أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

أيهما أفضل للمصالح العربية.. هاريس أم ترامب؟

25 سبتمبر، 2024


منذ بدأ وعيي السياسي يتشكل، وبالذات بعد تخصصي طالباً جامعياً في العلوم السياسية؛ أي منذ قرابة ثُلثي القرن، أذكر أن السؤال المتعلق بأي المرشحَين الرئيسيين لانتخابات الرئاسة الأمريكية أفضل للمصالح العربية كان حاضراً في كل انتخابات رئاسية. وليس هذا في حد ذاته بغريب، فالولايات المتحدة هي الدولة الأقوى في العالم منذ نشأة إسرائيل وحتى الآن من جانب، وهي الداعم الأساسي لها منذ تلك النشأة من جانب آخر؛ ومن ثم فإن وجود رئيس شديد الانحياز لها أو أقل انحيازاً يمكن أن يكون له مردوده على المصالح العربية وبالذات في القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن هذه القضية ليست الوحيدة المهمة في العلاقات العربية الأمريكية؛ فإن باقي قضاياها كالتبادل التجاري والثقافي ونمط التنمية وغيرها، لا تنطوي على نفس الاستقطاب الذي يسود عادةً المواقف من القضية الفلسطينية؛ ولذلك تكون لها الصدارة دائماً في الهواجس المتعلقة بسؤال الأفضلية بين المرشحين الرئاسيين الأمريكيين. 

ويحاول هذا المقال تقديم إجابة موضوعية بالقدر الذي تسمح به إمكانية الحياد في التحليل السياسي، وأقدم في هذا الصدد ملاحظتين؛ تتعلق أولاهما بدروس الخبرة الماضية فيما يتعلق بالتباين المُحتمل بين مواقف الرؤساء الأمريكيين تجاه إسرائيل وفق انتمائهم الحزبي. أما الثانية فتشير إلى خصوصية السباق الانتخابي الحالي الذي قارب الوصول إلى نهايته؛ بحيث يمكن من خلال هاتين الملاحظتين التوصل لخلاصة تحليلية في ختام مقال الرأي.

دروس الخبرة الماضية:

من المنظور التاريخي، من المؤكد أن الانحياز الأمريكي لإسرائيل ليس قضية حزبية؛ أي أنه قائم بغض النظر عن الانتماء الحزبي للرؤساء الأمريكيين، وحتى الذين يدفعون أحياناً بأن الرؤساء الجمهوريين عامةً هم الأكثر انحيازاً لإسرائيل سوف يصطدمون بأن الاستثناء الوحيد تاريخياً من الدعم القوي لتل أبيب جاء من الرئيس الجمهوري الأسبق دوايت أيزنهاور، الذي شغل منصب الرئيس الـ34 للولايات المتحدة من عام 1953 حتى 1961، حين أصر في فترة ولايته على انسحاب إسرائيل من سيناء وغزة بعد أن مُني العدوان الثلاثي على مصر بالتواطؤ مع بريطانيا وفرنسا، بالفشل. 

وثمة مواقف أخرى غير تقليدية لرؤساء أمريكيين جمهوريين مثل: حجب الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار طلبتها إسرائيل لاستيعاب هجرة اليهود السوفييت، وتصريحه حينها بأنه لن يمنح الضمانات ما لم تُجمد إسرائيل بناء المستوطنات في الأراضي التي احتلتها في حرب 1967. وكذلك مثل خارطة الطريق التي قدمها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عام 2003، وانتهت إلى قرار مجلس الأمن 1515 الذي نص على قيام دولة فلسطينية بحلول عام 2005. وهكذا فإنه كما كانت هناك خطوات إيجابية من المنظور العربي اتخذها رؤساء ديمقراطيون مثل: جون كيندي (1961 - 1963)، وجيمي كارتر (1977 - 1981)، وباراك أوباما (2009 - 2016)؛ كان لرؤساء جمهوريين مواقفهم الإيجابية أيضاً، على نحو ما رأينا.

والمتأمل في مواقف الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين كافة، جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين، يمكن أن يتأكد بسهولة من أمرين؛ أولهما أن النموذج السائد بوضوح لا لبس فيه هو الانحياز التام لإسرائيل، ويتخذ ذلك بطبيعة الحال شكل الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري على نحو مطلق. أما ما تمت تسميته في الفقرة السابقة بالمواقف الإيجابية سواء لرؤساء ديمقراطيين أم جمهوريين، فإما أنها لم تُخْتَبَر، فقد اُغتيل كيندي قبل أن يثمر حواره مع جمال عبد الناصر بشأن الصراع العربي الإسرائيلي عن نتائج، أو أنها كانت قصيرة النفس، فقد تراجع جورج بوش الأب عن قراره بتعليق ضمانات القروض لإسرائيل في 1991 خلال العام التالي مباشرة بعد أن عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق شامير، تقليصاً محدوداً في بناء المستوطنات، أو أنها لم تُفعل كما في قرار مجلس الأمن 1515، أو تمت في الوقت الضائع كامتناع إدارتي الرئيسين كارتر وأوباما عن التصويت في نهاية ولايتيهما في مجلس الأمن على مشروعي قرارين ضد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، أو كانت بلا أنياب؛ وهو ما ينسحب على إدارة الرئيس الحالي جو بايدن التي تبنت حل الدولتين بعد تداعيات عملية "طوفان الأقصى" دون أن تبذل أي جهد فعلي لوضع هذا الحل موضع التطبيق.

الخلاصة إذن أن الخبرة الماضية تشير إلى انحياز دائم من الرؤساء الأمريكيين بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية؛ بحيث يصبح موقف الرئيس الأسبق أيزنهاور في عام 1957 "بيضة الديك"، كما أن المواقف كافة التي يمكن أن تمثل خروجاً جزئياً عن هذا الانحياز آلت إلى لا شيء كما أظهر التحليل السابق؛ ولذلك يرى كثيرون أن طرح سؤال التفضيل بين مرشحي الرئاسة الأمريكية لا جدوى من ورائه؛ لأن النتيجة واحدة من منظور المصالح العربية. غير أن البعض يرى أن ثمة مبرراً قوياً لطرح هذا السؤال في انتخابات نوفمبر المقبل تحديداً؛ لأن تحيز دونالد ترامب لإسرائيل في ولايته الأولى تجاوز حدود المألوف في السياسة الأمريكية، وهذا ينقلنا للملاحظة الثانية في المقال.

خصوصية انتخابات 2024:

إذا كان من الممكن الاتفاق على أن الفروق في سياسات الرؤساء الأمريكيين تجاه القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا تستحق الجدل الذي دار طويلاً حول أفضلية أي من المرشحين الديمقراطي والجمهوري بالنسبة للمصالح العربية؛ فإن ثمة فريقاً يرى أن هذا الجدل له مبرراته في حالة الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 5 نوفمبر 2024، وهو أن ترامب ليس أي مرشح للرئاسة، فهو الرئيس السابق الذي أقدم على سلسلة من الخطوات لمصلحة إسرائيل لم يجرؤ عليها أي رئيس أمريكي سبقه. 

فمن المعروف أن الكونغرس الأمريكي كان قد أصدر في عام 1995 "قانون سفارة القدس" الذي نص على أنه "ينبغي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، كما نص على أن السفارة الأمريكية ينبغي أن تنتقل للقدس خلال خمس سنوات، وكان بيل كلينتون هو الرئيس الأمريكي آنذاك، وخلفه كل من جورج بوش الابن وكذلك أوباما بولايتين لكل منهما، ولم يجرؤ أي من الرؤساء الثلاثة على الأخذ بهذا القانون، استمراراً للسياسة الأمريكية التي دأبت على اعتبار أن مستقبل القدس لن يكون موضوع إجراءات أُحادية الجانب، خاصةً وأن الولايات المتحدة عارضت ضم إسرائيل للقدس الشرقية بعد عدوان 1967.

بيد أن ترامب اعترف في 6 ديسمبر 2017، أي قبل مرور سنة على ولايته، بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها بحلول مايو من العام التالي، وزاد على ذلك في مارس 2019 بضم الجولان السوري المُحتل لإسرائيل، وفي نوفمبر من السنة نفسها أعلنت واشنطن أنها لم تعد تعتبر المستوطنات في الضفة الغربية مخالفة للقانون الدولي. وهكذا تنكر ترامب لسياسات الرؤساء الأمريكيين كافة منذ عدوان 1967 تجاه الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في ذلك العدوان. وفي عام 2020، توج ترامب انحيازه لإسرائيل بإعلان خطته لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي عُرفت باسم "صفقة القرن".

ويواصل ترامب في حملته الانتخابية للفوز بالرئاسة في انتخابات نوفمبر 2024، مناصرته لإسرائيل بالحديث عن ضرورة إنهاء الحرب في غزة، ولكن على النحو الذي يجعل إسرائيل تحقق أهدافها من هذه الحرب، وهو يبني جزءاً مهماً من حملته ضد منافسته كامالا هاريس على أساس أنها تكره إسرائيل، ويحذر من أن الأخيرة ستختفي في غضون سنتين لو أصبحت هاريس رئيسة، موجهاً بذلك دون أن يدري إهانة قاتلة لإسرائيل مفادها أن بقاءها يعتمد على سياسة الرئيس الأمريكي. ويستند البعض من هذه الخبرة السابقة لترامب في ولايته الأولى وتوجهاته في حملته الانتخابية الحالية، إلى أنه لا وجه للمقارنة من منظور المصالح العربية بينه وبين المرشحة الديمقراطية التي تعترف بحل الدولتين وتسعى لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، ويَعد مستشارها بمراجعة السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل؛ إذا فازت بالرئاسة ووصلت إلى البيت الأبيض. غير أن الرد على وجهة النظر هذه مستمد دون جدال من الخبرة الماضية للسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل منذ نشأتها، والتي تشير، كما رأينا، إلى أن الانحياز لها هو الأساس، وأن كل المواقف المعتدلة التي يمكن أن تُنْسَب للديمقراطيين إنما هي، كما سبقت الإشارة، إما قصيرة النفس، أو لم تأت إلا في الوقت الضائع، والأهم أنها كانت بلا أنياب؛ أي غير مصحوبة بأي أدوات لضغط حقيقي على تل أبيب يترجم المواقف المعقولة إلى حقائق على الأرض. 

وهذا ما يبدو واضحاً في الأحداث الحالية؛ إذ إن التصريحات المنسوبة للرئيس الأمريكي بايدن، ووزيري خارجيته ودفاعه وأعضاء فريقه الرئاسي، لا تُعد ولا تُحصى بشأن حل الدولتين ووقف إطلاق النار ورفض التهجير وضرورة إدخال المساعدات لغزة، دون أن ينجم عنها أي تطور إيجابي على الأرض؛ لدرجة أن البعض يتهم الإدارة الأمريكية الحالية بالتواطؤ مع إسرائيل لإعطاء الانطباع بأن الأمور تتقدم باتجاه وقف الحرب، كما بدا من التصريحات شديدة التفاؤل عن قرب التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار؛ وذلك بغرض "تخدير" الأطراف الفلسطينية والعربية لإعطاء إسرائيل الفرصة كي تتم مهمتها، وتحقق أهدافها من الحرب؛ ومن ثم يرى أصحاب وجهة النظر هذه أن وصول شخصية صريحة في مواقفها المنحازة لإسرائيل قد يكون أفضل للمصالح العربية، على أساس أن هذه المواقف قد تُحَفز الاستجابة المطلوبة للدفاع عن المصالح العربية.

الخلاصة، يوضح التحليل السابق أن السؤال الذي حاول هذا المقال الإجابة عنه يمكن أن يكون غير ذي موضوع؛ بمعنى أن الانحياز الأمريكي التام لإسرائيل حقيقة عابرة للانتماءات الحزبية والمتغيرات الشخصية الخاصة بالرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض، ولا يعني هذا غياب أي فروق بينهم. لكن هذه الفروق لم يحدث أن أفضت إلى نقلة نوعية إيجابية للمصالح العربية، وحتى عندما أحدثت هذه الفروق انتكاسات واضحة لهذه المصالح كما في ولاية ترامب؛ فإن جذور هذه الانتكاسات راسخة في الأوضاع الفلسطينية والعربية التي سمحت بذلك؛ ومن ثم من ثم فإن السؤال الأجدر بأن يُطرح ليس هو أي المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أفضل للمصالح العربية، وإنما ما الذي يتعين على العرب فعله كي يكون لهم تأثيرهم في القرارات الأمريكية المتعلقة بمصالحهم، وآفاق الحركة وأدواتها في هذا الاتجاه واسعة، خاصةً بعد التحولات التي حدثت في بعض دوائر الرأي العام الأمريكي تجاه السياسة الإسرائيلية في غزة والضفة، لكن تلك قصة أخرى.