عرض: سارة محمود خليل – باحثة في العلوم السياسية
على الرغم من تصاعد الاهتمام الوطني والدولي بمفهوم "الاقتصاد الأخضر" الذي هيمن على الخطاب البيئي في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، إلا أنه لم يحقق شيئًا ملموسًا خلال الأعوام الأخيرة، لغياب إرادة قادة المجتمع الدولي عن وضع استراتيجيات محددة لتعزيز هذا الاقتصاد.
ولتسليط الضوء على هذا الموضوع، نشرت دورية "السياسة العالمية" التي تُصدرها جامعة "دورهام" البريطانية، دراسة بعنوان "حوكمة الاقتصاد الأخضر العالمي" في عددها الرابع الصادر في شهر ديسمبر الماضي (2016)، أعدتها كيلا تيانهارا، الباحثة بكلية التنظيم والحوكمة العالمية بالجامعة الوطنية الأسترالية.
تُركز الدراسة على مسيرة "الاقتصاد الأخضر" منذ الأزمة المالية العالمية، محاولةً البحث عن أسباب دعوة بعض المؤسسات الدولية، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) ومجموعة العشرين (G20)، لتعظيم دورها في توجيه الاقتصاد الأخضر، وتقييم مدى قيامها بدورها على النحو المطلوب.
وقد ركزت الباحثة على تلك المؤسستين -على وجه التحديد- لقدرتهما على تنسيق وتوجيه جهود الاقتصاد الأخضر؛ حيث إن برنامج الأمم المتحدة للبيئة هدفه وضع المعايير العالمية، وتنسيق الأنشطة البيئية على نطاق الأمم المتحدة، فيما أصبحت قمم قادة مجموعة العشرين المنتدى العالمي الرئيسي للمناقشات الاقتصادية منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
الدعم المؤسسي
لمعرفة دور المؤسسات الدولية في تعزيز الاقتصاد الأخضر، عقدت الدراسة مقارنة بين دور كلٍّ من برنامج الأمم المتحدة للبيئة ومجموعة العشرين في دعم نمو الاقتصاد الأخضر. فعن الأول، أشارت الباحثة إلى أنه تأسَّس منذ أكثر من أربعة عقود من أجل تعزيز التعاون الدولي في مجال البيئة. وتضيف: على الرغم من تركز أنشطة البرنامج خلال العقد الماضي على الاقتصاد الأخضر، إلا أنه لم يحقق نجاحًا ملحوظًا في تحويل أفكاره إلى واقع ملموس عالميًّا، مما دفع البعض للمطالبة بتحسين البرنامج وإصلاحه.
وعلى عكس البرنامج الأممي، تُعد مجموعة العشرين مؤسسة أصغر بكثير من حيث عدد المشاركين. وتكمن وظيفتها الأساسية -من وجهة نظر الباحثة- في إضفاء الصفة القانونية على الرأسمالية العالمية، لا سيما في شكلها الليبرالي الجديد. وتتميز قمم المجموعة بأنها تُعقد بصورة منتظمة كل عام، كما أن قلة عدد المشاركين تسهل -نظريًّا- من عملية الحصول على الإجماع، كما تُتخذ قراراتها بصورة أكثر جدية من جانب كل من قادة المجموعة وبقية دول المجتمع الدولي.
وفي رد على الانتقاد الذي يُوجَّه للمجموعة لمحدودية عضويتها، تدافع الباحثة عن ذلك بأنها تمثل 90% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وثلث سكان العالم. ولفتت الدراسة إلى أنه حتى إن لم يكن للمجموعة تأثير خارج نطاق عضويتها، فإنه يمكنها إحراز تقدم كبير من خلال تبني نهج الاقتصاد الأخضر على المستوى العالمي، لأنها تضم أكبر القوى الاقتصادية دوليًّا. وأضافت أن النهوض برؤية البرنامج الأممي للاقتصاد الأخضر يمكن اعتباره متوافقًا مع الوظيفة الأساسية لمجموعة العشرين المتمثلة في إضفاء الشرعية على الرأسمالية العالمية.
الأزمة المالية والاقتصاد الأخضر
ترى الباحثة أن الأزمة المالية العالمية شكلت فرصة هائلة لمؤيدي الاقتصاد الأخضر لسببين؛ يتمثل أولهما في حاجة الحكومات إلى الاستجابة السريعة للأزمة. فمثلا، أعلنت كوريا الجنوبية في عام 2008، تبني مسار إنمائي جديد يقوم على خفض الكربون من أجل النمو الأخضر، ومع اندلاع الأزمة المالية العالمية، أسرعت الحكومة الكورية في البدء بما يُطلق عليه "صفقة خضراء جديدة Green New Deal" بوضع حزم تحفيزية تهدف إلى معالجة كلٍّ من الأزمات المالية والقضايا البيئية كتغير المناخ.
في حين يتمثل السبب الثاني في أنه في أعقاب الأزمة المالية ساد شعور بعدم فعالية السياسات الاقتصادية في ذلك الوقت، والتي فقدت قدرًا كبيرًا من مصداقيتها، وهو الأمر الذي عزز من الدعوات لنظام اقتصادي جديد؛ مما فتح المجال أمام خبراء البيئة لاقتراح اتباع نهج الاقتصاد الأخضر للمضي قدمًا.
ففي أعقاب الأزمة، رأى البعض أن جدول أعمال برنامج الأمم المتحدة للبيئة بشأن الاقتصاد الأخضر اكتسب شعبية ورواجًا باعتباره وسيلة لإعادة اختراع الرأسمالية من خلال إنشاء أسواق جديدة. فقد أوصت بعض التقارير الصادرة عن مبادرة البرنامج حول الاقتصاد الأخضر بتخصيص 750 مليار دولار، أي نحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من أجل تعزيزه.
وبعيدًا عن منظمة الأمم المتحدة، ضغط الزعماء السياسيون والمنظمات غير الحكومية والفواعل من غير الدول على أعضاء مجموعة العشرين من أجل مناقشة القضايا البيئية في قمم المجموعة. وخلال قمة لندن عام 2009، كثرت الأصوات التي تدعو دول المجموعة للتركيز على "الاقتصاد الأخضر". ونتيجة تلك الضغوط، تعهد قادة المجموعة بالقيام بكل ما هو ضروري لتحقيق انتعاش اقتصادي أخضر مستدام وشامل. وعلى الرغم من اعتقاد البعض بنجاح قمة لندن، إلا أن خبراء البيئة اعتبروها فرصة مهدرة لتحقيق تقدم ملموس على أرض الواقع.
وخلال عام 2012 ظهرت بوادر التقدم في الاقتصاد الأخضر بعد أن أصبح على قمة جدول أعمال قمة المجموعة في هذا العام، وتعهد أعضاؤها بمواصلة دعم التنمية في البلدان النامية، لا سيما تلك التي من شأنها تعزيز الاقتصاد الأخضر. ولكن سرعان ما شهدت مسيرة التقدم تراجعًا في ظل اختفاء الحزم التحفيزية، واستبدالها بسياسات التقشف في عدة دول، واختفى تمامًا مفهوم "الاقتصاد الأخضر" من على جدول الأعمال الرئيسي لقمة المجموعة التي انعقدت في أستراليا عام 2014، وفسرَّت الدراسة ذلك بتولي زعيم حزب المحافظين توني أبوت المعروف بعدائه لسياسة تغير المناخ منصبَ رئيس الوزراء بعد نجاحه في الانتخابات التي أُجريت في ديسمبر 2013.
وتدلل الدراسة على تراجع اهتمام المجموعة بتعزيز الاقتصاد الأخضر بعدم تطرق قمم المجموعة منذ عام 2012 إلى ما حققته الدول الأعضاء بشأن التزاماتها بتعزيز نمو الاقتصاد الأخضر. وتضيف أنه بشكل عام لا يوجد دليل على اهتمام المجموعة بالانتعاش الأخضر بصورة أكبر بعد الأزمة المالية، لأن الغالبية العظمى من الإنفاق لتحفيز الاقتصاد الأخضر من جانب مجموعة العشرين (والذي يقدر بنحو 0.7% من إجمالي الناتج المحلي) كان معظمه قبل قمة لندن.
واستنادًا إلى البيانات المتاحة عن حزم تحفيز الاقتصاد الأخضر التي صدرت قبل وعقب قمة لندن مباشرة، يدَّعي البعض أن قمة لندن مهَّدت الطريق لمزيدٍ من التحفيز الأخضر في ثلاث دول هي: اليابان، وأستراليا، والمملكة المتحدة.
ولكن بالتدقيق في صحة هذا الادعاء فإن حزم تحفيز الاقتصاد الأخضر في اليابان على سبيل المثال كان مخططًا لها قبل القمة، وأعلن عنها بعد أسبوع من اختتام القمة. كما أن حزم التحفيز التي أعلنت عنها أستراليا لم تكن خضراء، فقد خصصت 4.8 مليارات دولار لمشاريع الطرق، وهو ما يُعد أكبر برنامج للاستثمار للطرق في تاريخ البلاد.
وترى الباحثة أنه على الرغم من استراتيجية المجموعة لحل الأزمة المالية والاقتصادية التي تتسم بالطموح والابتكار، ووضع ميزانية محددة لها؛ إلا أن خططها لحل الأزمة البيئية يشوبها الغموض، وليس لها ميزانية محددة.
أسباب الأداء المتغير
أرجعت الدراسة انحسار اهتمام مجموعة العشرين بالاقتصاد الأخضر إلى مجموعة من الأسباب، تمثلت فيما يلي:
1- غياب الاستمرارية وتراجع اهتمام المجموعة بالنمو الأخضر: ويرجع ذلك إلى النظام الحالي الذي تتبعه المجموعة في تغير رئاسة القمة سنويًّا، ممَّا يسمح للدولة المستضيفة وضع جدول أعمال مناسب لرؤيتها.
2- التخوف من الابتعاد عن المهمة الرئيسية: إذ تخشى الدول الأعضاء بمناقشتها إنعاش الاقتصاد الأخضر الابتعاد عن المهمة الرئيسية للمجموعة، خاصةً مع عدم تبنيها فكرة وجوب معالجة القضايا البيئية والاقتصادية معًا.
3- التخوف من الانحراف عن الإطار الأممي: تخشى معظم الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة في مجموعة العشرين تحول مناقشة القضايا البيئية خارج إطار الأمم المتحدة التي ترسخ نهج "المسئوليات المشتركة لا المتباينة"، كما تشكك بعض الدول ذات الأهمية الاستراتيجية كالصين في أجندة الاقتصاد الأخضر.
4- غياب التشبيك مع الجهات ذات الصلة: فبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ليس لديه دور رسمي في مجموعة العشرين، مما يتطلب ضرورة تحسين الطابع المؤسسي للعلاقة بين مجموعة العشرين والمنظمات الدولية ذات الكفاءة التقنية. كما أن الدول التي ربما تدعم جدول أعمال الاقتصاد الأخضر بقوة كدول الشمال الأوروبي غير مشاركة في قمم المجموعة.
5- اندلاع بعض الأحداث العالمية التي تسيطر على قمم المجموعة: ويتمثل أبرزها في ثورات الربيع العربي، وكارثة فوكوشيما النووية عام 2011، وأزمة منطقة اليورو. كما تزامن انعقاد قمة المجموعة لعام 2015 مع الهجمات الإرهابية في باريس.
وانطلاقًا مما سبق، توَّصلت الدراسة إلى أن مجموعة العشرين لم تقم بدورها على نحو فعَّال في تعزيز "الانتعاش الأخضر" منذ الأزمة المالية العالمية، وفشلت -على نحو مماثل- في تحفيز التوجه نحو الاقتصاد الأخضر. ولفتت إلى أن المجموعة تعمل بشكل أفضل عندما تحفز أعضاءها للوفاء بالالتزامات التي تعهدوا بالقيام بها؛ ممَّا يفسر النجاح النسبي لجهودها بشأن التغير المناخي مقارنةً بجدول أعمال تعزيز الاقتصاد الأخضر.
نتائج الدراسة
ثمَّة مجموعة من النتائج توَّصلت إليها الدراسة، تتمثل في:
أولا- أن الدول هي الجهات الرئيسية الفاعلة في إدارة الاقتصاديات الوطنية، ولكن تحكمها القوى الاقتصادية العالمية، كالتجارة والتدفقات الاستثمارية والقواعد العالمية.
ثانيًا- ربما يدفع حدوث أزمة مالية عالمية جديدة إلى الإصلاح المؤسسي أو خلق مؤسسة جديدة تركز على تعزيز وتدعيم الاقتصاد الأخضر.
ثالثًا- أن إصلاح كلٍّ من مجموعة العشرين وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة يمكن أن يُحسِّن السياسة العالمية للاقتصاد الأخضر. ويعتقد البعض أن إصلاح مجموعة العشرين الحل الأمثل لدعم مسيرة النمو الأخضر.
رابعًا- أن زيادة تمثيل مجموعة العشرين ربما يدعم القضايا البيئية في المنتديات الاقتصادية العالمية، وخاصة بلدان الشمال الأوروبي والمزيد من البلدان الإفريقية. كما أن زيادة مشاركة وزراء البيئة في اجتماعات مجموعة العشرين ربما يسمح بمزيدٍ من النقاش حول الاقتصاد الأخضر في مؤتمرات القمة، ممَّا يساهم في التغلب على الفكرة السائدة بأن القضايا البيئية تُبعد عن تحقيق الأهداف المرجوة.
خامسًا- أن مدى التزام مجموعة العشرين بجدول أعمال الاقتصاد الأخضر سيتحدد خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وينبغي أن تكون مجموعة العشرين أكثر وضوحًا في أهدافها لتحقيق الانتعاش الأخضر.
المصدر:
Kyla Tienhaara, Governing the Global Green Economy, Global Policy, Volume 7, Issue 4, November 2016, Pp 481-490.