أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (خمسة سيناريوهات للتصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران)
  • مهاب عادل يكتب: (رسائل الإصلاح: كيف انعكست أزمات الشرق الأوسط في الدورة الـ79 للأمم المتحدة؟)
  • د. هايدي عصمت كارس تكتب: (بين العزلة والانقسام: دوافع تفضيل أوروبا هاريس على العودة المحتملة لترامب)
  • مركز "المستقبل" يُشارك في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (قوة صاعدة: فرص الإمارات في سباق الذكاء الاصطناعي)

سنغافورة نموذجًا:

لماذا انتقلت هواجس التهديدات الإرهابية للدول الآمنة؟

12 يوليو، 2019


توصف سنغافورة بأنها إحدى البقاع الآمنة في جنوب شرق آسيا باعتبارها ضمن المراكز الأهم للتجارة والخدمات المالية واللوجستية والاستثمار والشحن حول العالم. فباستثناء بعض التهديدات العسكرية التقليدية التي تواجهها بسبب محدودية العمق الاستراتيجي وحتميات الجغرافيا وقيود الموقع والتوازن الجغرافي والديمغرافي مع دول الجوار؛ لم تكن سنغافورة إحدى البؤر المحتملة لعمليات إرهابية خلال الأعوام الماضية. وعلى نقيض ذلك فقد شهدت الآونة الأخيرة تشديدًا للإجراءات الأمنية لمكافحة الإرهاب والتطرف في سنغافورة في مؤشرٍ على تراجع هامش الأمن النسبي رغم تراجع تهديدات تنظيم "داعش" وانحساره في معاقله الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.

إجراءات تحصين الداخل:

على الرغم من عدم وقوع عمليات إرهابية في سنغافورة خلال الفترة الماضية، واعتبارها ضمن البقاع الآمنة في جنوب شرق آسيا نتيجة دورها كمركزٍ إقليميٍّ للتجارة والخدمات المالية؛ فإن الآونة الأخيرة قد شهدت تعزيزًا للإجراءات الأمنية لمكافحة الإرهاب والتطرف بصورة غير مسبوقة.

وفي هذا الإطار، كشف تقرير عن عمليات مكافحة الإرهاب في سنغافورة صادر عن وزارة الداخلية الإندونيسية، عن مستوى محدود من التهديدات الإرهابية في الدولة، حيث تم القبض على 8 متطرفين سنغافوريين خلال عامي 2018 و2017، في حين أن عدد المتطرفين الذين تم القبض عليهم في الفترة ما بين عام 2007 إلى عام 2014 يُقدر بحوالي 11 شخصًا، كما تم ترحيل 3 ماليزيين في عام 2018 بسبب شبهات حول انتمائهم لخلية تابعة لتنظيم "داعش" تخطط لهجمات في ماليزيا، ورغبة أحدهم في السفر إلى سوريا للانضمام للتنظيم. كما تم ترحيل ما يقدر بحوالي 14 عاملة منزلية إندونيسية في عام 2015 بسبب وجود مؤشرات على تبنيهنّ أفكارًا متطرفة.

وفي مقابل هذه المؤشرات التي تشير إلى انخفاض مستوى التهديدات الإرهابية لسنغافورة، إلا أن الأخيرة اتخذت العديد من الإجراءات الأمنية والعسكرية المكثفة لمواجهة التهديدات الإرهابية المحتملة، وقامت بتعزيز دور القوات المسلحة في عمليات الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، وهو ما يُستدل عليه من خلال ما يلي:

1- تأسيس مركز قيادة العمليات الخاصة: أعلن وزير الدفاع السنغافوري "نج إنج هين"، في 28 يونيو 2019، افتتاح مركز قيادة العمليات الخاصة الجديد (Special Operations Command Centre) شرق معسكر "هندون" والمتخصص في عمليات مكافحة الإرهاب. وسيقوم المركز الجديد بعمليات التخطيط والرقابة وإدارة الرد العسكري على التهديدات الإرهابية للأمن الداخلي، وسيتم تجهيزه بأحدث نظم القيادة والسيطرة والاتصالات والحواسب والاستخبارات المعروفة اختصارًا بمسمى (C4I)، بالإضافة للاستعانة بتقنيات حديثة، مثل: الروبوتات، والنظم غير المأهولة، والذكاء الصناعي، وتحليل البيانات الضخمة في عمليات مكافحة الإرهاب. 

2- تشييد "مدينة التدريب العسكري": تزامنت عملية تأسيس مركز قيادة العمليات الخاصة بالإعلان عن تشييد مدينة التدريب العسكري الملحقة بالمعهد العسكري التابع للقوات المسلحة السنغافورية والمعروفة اختصارًا بمسمى (SAFTI City)، حيث تم الإعلان في 28 يونيو 2019 عن تقدم عمليات الإنشاءات بالمدينة التي تتكلف حوالي 664 مليون دولار، وتضم منشآت ومرافق للتدريب على عمليات مكافحة الإرهاب، وحماية الأمن الداخلي، ومواجهة الكوارث، والتي يتم الانتهاء منها في عام 2023، وتضم 70 مبنى ومنشأة لمحاكاة العمليات الخاصة على مساحة 107 آلاف متر مربع.

3- تعزيز قدرات قوات الاحتياط: صاغت وزارة الدفاع السنغافورية خططًا للاستعانة بقوات الاحتياط والمجندين في عمليات الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب عبر تنظيم تدريبات سنوية لرفع الكفاءة القتالية والاستعداد. فعلى سبيل المثال، قامت القوات المسلحة السنغافورية في يناير 2018 بأكبر مناورة للتعبئة العامة للاحتياط منذ عام 1985، حيث شملت نشر أكثر من 8000 جندي و700 مركبة مدرعة، في تدريب على التصدي للعمليات الإرهابية نتيجة لتصاعد تهديدات الإرهاب في دول الجوار. وقد سبق ذلك الإعلان عن تأسيس مركز التعبئة العامة والتجهيز في معسكر سيلارانج في عام 2017 لاستقبال وتدريب جنود الاحتياط. 

4- وضع التدابير الاحترازية: طرحت الحكومة السنغافورية في فبراير 2018 تشريعًا لمنع الأفراد المتواجدين في مناطق الاعتداءات الإرهابية داخل الدولة من التقاط صور أو تسجيل لقطات فيديو خلال هذه الأحداث، أو إجراء اتصالات هاتفية، أو إرسال رسائل نصية تصف إجراءات الشرطة خلال تعاملها مع الموقف، وهو ما يأتي ضمن مشروع قانون للأمن العام والسلامة تم رفعه للبرلمان، والذي يسمح بإصدار الشرطة أمرًا بوقف الاتصالات بعد الحصول على موافقة وزير الداخلية.

5- التصدي لتمويل الإرهاب: كثّفت المؤسسات الأمنية السنغافورية عملياتها لمواجهة تمويل الإرهاب عبر أراضيها، حيث ألقت الشرطة السنغافورية في فبراير 2019 القبض على رجل أعمال يُدعى "محمد كازالي صالح" بالتعاون مع الشرطة الماليزية للاشتباه في تورطه في عمليات تمويل لأنشطة إرهابية، وهو ما يتصل بعمليات أمنية أخرى لترحيل الأجانب ممن يشتبه في تورطهم في دعم الجماعات الإرهابية أو تبني توجهات متطرفة.

6- مبادرة "سنغافورة آمنة": قامت الحكومة السنغافورية بتطوير وتحديث مبادرة "سنغافورة آمنة" (SG Secure) التي تم إطلاقها في عام 2016 تحت شعار "كن مستعدًّا، استجابتنا مؤثرة" وذلك بهدف توعية المجتمع بمخاطر التهديدات الإرهابية، وتشجيعه على الإبلاغ عن أي أنشطة مريبة، بحيث "أصبح أغلب السنغافوريين يرون أنفسهم يمارسون دورًا مؤثرًا في الحرب ضد الإرهاب"، وفقًا لبيانات صادرة عن وزارة الدفاع السنغافورية.

دوافع التحفز الأمني:

تتخوّف المؤسسات الأمنية والعسكرية في سنغافورة من أنّ تعاظم شعور المواطنين بالأمن والاستقرار قد يؤدي إلى حالة من التراخي وانخفاض مستوى الجاهزية في مواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة التي أصابت الدول المحيطة بسنغافورة في الآونة الأخيرة. ففي تقرير أصدرته وزارة الداخلية السنغافورية، في يناير 2019، تضمن تقييمًا للتهديدات الإرهابية في إقليم جنوب شرق آسيا وتأثيرها على سنغافورة، حذرت وزارة الداخلية من أن بعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن عددًا كبيرًا من المواطنين يرون ضعف احتمالية أن تتعرض سنغافورة لهجوم إرهابي، وهو ما يجعل استجابتهم لمواجهة الأنشطة الإرهابية محدودة. وفي هذا السياق، تتمثل أهم دوافع التحفز الأمني لدى سنغافورة فيما يلي:

1- تصاعد الإرهاب بدول الجوار: على الرغم من تراجع عدد عمليات "داعش" في عام 2019 في جنوب شرق آسيا مقارنةً بعدد عملياتها في الأعوام الماضية؛ إلا أن التهديد الداعشي لم ينحسر بعد، حيث شهدت سيريلانكا في أبريل 2019 سلسلة من الهجمات استهدفت كلًّا من: فندق شانجريلا، وكنيسة القديس أنتوني، وكنيسة القديس سيباستيان الكاثوليكية، وفندق سينامون جراند، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وفندق كينجز بري، وشهدت إندونيسيا سلسلة محاولات لتنفيذ عمليات إرهابية من بينها محاولة انتحاري تفجير نفسه في مركز للشرطة بمقاطعة (جاوة الوسطى) في يونيو 2019، فضلًا عن ضبط عدد من الخلايا الإرهابية في أبريل الماضي عقب تفجيرات سيريلانكا. 

ولا ينفصل ذلك عن إعلان الشرطة الإندونيسية اعتقال 60 مشتبهًا في صلتهم بتنظيم "داعش" منذ بداية عام 2019 وحتى مايو 2019، وقيام بعضهم بالتخطيط لتفجيرات خلال الانتخابات الرئاسية، بينما أعلنت السلطات الماليزية في أبريل 2019 الماضي ترحيل ستة مصريين وتونسي يُشتبه في صلتهم بجماعة الإخوان المسلمين المصنفة كجماعة إرهابية في العديد من دول العالم، كما تم القبض على خلية إرهابية تابعة لـ"داعش" في محيط العاصمة كوالالمبور في الشهر نفسه.

وتجدر الإشارة إلى تنفيذ خلية تابعة لتنظيم "داعش" لهجمات انتحارية على ثلاث كنائس في مدينة سورابايا بإندونيسيا في مايو 2018، والتي أسفرت عن مقتل 11 شخصًا، حيث قامت أسرة كاملة مكونة من ستة أفراد بتنفيذ الهجمات بمن فيهم الأم وطفلان، مما يكشف مدى تزايد تهديدات التطرف. وقد أعلن "واوان بوروانتو"، القيادي العسكري بوكالة الاستخبارات الإندونيسية، أنه يُشتبه في أن جماعة "أنصار التوحيد"، الموالية لتنظيم "داعش"، تقف وراء الهجمات المتزامنة. وقامت ماليزيا بإحباط 4 مخططات إرهابية، واعتقلت أكثر من 80 إرهابيًّا مسلحًا في عام 2018.

2- تأثير الدعاية الداعشية: لا تزال الدعاية الداعشية تُشير إلى إقليم جنوب شرق آسيا باعتباره "ولاية جنوب شرق آسيا"، ويقوم التنظيم بإنتاج فيديوهات باللغات المحلية لاستقطاب مواطني هذه الدول، لا سيما لغتي: البهاسا الإندونيسية، ولغة تاجالوج التي يتحدثها العديد من سكان الفلبين.

وفي السياق ذاته، حذر تقرير أمني صادر عن وزارة الداخلية في سنغافورة في مطلع عام 2019 من تصاعد نشاط "داعش" في الفضاء الإلكتروني الآسيوي بعد هزيمته في سوريا والعراق، مما أدى إلى استقطاب بعض المواطنين السنغافوريين، بالإضافة إلى تحول بعضهم إلى تأييد أفكار التنظيم. وفي هذا الإطار، ذكر التقرير: "نواصل التحقيق في تحول بعض السنغافوريين والأجانب المقيمين لتبني أفكار متطرفة بسبب الدعاية الإرهابية. يجب أن يستمر المواطنون في البقاء في حالة تأهب، وأن يكونوا مستعدين لأن الهجوم قد ينجح يومًا".

3- إعادة تموضع "داعش": ذكر وزير الدفاع السنغافوري"نج إنج هين" في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام، في يونيو 2019، أن مركز ثقل الجماعات الإرهابية (Center of Gravity) يمر بمرحلة انتقال حاليًّا من منطقة الشرق الأوسط لمناطق بديلة حول العالم، ويُعد إقليم جنوب شرق آسيا من الأقاليم المرشحة بقوة لأن يصبح مرتكزًا لتنظيم "داعش"، مؤكدًا أن وكالات الاستخبارات في سنغافورة لديها معلومات تدعم هذه الفرضية، وهو ما دفع لتعزيز إجراءات مكافحة الإرهاب، وقيام المؤسسات العسكرية بدعم قوات الشرطة في تعزيز الجاهزية لمواجهة تهديدات الأمن الداخلي.

4- تهديدات الإرهابيين العائدين: حذرت وزارة الداخلية السنغافورية في يناير 2019 من تزايد تهديدات المقاتلين العائدين من سوريا والعراق، حيث تشير بعض التقديرات إلى وجود مئات الأفراد من جنوب شرق آسيا في سوريا والعراق، وقد عاد عدد قليل منهم إلى دولهم الأصلية، وقاموا بالتخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية هناك. فعلى سبيل المثال، نجحت الشرطة الماليزية في عام 2015 في إحباط سلسلة من الهجمات الإرهابية التي تم تخطيطها من قبل بعض الإرهابيين الماليزيين العائدين من سوريا والعراق، والتي كانت ستستهدف بعض مراكز الشرطة، ومعسكرات الجيش. كما يتم التحذير من جانب المؤسسات الأمنية في سنغافورة من احتمالية استئناف بعض الإرهابيين بدول الجوار -مثل إندونيسيا وماليزيا- الذين انتهت مدة عقوبتهم لأنشطتهم الإرهابية ما لم تتم إعادة تأهيلهم.

5- انتشار التطرف الديني: كشف استطلاع رأي بعنوان "التسامح والقابلية للتطرف" أجرته مؤسسة "ميرديكا سنتر" الماليزية (Merdeka Center)، في نوفمبر 2018، في كلٍّ من: ماليزيا، وإندونيسيا، وتايلاند، والفلبين؛ عن تزايد التعاطف مع الجماعات المتطرفة في جنوب شرق آسيا، حيث أعرب 18% من المبحوثين في ماليزيا عن تأييدهم لأنشطة الجماعة الإسلامية المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، في مقابل تأييد 12.6% للجماعة في إندونيسيا، و15.7% في الفلبين، و9.9% في تايلاند، كما وصل مستوى تأييد "داعش" في ماليزيا إلى حوالي 5.2%، و3.8% في الفلبين، و2.4% في تايلاند، و1.3% في إندونيسيا، وهو ما اعتبرته بعض المؤسسات الأمنية السنغافورية مؤشرًا على وجود حواضن اجتماعية مهيأة لانتشار التطرف في دول الجوار.

ختامًا، يمكن القول إن الحكومة في سنغافورة تكثف استعداداتها لمواجهة تهديد إرهابي مُحتمل على الرغم من عدم وجود مؤشرات على وجود تغير جوهري في مستوى التهديدات الإرهابية داخل سنغافورة، وهو ما يرجع إلى اتباع الأخيرة استراتيجية استباقية تقوم على مواجهة التهديدات قبل وقوعها، والتحسب لتزايد اتجاهات التطرف في دول الجوار وتمركز الجماعات الإرهابية المتطرفة بها، واحتمالات انتقال التهديدات الإرهابية عبر الحدود إلى سنغافورة، خاصةً في ظل اعتبارها أن جنوب شرق آسيا بصدد التحول إلى بؤرة تمركز للجماعات الإرهابية.