أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

ضغوط ترامب:

كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟

19 ديسمبر، 2024


ظل المحور الألماني الفرنسي على مدار عقود طويلة المحرك الأساسي للمشروع الأوروبي منذ إرهاصاته الأولى وحتى الآن، حيث تُعد فرنسا وألمانيا من الدول الست الأوائل المؤسسة للمجموعة الأوروبية للفحم والصلب التي أفضت إلى تأسيس الاتحاد الأوروبي، وهما الدولتان الأكبر سكاناً واقتصاداً ووزناً تصويتياً في الاتحاد. 

وخلال شهري نوفمبر وديسمبر 2024، شهدت حكومتا برلين وباريس سقوطين متتاليين، فعقب أزمة بين وزير المالية الألماني السابق، كريستيان ليندنر، من الحزب الليبرالي، والمستشار أولاف شولتس بشأن قضايا "كبح الديون" والاقتراض، سقط الائتلاف الحاكم بخروج الحزب الليبرالي من الحكومة الألمانية في 6 نوفمبر الماضي؛ ليتبقى فقط الاشتراكيون والخضر. أما في باريس؛ فتم سحب الثقة من ميشال بارنييه، رئيس الوزراء الفرنسي، بعد تصويت دعمه تحالف اليسار واليمين المتطرف في 4 ديسمبر الجاري.

وتأتي هذه التغيرات الأوروبية في ظل اقتراب تنصيب دونالد ترامب رسمياً كرئيس للولايات المتحدة في 20 يناير 2025، والذي يُتوقع أن تتبعه زيادة الأعباء على الإنفاق العسكري الأوروبي، وحروب تجارية سوف تُلقي بظلالها على الاقتصاد الأوروبي.

انهيار الحكومات:

يمكن توضيح سياقات وأسباب عدم استقرار الحكومات في ألمانيا وفرنسا خلال الفترة الأخيرة، من خلال الآتي:

1- حالة ألمانيا: تميزت ألمانيا بنظام سياسي وانتخابي غالباً ما يفرز ائتلافات حاكمة تجمع الأحزاب الكبرى في حكومات موحدة. فقد ظل مفهوم الائتلاف الكبير مُسيطراً على البرلمان الألماني، خاصةً في معظم فترات حكم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل. وعلى مدار 75 عاماً، لم تشهد ألمانيا سوى تسعة مستشارين وحكومات مستقرة. 

وفي عام 2021 مع فوز الاشتراكيين وعدم قدرتهم على امتلاك أغلبية مطلقة، وتراجع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي؛ وافق كل من الخضر والليبراليين على تكوين ائتلاف "إشارة مرور". وخلال السنوات الثلاث الماضية، كان هناك خلاف كبير بين الاشتراكيين والليبراليين حول خطط الإصلاح الاقتصادي، بما يشمل الضرائب والأجور والاقتراض وغيرها من الخلافات الأيديولوجية، وهو ما أسهم في النهاية برفض وزير المالية السابق، كريستيان ليندنر، تخفيف النسبة المُتفق عليها للديون أو ما سُمي بـ"فرملة الديون"، فضلاً عن رغبته في تخفيضات الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، والتي تمثل ركناً أساسياً لتيار الوسط اليساري ممثلاً في الاشتراكيين والخضر. وهذا ما دفع المستشار الألماني، شولتس، إلى إقالة ليندنر؛ لينهار بذلك الائتلاف الحاكم بخروج الليبراليين، وتتم دعوة البرلمان للتصويت على سحب الثقة من الحكومة في 16 ديسمبر الجاري، وصوت بالفعل 394 نائباً لسحب الثقة من شولتس؛ ومن ثم الدعوة إلى انتخابات مبكرة في 23 فبراير 2025. 

2- حالة فرنسا: نجح إيمانويل ماكرون في الفوز برئاسة فرنسا لولاية ثانية عام 2022، في ظل وجود دعم من الأحزاب التقليدية في الجولة الثانية من هذه الانتخابات لمنع مرشحة حزب التجمع الوطني اليميني المتشدد، مارين لوبان، من الوصول إلى سدة الحكم في باريس. بيد أن نتائج الانتخابات التشريعية لم تأتِ في صالح ماكرون وحزبه المتراجع؛ ليشكل حكومة أقلية يمينية برئاسة إليزابيث بورن، حتى يناير 2024، ثم يتولى خلفها غابرييل أتال رئاسة حكومة كانت تجهز للانتخابات الأوروبية في يونيو 2024، والتي شهدت تراجع تحالف ماكرون اليميني الوسطي، وتقدم حزب التجمع الوطني؛ ليقرر ماكرون بعدها حل البرلمان الفرنسي أملاً في الحصول على أغلبية تشريعية، ولمواجهة تصاعد شعبية لوبان. وعلى الرغم من أن ماكرون ليس من حقه الترشح لفترة رئاسية ثالثة في عام 2027؛ فقد وضع على عاتقه محاولة وقف زحف زعيمة اليمين المتطرف. 

وجاءت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية في يوليو 2024، في غير صالح ماكرون وحزبه الذي تراجع للمرتبة الثانية خلف تحالف اليسار الذي جاء في المقدمة؛ لينقسم البرلمان الفرنسي إلى ثلاث كتل سياسية لا تستطيع أي منها تشكيل حكومة، ثم أصبح برلماناً معلقاً لا يمكن حله قبل عام؛ أي أن ماكرون خلق أزمة سياسية دون داعٍ، ولاسيما وأنه انقلب على تحالفه مع اليسار ضد لوبان، ورفض اختيار رئيس وزراء ذي خلفية اشتراكية أو من اليسار الراديكالي؛ بل شكل حكومة أقلية جديدة مستنداً إلى دعم حزب التجمع الوطني في التشريعات الخاصة بالهجرة واللجوء. 

وفي 4 ديسمبر الجاري، صوت كل من تحالف اليسار وحزب التجمع الوطني؛ لسحب الثقة من ميشال بارنييه بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه رئاسة الحكومة الفرنسية؛ ليكون بذلك رئيس الوزراء الثالث الذي يخرج من السلطة في عام واحد؛ وذلك نتيجة محاولته تمرير ميزانية تقشفية تضمنت تخفيضاً بقيمة 60 مليار يورو لمواجهة عجز الموازنة المتزايد عن النسب المسموح بها على مستوى الاتحاد الأوروبي. ولجأ بارنييه للمادة (49.3) والتي تسمح بتمرير التشريعات دون موافقة البرلمان مع منح النواب أحقية التصويت على سحب الثقة؛ كي يمرر مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي، والذي يخفض من الإنفاق في ميزانية عام 2025؛ لذا صوت 331 نائباً من أصل 577 في البرلمان الفرنسي لإسقاط حكومة بارنييه. 

وبعد اجتماع الرئيس ماكرون مع الأحزاب الممثلة في البرلمان، الذي استثنى منه جان لوك ميلينشون ولوبان، تم اختيار رئيس حزب موديم الوسطي، فرانسوا بايرو، حليف ماكرون، في 13 ديسمبر الجاري؛ ليتولى رئاسة الحكومة الجديدة ويُعد مشروع الموازنة. وهناك احتمالات لسقوط هذه الحكومة مرة أخرى، مع عدم القدرة على الدعوة لانتخابات جديدة قبل يوليو 2025.

وبشكل عام، يتشابك هذا المشهد مع معضلتين: الأولى تتعلق بالحليف الألماني الذي واجه أزمات خلافية على الموازنات المالية مع الائتلاف الحاكم، ولاسيما الليبراليين في عامي 2023 و2024. والفارق أن ماكرون مثّل الجانب اليميني الرافض لأطروحات اليسار في قضايا الرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية، فيما كان شولتس والخضر يمثلان الأطروحات اليسارية لزيادة الإنفاق العام، في مواجهة الليبراليين المؤيدين لبيئات الأعمال الخافضة للضرائب والإنفاق العام. 

وتمثلت المعضلة الثانية في استمرار تداعيات وباء كورونا خلال بداية حكم شولتس وائتلافه والفترة الثانية من حكم ماكرون، وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تزال مستمرة وتُلقي بظلالها على الاقتصادات الأوروبية. وهذا ما يطرح تساؤلات حول قدرة المحور الألماني الفرنسي على مواجهة التحديات القادمة مع عودة ترامب، وخاصةً في ظل استمرار عدم استقرار الأوضاع السياسية في برلين وباريس، والذي من المُرجح أن يستمر على الأقل خلال النصف الأول من 2025، فضلاً عن المشكلات الاقتصادية لألمانيا وفرنسا فيما يتعلق بالدين العام، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، والركود، وغيرها من مؤشرات اقتصادية ضاغطة، بالرغم من اختلاف السياسات الاقتصادية في الحالتين.

تداعيات مُحتملة:

يطرح عدم الاستقرار السياسي في برلين وباريس عدة تساؤلات وتوقعات، بدايةً من الأداء الاقتصادي الحالي والمُتوقع خلال 2025، وآلية التعامل مع الحروب التجارية في ولاية ترامب الثانية، مع تباين نهج التعامل مع الصين، والموقف الأوروبي تجاه سيناريوهات وقف الحرب في أوكرانيا أو حاجة كييف لمزيد من الدعم العسكري والمالي والإنساني، مع الأخذ في الاعتبار تباين تحركات ومواقف شولتس وماكرون تجاه القضايا السابقة، وكذلك الفترة المتوقعة لاستقرار الحكومات في كلا البلدين وتأثيرها في السياسة الخارجية لهما. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

1- تباين القيود على التحركات الداخلية والخارجية: من المُقرر أن تُجرى الانتخابات البرلمانية الألمانية خلال 60 يوماً بعد إعلان شولتس حل البرلمان بغرفتيه؛ وهو ما يعني أن هناك فترة بين جلسة التصويت على سحب الثقة التي تمت في 16 ديسمبر الجاري وموعد الدعوة إلى الانتخابات، يُضاف إلى ذلك المدة المتوقعة لتشكيل ائتلاف حاكم، وهي طبقاً للسوابق التاريخية لن تقل عن ثلاثة أشهر وأحياناً تتخطى ستة أشهر.

ويُرجح استطلاع رأي منشور في منتصف ديسمبر الجاري، أن يأتي حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بقيادة فريدريش ميرز في المرتبة الأولى بنسبة 31%، يليه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف (18%)، ثم الاشتراكيين بقيادة شولتس (17%)، والخضر 13%؛ ليقترب بذلك ميرز من منصب مستشار ألمانيا. وبفرض أن هناك ممانعة من الأحزاب التقليدية (يمين ويسار) للتعاون مع اليمين المتطرف؛ فإن تشكيل حكومة منفردة بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي يبدو صعباً حتى الآن. 

وفي فرنسا، فإن رئيس الحكومة الجديدة، بايرو، لا يمتلك دعماً كافياً يُمكنه من البقاء حتى يوليو 2025؛ وهو الموعد الأقرب للدعوة لانتخابات تشريعية أخرى. وخلال هذه الفترة، سيبقى بايرو أو غيره لتسيير الأعمال، مع السعي لإقرار على الأقل العمل ببنود ميزانية 2024 لحين التوافق على موازنة لعام 2025. وبحكم أن صلاحيات السياسة الخارجية والأمنية في يد الرئيس الفرنسي طبقاً للدستور، فإن هامش تحركات ماكرون الخارجية يبدو مرناً إلا فيما يتعلق بأي تشريعات مالية تجاه الإنفاق العسكري ودعم أوكرانيا فهي أقرب لتوقفها أو عقد صفقات داخلية مع اليسار أو التجمع الوطني. وفي المقابل، فإن برلين ستظل مقيدة كون أي تحرك هو في الأصل نتاج حكومة موحدة وموافقة برلمانية، فضلاً عن انشغال الجميع بالترويج للبرامج الانتخابية؛ ومن ثم ستكون السياسة الخارجية في قضايا الدفاع والأمن، ومساهمة الدولة في التمويلات الأوروبية، محل نقاش انتخابي.

2- تحديات أمام الإنفاق العسكري ودعم أوكرانيا: تُعد ألمانيا الدولة الثانية في قائمة الدول التي تدعم أوكرانيا عسكرياً بعد الولايات المتحدة، وهي الدولة الأوروبية الأولى بمساهمة بلغت 14.7 مليار يورو في الفترة من 24 يناير2022 وحتى 30 يونيو 2024، فيما تبلغ مساهمة فرنسا خلال نفس الفترة نحو 4.44 مليار يورو؛ لتأتي في المرتبة التاسعة عالمياً والخامسة على المستوى الأوروبي. وبالرغم من الفجوة الكبيرة بين تمويل برلين وباريس لكييف؛ فقد انتقدت باريس موقف شولتس من الحرب ونهجه في عدم التصعيد ضد روسيا وعدم مد كييف ببعض الأسلحة مثل صواريخ كروز طويلة المدى من طراز "توروس"، أو إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا. 

وفي ظل عدم إقرار ميزانية عام 2025 لكل من ألمانيا وفرنسا، لا يستطيع البلدان حالياً توجيه المزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا. وبينما يرغب شولتس في زيادة الاقتراض؛ كي ينفق على البنية التحتية الأساسية ويُرسل مساعدات عسكرية لأوكرانيا في ظل تخوفه من تحميل ترامب نفقات الحرب الأوكرانية بصورة أكبر للدول الأوروبية؛ فإن فرنسا أيضاً لا تستطيع توجيه دفعات مالية لكييف؛ كون ميزانية 2025 التي رفضها البرلمان ناقشت بند مساهمة فرنسا في الموازنة الأوروبية، والتي من المُفترض أن تأتي بعد تشكيل المفوضية والتحضير لمناقشة الموازنة الإطارية للاتحاد الأوروبي؛ ومن ثم فإن مشاركة برلين وباريس في المناقشات الأوروبية حتمية لتوجيه مسار الدعم العسكري لأوكرانيا. 

يُضاف إلى ما سبق، ما سوف يمارسه ترامب من ضغوط على دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" لزيادة إنفاقها العسكري، وتحمُل أعباء أكبر سواء في الحرب الأوكرانية حال استمرت، أو حيال منظومة الدفاع الأطلسي، وهو ما يتطلب رؤية موحدة من المحور الألماني الفرنسي تجاه منظومة الدفاع الأوروبي، والتي سوف تصبح أكثر تهديداً من قِبل روسيا في ظل هذا الابتزاز الأمريكي.

3- خسائر وأزمات اقتصادية: في حين أُسس النموذج الألماني على ثلاثية اعتمدت الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة وحمايتها، والشراكة الاقتصادية مع الصين، وانخفاض سعر الطاقة الروسية؛ تبدلت الأوضاع بعد الحرب الأوكرانية عام 2022 وما أعقبها من تخلٍ تدريجي عن الطاقة الروسية والاعتماد على موردين أكثر تكلفة، بالإضافة إلى التنافس مع الصين في ضوء السياسات الحمائية والحروب التجارية المتبادلة، وغيرها من العوامل التي أسهمت في زيادة الدين العام، وارتفاع عجز الموازنة، والرغبة في فرض حالة طوارئ في برلين، بخلاف تراجع صناعات كبرى مثل السيارات.

من ناحية أخرى، تخطى عجز الموازنة في فرنسا 6.1%، وهو أكبر من النسبة المُحددة في الاتحاد الأوروبي بنحو 3%، وبلغ الدين العام 110% من الناتج المحلى الإجمالي، وصُنفت أسواق السندات الفرنسية بأنها أقل جدارة ائتمانية من اليونان؛ وهو ما يتزامن مع قدوم ترامب الذي ينوي فرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية ما بين 10 و20%.

ومن ثم فمن المُتوقع وجود أزمات اقتصادية وعدم استقرار سياسي لدولتين تُمثلان نحو 41% من الناتج المحلى الإجمالي للاتحاد الأوروبي؛ ما يعني بالضرورة صعوبة اتخاذ قرارات حاسمة وعاجلة لمواجهة التحديات القادمة. وليس هناك أسوأ من توقعات "المعهد الاقتصاد الألماني" الذي قدّر أن الحرب التجارية المتوقعة بين الولايات المتحدة في عهد ترامب، والاتحاد الأوروبي؛ يمكن أن تضر الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنحو 134 مليار يورو عند نهاية الولاية الرئاسية لترامب عام 2028.