أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

نهاية الدفاع:

كيف يمكن تحييد مصادر تهديد أمن الإقليم؟

20 سبتمبر، 2014


** افتتاحية العدد الثاني لدورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، سبتمبر 2014.

يمثل "التفكير الدفاعي" مشكلة في التعامل مع مصادر تهديد أمن الإقليم في المرحلة الحالية، خاصة أن تلك "المصادر" – سواء كانت دولاً أو تنظيمات – لم تعد ترتدع، بفعل وجود معادلات داخلية تمنعها من اتخاذ قرارات واقعية، واتباعها استراتيجيات بدائية تسيطر عليها أفكار متسلطة، يبدو معها وكأنه ليس أمامها إلا ما تقوم به، مع ميول متطرفة إلى حد "القتل" لدى بعضها، لذا فإنها تهاجم وتتقدم نحو أي متر مربع تتيح لها قدراتها الوصول إليه، مع القيام بأعمال تدميرية ضد أي طرف أو هدف طالما أتيح لها ذلك، فهناك ملامح "غابة" في الشرق الأوسط.

الواضح، أن ذلك الوضع سوف يستمر لفترة، مشكلاً ما يسمى الوضع الطبيعي الجديد (New Normal)، في الإقليم، وهو ما تدركه القيادات الرئيسية في المنطقة حالياً، على نحو ما تشير إليه تصريحات متكررة بأن هناك حالة حرب شاملة، أو أنه يجب الاستعداد للأسوأ، أو أن المنطقة تنهار، وصولاً إلى تعبير شهير وهو "أن لا أحداً بمنأى عما يدور"، لكن الوجه الآخر للوضع الطبيعي الجديد، هو أنه يجب التعايش معه، فالعمل والنمو والتحديث، والحياة عموماً، لا يجب أن تتأثر على الإطلاق، ويجب "استعادة السيطرة" إثر أي اختلال يحدث، والاعتياد على ذلك، فلم تتوقف الحياة في لبنان خلال 15 سنة من الحرب الأهلية، ولم يتوقف التطور في دول الخليج العربية على الرغم من نشوب 3 حروب طاحنة حولها، وتحاول مصر أن تتعايش مع ذلك الآن، بأن تستمر الحياة على الرغم من التفجيرات.

إن الشرق الأوسط لم يكن إقليماً مستقراً أبداً، كما هو سائد، لكن حالة عدم الاستقرار وصلت فيه حالياً إلى مستوى غير مسبوق من الخطورة، كما يوضح الملحق الثاني لهذا العدد، لكن – على سبيل التفاؤل التاريخي - لا يبدو الوضع ميؤوساً منه تماماً، فهناك أقاليم مرت بأوضاع أسوأ، وتحطمت دولها تماماً أو لحق بها دمار هائل، كغرب أوروبا وشرق آسيا ومنطقة البلقان "مرتين" وجنوب شرق آسيا، وأمريكا الوسطى، وتمكنت بعض هذه الأقاليم من تجاوز تلك الفترات بسرعة مذهلة، لأنها قامت بما يجب القيام به– ضمن سياسات أخرى– فأعلنت مواجهة "الكوابيس الإقليمية" التي تهدد أمنها بشكل مباشر، وبأساليب تتجاوز التفكير الدفاعي، وفي سبيل ذلك دفعت ثمناً، لكنها كانت قد صارحت شعوبها مقدماً بأنها قد تدفعه، على غرار عبارة تشرشل حول "الدموع والدماء"، لأن البديل أكبر من أن يحتمل.

إن الدفاع لم يكن سياسة منطقية أبداً، على الرغم من أنها تبدو واقعية ومتعقلة، ويمكن أن يؤدي الالتزام بها إلى مشاكل، يمكن توقع بعضها، ويصعب توقع البعض الآخر إلا عندما تحدث بالفعل. فواحدة من بديهيات التاريخ أن وزارات الدفاع الحالية كانت تسمى "وزارات الحرب" أو الحربية، وفي بعض الدول العربية كانت الخدمة العسكرية تسمى "الجهادية"، فهذا هو الأصل القديم، في أزمنة كانت الأمور تسمى فيها بمسمياتها الحقيقية "البيضاء والسوداء"، في ظل وجود حالتين فقط لعلاقات الدول وقتها، هما الحرب والسلام.

فيما بعد، تعقد كل شيء، وأصبح مصطلح "الصراع" هو الأساس، وليس الحرب، وتعددت عناصر القوة الشاملة متجاوزة القوة العسكرية، وبالنسبة للأخيرة، تنوعت أشكال الأسلحة واستراتيجيات استخداماتها، بين دفاع وهجوم وردع وإجبار، بل و"استعراض قوة"، ليبدأ الميل نحو "الاستخدام الفعلي" للأسلحة في التقلص، كلما زادت القوة التدميرية لها، خاصة أنها تصبح أحياناً عشوائية الأثر ومفرطة الضرر، ولم تعد الشعوب تقبل الخسائر البشرية أو مقتل المدنيين ولو كخسائر جانبية في حروب مشروعة. وأصبح الدفاع هو الاستخدام المقبول للقوة المسلحة، ولم يعد مستساغاً أن تضم حكومة "وزير حرب"، وكأن مهمته هي شن الحروب.

لكن عندما يعود من يحملون أو "يخفون" أعلاماً سوداء، ويقسمون العالم إلى "فسطاتين" أو "دارين" للإيمان والكفر، ويقتلون وفقا للهوية، بمنطق العصور الوسطى، فإن الدفاع لا يصلح كأسلوب للتفكير في استخدام القوة المسلحة وقت الضرورة، ناهيك عنه كإطار للتفكير في استخدام القوة عموماً، خاصة أن "الفاعلين الدوليين" لن يتدخلوا إلا إذا في حال المساس بثلاث مصالح حيوية لهم مرة واحدة.

لقد استقر التفكير الاستراتيجي في العالم، عبر آلاف السنين، على عدة أمور أصبحت من الأحكام الشائعة، فيما يتعلق باستخدام القوة عموماً، والقوة العسكرية تحديداً، هذه الأحكام يمكن أن توضح المقصود بأن "التفكير بطريقة دفاعية" من جانب الأطراف التي تريد استعادة الاستقرار في الإقليم، لن يؤدي إلى حل المشكلات القائمة، قبل خروجها عن نطاق السيطرة، أهمها ما يلي:

1 ـ إن ما كان يُدرس للطلبة خلال الثلاثين عاماً الماضية هو أن روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، قال إن الأمن القومي لم يعد يرتبط بالقوة العسكرية، وهذا صحيح، لكن لم يضف لذلك كلمة "وحدها"، فما هو مستقر هو أنه في الحالات التي يتعرض فيها بقاء الدولة أو مصالحها الحيوية للتهديدات والمخاطر، تكون القوة المسلحة هي الأساس في مفهوم الأمن القومي، وليس الأبعاد الأخرى غير العسكرية لمفهوم الأمن القومي فقط.

2 ـ إن السائد والصحيح حالياً هو أن القوة تعني "القدرة على التأثير في سلوك الآخرين" باستخدام عناصر القوة المختلفة، وفقاً لطبيعة السلوك المرغوب فيه، لكن ما لا يقال كثيراً هو أن التحولات الكبرى في سلوك الآخرين لا تتم إلا بالتهديد باستخدام القوة العنيفة أو استخدامها فعلياً، فمن الممكن أن يتم تفنيد فقه تنظيم "داعش" أو تشويهه إعلامياً أو قطع التمويل عنه، وقد يؤدي ذلك إلى تحجيمه، لكن داعش لن يتأثر بشكل جاد سوى بالمواجهة العنيفة، أي بالأسلحة.

3 ـ إنه لا يجب استسهال استخدام القوة العسكرية، كحقيقة مستقرة، فهي الملاذ الأخير، بعد أن تتم تجربة كل الوسائل والأساليب الأخرى، لأسباب مفهومة، تتعلق باحتمالات الخسائر الكبيرة، أو التورط في مستنقع. وحقيقة أنه يمكن بدء الحرب، إلا أنه يصعب إنهاؤها، لكن كما ذكر أحد مساعدي وزير دفاع أمريكي سابق في حديثه عن حرب تبدو معقدة "عملنا أن نوفر خياراً عسكرياً للرئيس"، خاصة إذا كان الطرف الآخر يستخدم القوة الفعلية "للردع"، كأداة رئيسية له، أو ليس لديه غيرها أصلاً.

القضية هنا هي "التفكير الدفاعي"، فهناك قناعة كاملة بأن الدفاع هو الاستخدام الشرعي العقلاني الآمن للقوة العسكرية، لكن لم تكن هناك قناعة بالقدر نفسه بأن الدفاع استراتيجية "غير مريحة" أو فعالة في حالات الحروب، فتشكيل عناصر القوة بهدف صد هجوم وعدم تمكينه من تحقيق أهدافه يتيح كل الميزات للطرف المهاجم، من حيث اختيار التوقيت ومسرح العمليات والأهداف المتصورة، وسيكون على المدافع حماية 10 نقاط، بينما قد يهاجم الآخر واحدة منها فقط بكل قوته، لتتزايد احتمالات حدوث اختراقات، وبالتالي حدث ما يلي:

1 ـ تعرض مفهوم الدفاع نفسه لمشكلة، ففي وقت من الأوقات أصبح الردع يبدو وكأنه الاستخدام الرئيسي للقوة، بدلاً عن الدفاع، في ظل قناعة بصعوبة الدفاع، واعتماد استراتيجية الرد الانتقامي، وليس الصد الميداني كأسلوب لإثناء الخصم عن الهجوم، لكن ماذا لو لم يكن الطرف المقابل يرتدع لسبب أو لآخر؟

2 ـ في ظل القناعة بأن حماية كل نطاق أو هدف محتمل من هجمات متصورة أمر غير فعّال، ظهرت نظريات الدفاع النشط أو المتحرك أو حتى "الدفاع الهجومي"، فالأكثر فعالية هو استهداف المهاجم، وفي حالات مختلفة تم تفسير الضربات المسبقة أو الهجمات الوقائية على أنها دفاع عن النفس، على الرغم من أنها كانت تمثل أحياناً هجمات عدوانية، تتجاوز أهدافها غرض إحباط عمليات محتملة، فمفهوم الدفاع الثابت أو السلبي أو "الدفاع المنتظر" قد انتهى.

في هذا الإطار، فإن الإقليم يشهد في الوقت الحالي تطورات رئيسية، تدفع في اتجاه التفكير بصورة مختلفة، أهمها تطوران استراتيجيان:

1 ـ وجود حالة حرب إقليمية "مكتملة الأركان"، فالمفهوم التقليدي للحرب في أنها عمليات عسكرية مباشرة تقوم بها قوات نظامية ضد أراضي الدولة مباشرة، وبالتالي فإنه إذا لم تتعرض أي دولة لتهديد واضح ووشيك (Clear & Present)، فإنها لا تواجه مشكلة تتطلب التحول إلى اللون الأحمر على مقياس التهديدات الخاص بها، لكن ربما يجب حالياً التعامل مع "اللون البرتقالي" الذي يعني وجود تهديد محتمل قريب، على أنه تهديد حالي وشيك، من دون انتظار وصوله إلى الحدود أو الداخل، وهناك الكثير الذي يمكن ذكره للتدليل على عكس ذلك، لكن يجب عدم انتظار وصول العدو إلى الأبواب، أو إلى الأهداف.

2 ـ وجود مصادر تهديد إقليمية لا تعرف سوى الهجوم، فهي تنساب إلى كل منطقة فراغ طالما تستطيع ذلك، ولن تتوقف إلا بوجود مقاومة، وهي مشكلة، فنظريات الحروب غير المتماثلة بين قوات نظامية وقوات غير نظامية لاتزال محل نقاش أكاديمي لم يتحول إلى منهج دراسي بعد، والأسئلة الخاصة بكيفية تمكن طرف ضعيف من التغلب على طرف قوي في مسرح عمليات معين لاتزال تطرح، كما بدأت تظهر أعمال إرهاب بدائية تستهدف مرافق الدول، التي لم يكن متصوراً أن تصبح أهدافاً لإرهابيين، ويتطلب ذلك إعادة التفكير في كل شيء، بما في ذلك مفهوم "الأمن" ذاته، إضافة إلى كل العناوين الكبرى لدورات التدريب الأمنية كإدارة الأزمات وبناء القدرات، وغيرها.

في النهاية، الفكرة الرئيسية هنا هي ضرورة التفكير قدر الإمكان في كيفية الذهاب إلى هناك، حيث توجد مصادر التهديد مبكراً، بدلاً من انتظار وصول التهديدات إلى الحدود، حتى لو كانت التهديدات لاتزال في "مرحلة المخاطر" أو تبدو بعيدة بحيث لا تتطلب طوارئ قومية، أو أن الدولة محصنة دفاعياً بما يكفي لإحباطها إذا وصلت إليها، فهناك أوضاع خطرة تتطور بسرعة، ولا يوجد طرف – كما تمت الإشارة في البداية – بمنأى عن مشكلات الإقليم، والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالاستعداد لاحتمالات وصولها، وإنما بالذهاب إلى "خطوط العدو".