة ونامية، ويعتبرون أنفسهم الخاسرين في نظام العولمة بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا.

اقتصاديات العنف الديني

أظهرت التجارب أن العوامل الاقتصادية مثل الفقر وتدني مستوى التعليم، ليست قادرة على تفسير لماذا قد يتجة الفرد إلى العنف؟ وبالتالي بدلاً من أن يُنظر إلى العنف الديني على أنه نتاج مباشر للفقر والجهل يجب النظر إليه باعتباره نتاج غير مباشر للظروف السياسية والشعور الدائم بالذل والإحباط. فالحرمان النسبي والتطلعات غير المتحققة وضعف الحراك الاجتماعي وقلة الدخل والفقر، كلها شروط مسبقة للعنف تدفع الأفراد نحو تصحيح ذلك الوضع الاقتصادي غير العادل. ولكن تبقى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحدها غير كافية لتفسير عملية التعبئة نحو مزيد من العنف التي ظهرت لاحقاً، فوفقاً للدراسة فإن النمو الاقتصادي قد يدفع المجتمعات نحو مزيد من الرغبة في إعادة إحياء الدين.

وطبقاً لمصطلح النوادي الدينية، فإن ازدياد معدل العنف الديني هو نتيجة لاشتداد المنافسة بين مختلف الجماعات الدينية، والتي تجعلها في صراع دائم من أجل إبراز صورتها وجعل خدماتها أكثر جذباً للأعضاء لتحفيزهم على القيام بأعمال استثنائية.

وتختلف قوة التنظيم وقدرته على تعبئة الأفراد من جماعة إلى أخرى، وتعتبر الجماعات الأكثر نجاحاً هي تلك التي تقدم أيديولوجية متعصبة، وفكر أصولي، وتُعلي من قيمة الوحدة في مختلف نواحي الحياة بين أعضاؤها مقارنةً بالجماعات الدينية الأكثر ليبرالية.

وقد تصبح النوادي الدينية أكثر نجاحاً إذا قامت بتقديم فرص لأعضائها للتدرج في الهيراركية الداخلية للجماعة والحصول على وضع وقيمة مميزة، خاصةً للأفراد الذين يفتقرون إلى ذلك في الدوائر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وبتجميع كل الدلائل التجريبية، يصل الكاتب إلى مجموعة من الرؤى حول أسباب تنامي التوتر والعنف الديني في السنوات الأخيرة، وهي كما يلي:

1 ـ إن قادة الجماعات الدينية يستفيدون من الوضع الناتج عن العولمة حيث اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ليكتسبوا مزيداً من القوة والسلطة باستخدام الطرق الأكثر عنفاً وحدة، وذلك بأن يجعلوا الخدمات التي يقدمونها أكثر جذباً، خاصةً بالنسبة للأفراد الذين يعانون من تدني المستوى الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والقهر السياسي.

2 ـ أدت التكنولوجيا الرقمية إلى انتشار المعلومات سريعاً، فبات الشباب في المناطق النامية والفقيرة يعرفون أن ظروف المعيشة أفضل بكثير في مناطق أخرى مثل أوروبا والولايات المتحدة. وبغض النظر عن رغبتهم في تصحيح الأوضاع، فإن الشعور بالإحباط وعدم العدالة يشجعهم على المشاركة في أعمال العنف.

3 ـ إن وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي مكَّنت الجماعات الدينية من الحصول على الاهتمام الذي ترغب فيه من خلال تغطية كافة أخبارها، فأصبح الاهتمام العام مقياساً لمدى نجاح وقوة وسيطرة تلك الجماعات. وتستخدم مثل هذه الجماعات اللغة التي يفهمها الشباب بدلاً من الخطابات التقليدية، فتقوم ببث مجموعة من الفيديوهات مثل تلك التي ينشرها تنظيم "داعش"، مستخدمةً أحدث تقنيات التصوير لجذب انتباه الشباب.

الخلاصة، إن العنف الديني ظاهرة شديدة التعقيد، وثمة العديد من العوامل التي تساعد على تفاقم هذه الظاهرة، فقد يكون الشعور العام بالإحباط والحرمان النسبي والحقد أحد أسباب العنف الديني، ولكن حتى يتحول ذلك الوضع إلى شرط لتحقيق العنف يجب أن يكون هناك قادة لجماعات دينية قادرين على تنظيم وتعبئة الأفراد للقيام بأعمال عنف، وتختلف تلك القدرات من جماعة دينية إلى أخرى.

كذلك، قد يكون العنف نتيجة للصراع بين مختلف الجماعات الدينية للحصول على المزيد من القوة والسلطة، لذلك فإن أي استراتيجية لمواجهة العنف الديني يجب أن تقدم منافع أعظم للقادة الدينيين في حال تخليهم عن العنف، مع العمل على زيادة تكلفة استخدام العنف، ويكون ذلك عن طريق العديد من الوسائل مثل حرمان تلك الجماعات من مصادر التمويل، واعتبار أي من أعمالها بمثابة جرائم حرب. أما بالنسبة للأعضاء، فيجب توفير وتقوية البدائل غير العنيفة التي تتيح نفس الخدمات للأفراد حتى تصبح الجماعات الدينية أقل جذباً.


* عرض مُوجز لدراسة: "التحليل الاقتصادي للدين وظاهرة العنف الديني"، والمنشورة في يونيو 2015 عن "أكاديمية الأطلسي"، وهي مؤسسة بحثية أنشئت عام 2007 ومُكرسة لمواجهة التحديات طويلة الأمد التي تواجه أوروبا وأمريكا الشمالية.

المصدر:

Thomas Straubhaar, An Economic analysis of Religion and Religious Violence (Transatlantic Academy, June 2015).