إذا كانت شبهة التسييس تلاحق أحياناً جائزة نوبل في الأدب والاقتصاد، فإن جائزة نوبل للسلام تبدو سياسية حتى العظم وإلى النخاع، سواء بحكم مقصد إنشائها، أو السجل التاريخي لمن حصلوا عليها، أو طبيعة القضايا المرتبطة بها، أو حتى النقاش والجدل الذي يدور حولها، والمعنى الذي تتركه في نفوس حائزيها ومن حولهم.
على هذا المنوال، جاءت نوبل للسلام هذا العام، التي مُنحت للمعارض البيلاروسي أليس بيالباتسكي ومنظمتي "ميموريال" الروسية العاملة في مجال حقوق الإنسان، و"مركز الحريات المدنية" الأوكرانية، الذي نشط كثيراً أثناء الحرب الدائرة منذ ثمانية أشهر، ولم تضع أوزارها بعد.
السياسة تحكم:
حتى بورصة الترشيحات التي سبقت الإعلان عن الفائزين بجائزة نوبل للسلام 2022، التي تبلغ قيمتها عشرة ملايين كورونا أي ما يوازي مليون دولار، كانت حافلة بالسياسة أيضاً، إذ فاضلت اللجنة المانحة بين 343 مرشحاً يتوزعون على 251 فرداً و92 منظمة، تتماس مع السياسة بدرجات متفاوتة، وإن انحصرت المنافسة النهائية في عدد محدد من بينهم بالطبع من أُعلن فوزهم.
وبخلاف الفائزين، كانت الترشيحات تدور حول معارضة بيلاروسية أخرى، تعيش في المنفى، هي سفيتلانا تيخانوفسكايا، ومعارض روسي سجين، وقف العالم على قدميه وقت القبض عليه، وحين تعرض لمحاولة تسميم هو أليكسي نافالني، وكل منهما يُغضب السلطات البيلاروسية والروسية على حد سواء، بينما يلقيان حفاوة شديدة في الغرب.
وعلى الدرب نفسه سارت ترشيحات أخرى منها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، والتي بذلت جهداً ملموساً في متابعة المشردين والمهجرين والنازحين من آثار الحروب في إثيوبيا، والتمييز والاضطهاد الذي تتعرض له أقلية الروهينجا في ميانمار، والإيجور في الصين، إلى جانب توثيقها آثار الحرب الدائرة في أوكرانيا.
وهناك أيضاً المحكمة الجنائية الدولية التي تتخذ من لاهاي مقراً لها، أو موقع بيلينغكات الاستقصائي، الذي يقدم تقارير ودراسات دورية حول مسائل دولية عدة تتعلق بالسلام. ويوجد من رشح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، لكن استمرار الحرب حتى الآن قلل فرصه هذه المرة.
ومال البعض إلى أن العاملين على تفادي مشكلة "المناخ" أقرب للفوز، بفعل اقتراب عقد مؤتمره الدولي، ولكونهم ينشغلون بقضية تهم العالم بأسره، في ظل الآثار المدمرة لتقلب أحوال الطبيعة ومنها الفيضانات والأعاصير، وموجة الحر القاسية التي مر بها العالم، وموجة الصقيع القارس المنتظر حدوثها مع قدوم فصل الشتاء.
وكان هناك من يردد أسماء أخرى مثل عالم الطبيعة البريطاني ديفيد أتينبورو، والناشطة السويدية الشابة غريتا ثونبرغ، أو الحركة التي أسستها وأسمتها "أيام الجمعة من أجل المستقبل" أو هي والحركة معاً.
وهناك من توقع أن تستمر الجائزة في تعزيز التقليد الذي اتبعته العام الماضي حين مُنحت لاثنين من المدافعين عن حرية الصحافة هما الفلبينية ماريا ريسا والروسي دميتري موراتوف. وكان دافع هؤلاء هو أن صعود اليمين المتطرف، وعودة الاستبداد السياسي والشمولية والانقلابات العسكرية إلى كثير من الدول، يشكل ضغطاً قوية على الحرية الإعلامية، ويجعل العاملين فيها يواجهون تعسفاً وتعنتاً شديدين.
ولعل هذه الترشيحات جعلت قرار اللجنة أكثر صعوبة هذا العام، فالمرشحون المتأهلون للقوائم النهائية فعلوا ما يجعل شروط الفوز منطبقة عليه، والوضع الأمني والسياسي في العالم بأسره بالغ الصعوبة، ويسوده التوتر، وكل من المرشحين يمارس دوراً من جانب معين في تخفيف حدة هذا التوتر، كل على قدر طاقته، ووفق الظروف أو السياقات التي يعمل فيها.
لكن هذه التكهنات والتوقعات سرعان ما تبددت حين خرج مدير معهد أوسلو لأبحاث السلام، هنريك أوردال، ليصرح لإذاعة "إن آر كي"، بأنه "من المحتمل أن نكون أمام جائزة تشير بطريقة ما باتجاه أوكرانيا"، متسقاً في هذا مع تحليلات رأى أصحابها أن الجائزة ليس بوسعها أن تدير ظهرها لأخطر حدث يدور على كوكب الأرض حالياً، هو الحرب في أوكرانيا، لاسيما في ظل الآثار الجسيمة التي تترتب عليها، والمآلات الخطيرة التي يمكن أن تنفلت إليها مستقبلاً.
تأثيرات الحرب:
لعل قراءة الحيثيات التي استندت إليها اللجنة - التي يختارها البرلمان النرويجي - في منحها هذا الثلاثي (المعارض البيلاروسي أليس بيالباتسكي، ومنظمة "ميموريال" الروسية العاملة في مجال حقوق الإنسان، ومنظمة "مركز الحريات المدنية" الأوكرانية) جائزة عام 2022، يؤكد حضور السياسة، سواء بمعناها المرتبط بالصراع حول السلطة، أو ذلك المربوط بالحرب، باعتبارها أيضاً نوعاً من الممارسة السياسية المفرطة في العنف بشتى أنواعه المادية واللفظية والمعنوية والرمزية. فمن وجهة نظر اللجنة فإن الفائزين قاموا بما يلي:
1- عززوا الحق في انتقاد السلطة وحماية الحقوق الأساسية للمواطنين لسنوات عديدة.
2- بذلوا جهداً واضحاً في توثيق جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وإساءة استخدام السلطة.
3- أبروزا دور المجتمع المدني في تعزيز السلام والديمقراطية والتنمية السياسية بشتى مجالاتها.
4- استمروا في العمل من أجل إعلاء القيم الإنسانية، ومناهضة النزعة العسكرية، وإعلاء مبادئ القانون.
ولو أن الحرب الأوكرانية كانت قد انتهت باتفاق سلام، كان من الطبيعي أن يتم الالتفات إلى من صنعوا هذا السلام لينالوا الجائزة، لكن اللجنة لم تبتعد في قرارها عن مناوشة هذه الحرب من طرف ليس بعيداً، دون أن تهمل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوقت نفسه، على اعتبار أن الغرب ينظر إلى هذه الحرب، في جانب منها، على أنها منازلة بين نظامين ديمقراطي في أوكرانيا، وشمولي في روسيا.
فالمعارض البيلاروسي أليس بيالياتسكي، الذي يبلغ من العمر ستين عاماً، يقبع في السجن حالياً من دون محاكمة، بعد أن أسس مركز "فياسنا" أي "الربيع"، الذي يعمل في مجال حقوق الإنسان، ووجه انتقادات عنيفة، لاسيما في مجال الحريات العامة، لنظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، الذي يحكم البلاد منذ عام 1994. كما شارك بيالياتسكي في التظاهرات التي خرجت ضد الرئيس لوكاشينكو بعد اتهامه بالتلاعب في نتائج الانتخابات العامة، ومد بيالياتسكي يد العون إلى المعتقلين السياسيين وأسرهم، وبذل جهداً في توثيق حالات التعذيب التي تعرضوا لها، والتنكيل الذي لحق ذويهم، بل وصف حكم لوكاشينكو بأنه "سلطة احتلال".
وقد استندت اللجنة إلى كل هذا في حيثياتها، ما يعكسه قول رئيستها بريت ريز أندرسن خلال إعلان النتائج، إن "السلطات حاولت إسكات بيالياتسكي بشكل متكرر.. ورغم الصعوبات التي واجهها، لم يستسلم، ولم يتراجع قيد أنملة، في معركته من أجل حقوق الإنسان، والديمقراطية، بل كرس نفسه وحياته لدعمها، وطالب بالتغيير السلمي في بلاده"، علاوة بالطبع على حصوله على عدة جوائز من قبل في مجال حقوق الإنسان.
ويمثل إعلان فوز غريم لوكاشينكو رسالة إلى الرئيس البيلاوسي، وإشارة في الوقت نفسه إلى الحرب في أوكرانيا، فلوكاشينكو حليف لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، ويفتح أرض بلاده للقيام بقصف لمواقع عسكرية داخل أوكرانيا، والعبور إلى أراضيها من قبل وحدات عسكرية روسية، بل إنه حشد قواته على حدود أوكرانيا ليزيد من الضغط على الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وهدد مرات بالمشاركة الفعلية في المعركة، وسخر كثيراً من الظروف القاسية التي ستمر بها أوروبا خلال الشتاء القادم نتيجة انقطاع إمدادت الغاز الروسي عنها.
أما مركز "ميموريال" فهو من أقدم الجمعيات التي تدافع عن الحريات الفردية والعامة في روسيا الاتحادية، وطالما هاجم سياسات بوتين، وعدد أوجه القصور التي تشوب حكمه لاسيما في مجال حقوق الإنسان، الأمر الذي يثير حفيظة السلطات ضده دوماً.
وبدوره خص "مركز الحريات المدنية" في أوكرانيا أغلب جهده منذ اندلاع الحرب في توثيق ما يراها انتهاكات لحقوق الإنسان التي يتهم القوات الروسية وحلفاءها بارتكابها، لاسيما في منطقة شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو تحت سلطانها في عام 2014. واعتمد المركز في هذا على شهادات ميدانية وأخبار إعلامية.
ولم تخف الأكاديمية السويدية موقفها السياسي من ربط الفائزين بالحرب الأوكرانية، حين قالت: "كرمنا هذا العام ثلاثة أبطال بارزين لحقوق الإنسان والديمقراطية والتعايش السلمي في الدول المتجاورة؛ بيلاروسيا، وروسيا، وأوكرانيا".
وعلى الرغم من أن الجائزة في شرطها الأساسي يجب أن تذهب إلى من قاموا بأكبر قدر أو أفضل عمل للتآخي بين الأمم، والحفاظ على السلام بالدعوة إليه أو تأسيس هيئات أو إطلاق مؤتمرات تروج له، وتعمل على تعزيزه؛ فإن قرار اللجنة هذه المرة، دار حول الحرب الدائرة في أوكرانيا، حاملاً معه إشارات ومعاني سياسية لا تخفى على أحد.
ختاماً، لقد توقع البعض أن تذهب جائزة نوبل في الآداب إلى أي من أدباء أوكرانيا الكبار، كنوع من دعم كييف، لكنها ذهبت إلى الكاتبة الفرنسية آني أرنو التي لم تهادن في الدفاع عن طبقتها الاجتماعية ويساريتها الواضحة، وناصرت القضية الفلسطينية، لتدخر اللجنة هذا التوجه إلى جائزة السلام، ربما بحكم الإيحاءات السياسية المباشرة التي تمثلها، وتعارف عليها الجميع في مشارق الأرض ومغاربها.