عرض: هبة محيي
تُعد العدالة إحدى أهم القيم الأساسية التي توفر الاستقرار العام للدول والمجتمعات؛ نظراً لما تمنحه من حقوق متساوية في مجالات توافر الغذاء أو التعليم أو الصحة وغيرها. وفي الأزمات الصحية الطارئة، تصبح عدالة الوصول إلى المواد الطبية ملحة وضرورية للتصدي للأوبئة العالمية المحتملة، والتخفيف من تداعياتها؛ بل إن تلك العدالة تمثل مكوناً أساسياً لبناء نظام حوكمة صحية عالمية لمواجهة تهديدات الأمن الصحي في العالم.
في هذا الإطار، يناقش المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في ورقة بحثية نشرت في العام 2024 مفهوم العدالة كركيزة قانونية لتخطي الجوائح الصحية العالمية، ومدى إمكانية تطبيقه في الواقع، مع التعرض لأهم المعوقات العالمية وكيفية معالجتها، فضلاً عن الكشف عن الدور الحيوي للعدالة في النظام الصحي العالمي المراد تطبيقه من خلال الحوكمة الصحية.
العدالة الصحية:
تهدف منظمة الصحة العالمية إلى تحقيق مفهوم العدالة الصحية، من خلال ضمان توزيع عالمي عادل للموارد الطبية المرتبطة بالأوبئة في المستقبل، مع الإشارة إلى أهمية تضمين عنصرين، هما: ضرورة مراعاة الفوارق المادية بين الدول، ندرة الموارد والوقت المتاح عند حدوث الأوبئة. هنا، تجدر الإشارة إلى أن قيمة العدالة لا تعني المساواة المطلقة الكمية بين الدول.
وبرز مصطلح العدالة بشكل مستمر في اجتماعات وقرارات جمعية الصحة العالمية في الفترة بين عامي (1948-2023)، والتي تُعد أعلى جهاز تناط به مناقشة واتخاذ القرارات الصحية العالمية في منظمة الصحة العالمية. لكن اللافت، هو تكرار ذلك المصطلح في تلك الاجتماعات عند انتشار الأوبئة مثل فيروس إنفلونزا الخنازير (H1N1) عام 2009، لتسليط الضوء حينها على عوامل الخطر الموقوتة في البلدان النامية، كنقص الموارد الطبية والتي تزيد حدة الآثار الجانبية للجائحة، إلا أنه بحلول عام 2010 انخفضت وتيرة تكرار العدالة لخفوت الوباء وآثاره المترتبة عليه.
وأعادت جائحة كورونا قبل سنوات طرح مصطلح العدالة مرة أخرى على مائدة جمعية الصحة العالمية، ولاسيما أن تلك الجائحة كانت أكثر حدة وانتشاراً، فضلاً عن اتساع آثارها السلبية المركبة على العالم أجمع مقارنة بإنفلونزا الخنازير، حيث أثارت قضايا عِدة، مثل: أهمية توزيع اللقاحات بشكل عادل دون الارتكاز فقط إلى أهمية القدرة الشرائية للدول؛ مما دعا إلى أهمية التعامل مع الفجوات الصحية بين الدول الغنية والفقيرة.
تباين المواقف الدولية:
لم تقتصر الورقة البحثية فقط على تحليل التطور التاريخي لمبدأ الإنصاف الصحي؛ بل ذهبت إلى تقصي الموقف الحالي للمجتمع الدولي لفهم معوقات تحقيق العدالة الصحية، والعمل على طرح حلول مناسبة لا تتعارض مع القانون الدولي. ويمكن تصنيف الجهات العالمية الفاعلة إلى ما يلي:
• جمعية الصحة العالمية: وهي تستهدف إبرام اتفاقية دولية للأوبئة للحد من آثارها، وفي هذا الصدد مددت المفاوضات المرتبطة بتلك الاتفاقية خلال اجتماعها في مايو 2024، في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الدول المختلفة. ونتج عن ذلك الاجتماع الاتفاق على إجراء إصلاح شامل للوائح الصحية الدولية لعام 2005، وهو ما يُعد خطوة ناجحة لتحقيق مصطلح العدالة.
• الدول المتقدمة: تنقسم إلى فريقين أحدهما تمثله ألمانيا والاتحاد الأوروبي الداعمان لتحقيق مبدأ العدالة واتفاقية الأوبئة ولوائح الصحة الدولية، مع التعهد بالمساعدة على تقليل فجوات الأنظمة الصحية بين الدول المتقدمة والنامية؛ لضمان تجنيب العالم اندلاع أية جوائح مستقبلية، التي تتزايد فرصها في الدول النامية بسبب انتشار مسببات الأمراض فيها. في المقابل، يرى فريق آخر من الدول المتقدمة أن مساعدة الدول النامية مالياً أو إجبار الجهات البحثية أو المصنعة للقاحات مستقبلاً على إرسال نسبة معينة من اللقاحات للدول النامية هو أمر غير قانوني يضر بتلك الدول، ويقتل براءات الاختراع لديها.
• الدول النامية: تطمح إلى تحقق توزيع أكثر عدلاً للمواد الطبية النادرة، خاصة في أوقات الأزمات، كما تسعى إلى أشكال التعاون العديدة التي تمكنها من تحديث النظم الصحية الخاصة بها وسد مناطق الخلل؛ لذلك، فهي ترحب بالتعديلات الحديثة المراد مناقشتها في جمعية الصحة العالمية، مع الأخذ في الاعتبار تخوف هذه الدول من تكرار تهميشها مرة أخرى في توزيع المواد الصحية عند حدوث الأزمات.
تحديات وحلول مطروحة:
طرحت الورقة البحثية أبرز التحديات أمام استخدام العدالة كعنصر مهم للتصدي للجوائح العالمية؛ ومن ثم القدرة على إيجاد حلول عملية لتحقيق الهدف المنشود دون الإضرار بالمصالح القانونية للدول أو الجهات الفاعلة الأخرى. ومن أبرز تلك التحديات ما يلي:
• التعارض المحتمل مع حقوق الملكية الفكرية: تُعد القوانين التي تكفل للفرد والمؤسسات حقوق احتكار براءات اختراعاتهم من أقوى الأسس الداعمة لعملية الابتكار؛ وعليه، فعند حدوث الجوائح يحدث تضارب في المصالح، حيث تسعى الشركات الكبرى للحفاظ على حقوق ملكيتها؛ ومن ثم يتم تقييد عملية نقل التكنولوجيا ومجابهة التوسع في القدرات الإنتاجية للمواد الطبية؛ مما يضر بالصالح العام.
• عدم وجود إطار قانوني حاكم لالتزام الدول بتوفير الحق في الصحة للدول الأخرى: إذ تتساءل الدول حول ما العائد عليها عند تسهيل إمكانية الوصول للموارد الطبية (الشحيحة) خاصة في أوقات الأزمات الضاغطة، والتي قد تؤدي لزيادة التكاليف المفروضة على عاتق الدولة أثناء الجوائح.
في هذا السياق، تبرز عدة حلول قانونية تراعي تضارب مصالح الأطراف قدر الإمكان منها:
• ضرورة توفير إطار قانوني مناسب ينص على استخدام الحوافز المالية المرتبطة بحقوق الملكية الفردية بشكل أمثل، مع التصدي للآثار السلبية المحتملة عند حدوث الأزمات، وتشجيع الدول على زيادة استثماراتها في البحث العلمي؛ ومن ثم تقليل التكاليف المرتبطة بها. في الوقت نفسه، ثمة أهمية لإيجاد صيغة قانونية توافقية تمكن من إصدار تراخيص إجبارية للأدوية الأساسية، خاصة وقت الأزمات، والامتناع عن التمديد غير المبرر لحماية براءات الاختراع المرتبطة بالأدوية الجديدة.
• تكثيف المفاوضات الدولية لأعضاء منظمة الصحة العالمية في جنيف للتوصل لإطار قانوني ينظم التزامات الدول الأعضاء تجاه بعضها بعضاً دون غبن أطراف بعينها، ومن أهم الآليات المقترحة (نظام الوصول إلى مسببات الأمراض وتقاسم المنافع/ PABS-System)، وهو نظام قيد التطوير يرتكز على قيام الدول بنقل عينات مسببات الأمراض (عادة ما تتوافر في الدول النامية) إلى مختبرات تابعة لمنظمة الصحة العالمية. وتكمن أهمية مبدأ تقاسم المنافع في أنه يكفل للدول المتقدمة إمكانية ممارسة البحوث والتطوير على تلك العينات؛ ومن ثم القدرة على تطوير منتجاتها الطبية، على أن تقوم الجهات المستفيدة بتوفير نسبة من اللقاحات لمنظمة الصحة العالمية تقوم بتوزيعها على الدول النامية كما يستدعي الأمر.
• إنشاء شبكة عالمية لسلاسل التوريد واللوجستيات المرتبطة بالمنتجات الصحية، وذلك تحت إشراف منظمة الصحة العالمية التي تؤدي دوراً في تحديد أهم تلك المنتجات الطبية المتعلقة بالأوبئة، مع التنسيق بين الدول الأعضاء حيث تتحقق العدالة بواسطة الاعتماد على مساهمة الدول التي لديها ميزة نسبية لإنتاج منتجات بعينها مع التشديد على عدم الإجحاف بحقوقها.
• إنشاء آليات جديدة لرصد التزام الدول والمؤسسات بمفهوم العدالة والقدرة على حل المنازعات، حيث لا ينبغي أن تظل محاولات تطبيق ومناقشة العدالة مجرد خطابات لا يتم إنزالها في الواقع، وعليه يمكن اللجوء عبر دورية الاجتماعات للوصول إلى أرضية صلبة بين الأعضاء، كما يحدث في (مؤتمر الأطراف) أو تضمين ذلك في جمعية الصحة العالمية لمناقشة مواطن الاختلاف وعدم الالتزام بالأجندة المتفق عليها. كما يجب أن تضطلع الدول المتقدمة، كألمانيا بدعم الاحتكام للمحاكم القانونية حال حدوث انتهاكات في الالتزامات القانونية المتعلقة بالعدالة؛ كي يمثل ذلك رسالة ردع لأية دولة تحاول انتهاك تلك القوانين.
الحوكمة الصحية العالمية:
لا تقتصر فعالية العدالة كمبدأ تنظيمي في أوقات الأزمات فقط؛ بل يمكن استغلال المبدأ وتوفير التكييف القانوني الملائم له؛ لتطبيق نظام الحوكمة الصحية العالمية في الأوقات الاعتيادية وليس فقط في ظل أزمات الجوائح. يُقصد بنظام الحوكمة الصحية العالمية الإطار التنظيمي والسياسي الذي يخضع تنظيمه للمعايير القانونية؛ بهدف تطوير وتوفير نظم صحية محلية تتسم بالعدالة والشفافية، عن طريق التنسيق العالمي بين الأطراف المختلفة الفاعلة.
ويمتد هذا النظام من الدول ليشمل المنظمات الدولية، كمنظمة الصحة الدولية، والتحالفات الدولية كالصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا، والشركات المختصة بتصنيع الأدوية والعاملة في مجال التكنولوجيا الصحية، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني التي تؤدي دوراً مهماً في الرقابة على الجهات الفاعلة.
ولما كان النطاق التعاوني في نظام الحوكمة الصحية المزمع تنفيذه أشمل وأعمق عن مثيله في أوقات الجوائح فقط، فإن التخوف لدى الدول والجهات الفاعلة يتعاظم من فقدان سيادتها أو فرض أية سياسات تعتبرها غير قانونية ويتم تمريرها بواسطة المنظمات الدولية المعنية كمنظمة الصحة وغيرها، حيث تكون تلك المنظمات مجرد منبر لدول بعينها تمرر من خلاله السياسات التي تلائمها.
لذلك، تبذل جمعية الصحة العالمية جهوداً واسعة النطاق لطمأنة الدول، حيث أعلنت أن هدفها تنفيذ نظام صحي عادل شامل عالمياً لكل الدول قدر الإمكان؛ الأمر الذي ظهر جلياً في اهتمام الجمعية بتضمين رأي الصين وروسيا في صياغة الالتزامات القانونية المرتبطة بمبدأ الإنصاف، خلال الاجتماعات المعنية باتفاقية الجائحة واللوائح الصحية الدولية المعدلة، بالرغم من الخلافات السياسية الواضحة بينهم وبين الجانب الأوروبي.
المصدر:
Pedro A. Villarreal, “Equity” als neues völkerrechtliches Leitprinzip in Pandemien, Deutsches Institut für Internationale Politik und Sicherheit, August, 2024.