أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

جدل أكاديمي:

"مكانة الدول" .. وهم أم قوة في السياسات العالمية؟

15 أغسطس، 2017


عرض: رغدة البهي، مدرس العلوم السياسية المساعد - جامعة القاهرة

في اتجاهٍ معاكس للاقترابات التقليدية التي تؤكد أهمية الهيبة والمكانة الدولية، أو ما يمكن تسميته بـ"البرستيج الدولي"، التي تُعزز من قوة الدولة وتُحقق غاياتها، وتُعد مصدرًا من مصادر قوتها الناعمة، وعنصرًا لا غنى عنه في السياسات الخارجية العقلانية للدول؛ يُجادل "جوناثان ميرسر" (أستاذ العلوم السياسية بجامعة واشنطن)، في دراسته المُعنونة "وهم البرستيج الدولي" المنشورة في دورية "الأمن الدولي" International Security، في عددها الرابع الصادر في ربيع 2017، أن "البرسيج" لا يعدو كونه وهمًا.

وهو ما دلل عليه "ميرسر" بأمرين: أولهما، أن صانعي السياسات يستخدمون أحاسيسهم الذاتية للدلالة على مكانة دولهم، كما لو تطابقت نظرتهم إلى بلادهم مع نظرات الآخرين لها. وثانيهما، أن العوامل السياسية والنفسية تُؤثر في الكيفية التي يُقيّم بها صانعو السياسات مكانة الدول الأخرى، والتي عادة ما يتم التقليل منها، ودحض أهميتها، بل وإنكار وجودها.

الحجج التقليدية: 

استهل "ميرسر" دراسته بإشكاليتين رئيسيتين هما العمود الفقري لها: أولهما، كيف يُقيِّم صانعو السياسات "برستيج" دولهم؟ وثانيهما، كيف يُقيّمون "برستيج" الدول الأخرى؟ ففي نظره، لا يمكن الوقوف على مكانة دولةٍ ما بمعزلٍ عن الكيفية التي تُدرك بها الدول الأخرى تلك المكانة، وهي الكيفية التي تساءل الكاتب عن وحدتها؟ بمعني هل يصل صانعو السياسات الروسيون والأمريكيون والألمانيون إلى استنتاجاتٍ موحدة بشأن مكانة بريطانيا على سبيل المثال؟ أم سيختلف كلٌّ منهم في تفسيرها؟.

عرّف الكاتب "البرستيج" -وفقًا لمعجم أوكسفورد - بالاحترام والإعجاب. ويؤكد الخبراء دور المعتقدات الجماعية في تحديد ما يستحق الإعجاب، وهو أمرٌ نسبي رهنًا باختلاف تلك المعتقدات من مجتمعٍ إلى آخر. ومن ثَمّ، "البرستيج" مفهوم علائقي Relational Concept، يعتمد على اعتقادات الدول الأخرى، بصرف النظر عن الكيفية التي تُدرك بها الدول ذواتها، وهو أمرٌ نسبي، يتولد عنه الاحترام الطوعي Voluntary Deference، أي "الامتثال لرغبات الفرد وتفضيلاته وإرادته دون أن يُصاحب ذلك تهديد أو إكراه"، وبذلك المعنى يصبح نوعًا من أنواع "القوة ا لناعمة".

الاقتراب التقليدي لدراسة المفهوم يُوظف الطبيعة البشرية لشرح دوافع ومحددات صانعي السياسات من وراء "البرسيتج" الذي يظل متأصلًا في تفضيلات الإنسان، كونه سمةً من سماته الفطرية، وبنفس اهتمام البشر بمكانتهم وتقدير الآخرين لهم، تهتم الدول بمكانتها الدولية. إذ يؤكد " هانز مورجنثاو" أن "سياسات البرستيج" هي عنصر جوهري في علاقات الدول، كما هي في علاقات الأفراد. على سبيل المثال، تَستخدم "نظرية الهوية الاجتماعية" Social Identity Theory الرغبة العالمية Universal Desire في تقدير الذات Self-Esteem لشرح كيف تدفع الحاجة إلى "التمييز الإيجابي" Positive Distinctiveness لدى البشر إلى الاعتقاد بتمايز الجماعات التي ينتمون إليها مقارنةً بالجماعات الأخرى.

ويتشكك الباحثون في الاقترابات التقليدية التي ترى أن "سياسات البرستيج" عقلانية، لأنها تولد الاحترام الطوعي لسببين: أولهما، أن غالبية الدراسات الكمية تعتمد على عدد دبلوماسيي الدولة للدلالة على برستيجها، وما تتمتع به من احترام طوعي، لكن هذه الدراسات لا تُقدم تفسيرًا لذلك. ثانيهما، أن الدراسات الوصفية -بما في ذلك التاريخية- تعجز عن قياس مكانة الدولة مقارنةً بغيرها.

علم النفس و"البرستيج": 

وظّف "ميرسر" علم النفس لشرح لماذا يُعتبر "البرستيج" وَهْمًا في السياسة الدولية؟ مُشيرًا إلى الخطأ الذي وقع فيه صانعو السياسات بربطهم بين مشاعرهم الذاتية ومكانة دولهم القومية، مفرقًا بين الفخر Pride و"البرستيج" Prestige، رغم التقارب في معنيهما؛ فقد يشعر صانعو السياسات بالفخر لأن الدول الأخرى تنظر إلى دولهم بإعجاب.

وبررت الدراسة الخلط بين كلا المفهومين من خلال أمرين: أولهما، التعميم وتوظيف المشاعر والتجارب الذاتية لصانعي السياسات للدلالة على مكانة دولهم. واستشهدت الدراسة بالخلاصة التي قدمها عالم النفس "داريل بيم" Daryl Bem، بقوله: "إن البشر لا يفكرون في المعتقدات التي ترتكن إلى حواسهم أو على تجاربهم، لأنهم لا يشككون في صحة حواسهم، ويصدقون خبراتهم". وبالقياس إلى مستوى الدول، يُسقط صانعو السياسات من تجاربهم وأحاسيسهم على دولهم لتوصيف ما تحظى به من مكانة.

ويعزو ثانيهما إلى "مشاعر الجماعة" Group Emotion التي هي أقوى وأكثر تأججًا من المشاعر الفردية. فانتماء المواطنين إلى دولهم يُعزز من شعورهم بالفخر تجاهها، ويدفعهم للاعتقاد فيما اكتسبته بلادهم من مكانةٍ دولية، والعكس صحيح. فمثلًا، عزز فوز بريطانيا بالميداليات الذهبية الأوليمبية في عام 2016 من مشاعر الفخر البريطانية، ومن ثَم من "البرستيج البريطاني".

وعليه، وقفت الدراسة على حجتين رئيسيتين: أولاهما، لا يجب أن يستخدم صناع السياسات مشاعرهم تجاه سلوك دولهم كدليل على مكانتها. ثانيهما، لا ينبغي أن يوجد فارق في تقييم الدول لمكانة بعضها بعضًا.

حالة جنوب إفريقيا:

لمعالجة السؤال البحثي الرئيسي الأول الذي سعت الدراسة للإجابة عليه، والمتصل بكيفية تقييم الفاعلين -على اختلافهم- لبرستيج دولهم، صاغ "ميرسر" افتراضين فرعيين؛ أولهما، "إذا اعتقد الفاعل في معرفة برستيج دولته، بُني ذلك البرستيج على اعتقاداتٍ ذاتية". وثانيهما، "إذا اعتقد الفاعل في معرفة برستيج دولته، بُني ذلك البرستيج على مشاعر ذاتية".

وللإجابة على السؤال البحثي الثاني المتعلق بكيف يُقيم الفاعلون "برستيج" بعضهم، طرح "ميرسر" افتراضين آخرين؛ أولهما، "لا يوجد فارق أو اختلاف بين الفاعلين في كيفية تقييم البرستيج الدولي، فإذا اكتسب أحد الفاعلين مكانةً متميزة، استحق عليها إشادة مختلف الفاعلين به، وأظهروا له الاحترام الطوعي". وثانيهما، "أن الإشادة ببرستيج دولة ما له طابع وظيفي، بمعنى أن خصوم الدولة لن يشيدوا به، وإن أقدم حلفاؤها على ذلك، ولكن بقليل من الاحترام الطوعي".

استخدم الكاتب حالة حرب جنوب إفريقيا (1899-1902) لاختبار الافتراضات الأربعة، معتبرًا أن توظيف التاريخ له وجاهته؛ لأن النظريات التي تفسر السلوك اليوم تنطبق على صانعي السياسات في القرن العشرين أيضًا. ويعود اختيار الكاتب لحالة حرب جنوب إفريقيا إلى هوس صانعي السياسات في تلك الفترة الاستعمارية بمكانة دولهم، وهو الأمر الذي انعكس في المستعمرات التابعة لها. وفي تلك الحالة، أدركت بريطانيا أنها بين خيارين إما الحرب أو فقدان برستيجها الدولي، ورغم ذلك واصلت الحرب رغم تكلفتها المتزايدة.

وللإجابة على السؤالين محل الاهتمام، فحص الكاتب الأدلة التي استخدمها صانعو السياسة البريطانيون قبل وأثناء الحرب لقياس مكانة بريطانيا، كما ركز على الطريقة التي قيّم بها أربعة من حلفاء بريطانيا (نيوزيلندا، وأستراليا، وكندا، والولايات المتحدة) مكانتها عقب الهزائم والانتصارات البريطانية.

أثبتت الدراسة صحة الافتراضين الأول والثاني من السؤال الأول؛ فالشغل الشاغل للدول في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان "البرستيج"، والدليل على ذلك كان المستعمرات التابعة للإمبراطوريات الكبرى، على نحو يُفسر المساعي البريطانية لبناء إمبراطورية مترامية الأطراف، والرغبة في الحفاظ عليها.

اتخذ صانعو القرار البريطانيون قرار الحرب في جنوب إفريقيا بسبب مخاوفهم من أن خسارة أي مواجهة تتحدى الحكم البريطاني سَتُقوض من مكانة بريطانيا في الهند التي يعتقدون أنها سَتُكلف بريطانيا إمبراطوريتها. ومع ذلك لم تدرس بريطانيا ما يعتقده الهنود بشأن هيبتها أو مكانتها، ولا يوجد دليل على سعيها لمعرفة كيف قام الحلفاء والخصوم بتقييم مكانتها بعد النصر أو الهزيمة. فلم تحدث أي مناقشة لذلك في البرلمان أو مجلس الوزراء البريطاني.

كان البريطانيون حريصين على الدفاع عن هيبة بريطانيا، لكنهم لم يهتموا بما يعتقده الآخرون حول هذا الأمر، بل شعروا بأنهم يعرفون بالفعل ما يعتقده الآخرون عن ذلك. فكانت بريطانيا أسطورةً في عقول البريطانيين الذين استخدموا مشاعرهم الذاتية للدلالة على مكانة دولتهم.

خلافًا للحجة التقليدية، توقع "ميرسر" أن تتباين نظرة وتقييم مختلف الدول للمكانة البريطانية، تبعًا لمصالحها السياسية. وقد قيّم حلفاء بريطانيا وخصومها المكانة البريطانية بطرق تخدم مصالحهم. كما وُجدت أمثلة على الاحترام الطوعي لبريطانيا من قبل كلٍّ من نيوزيلندا وأستراليا. ومع ذلك، إذا كانت الإمبراطورية البريطانية العظيمة لا تستطيع أن تحصل على الاحترام الطوعي من مستعمرتين بريطانيتين متمتعتين بالحكم الذاتي إلا بالكاد ونادرًا؛ فإن سياسات "البرستيج" لم يكن لها سوى قيمة استراتيجية ضئيلة.

وختامًا، تفترض الاقترابات التقليدية أن السعي وراء "البرستيج الدولي" -سواء كان ذلك السعي عقلانيًّا أم غير عقلاني- أمرٌ لا مفر منه. ولكن الكاتب أثبت خطأ ذلك، وتوصل إلى أن الطبيعة البشرية ليست المحك في تلك السياسات، وأن صانعي القرار قادرون على الفصل بين مشاعرهم الذاتية ومكانة دولهم، وأن تلك السياسات -وإن تعاظمت تكلفتها- نادرًا ما تنعكس على المكانة الدولية، ولذا لا يوجد ما يبررها، متوقعًا أن تصبح مفارقةً تاريخية، شأنها في ذلك شأن شن الحرب دفاعًا عن سمعة الدولة.

المصدر:

Jonathan Mercer, The Illusion of International Prestige, International Security, Volume 41, Number 4, Spring 2017, pp. 133-168.