أخبار المركز
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)

تردد عسكري!

فهم أبعاد الجدل الدائر حول الهجوم الأوكراني المضاد

18 مايو، 2023


دأبت وسائل الإعلام الغربية، منذ مطلع 2023، على الحديث عن هجوم أوكراني مضاد واسع خلال هذا الربيع لاستعادة مناطق واسعة من سيطرة روسيا. وعلى الرغم من أن مكان هذا الهجوم، وموعده ظلا أمران سريان، إلا أن التكهنات حول مكان الهجوم كانت تركز بشكل رئيسي على زاباروجيا على أن تسعى القوات الأوكرانية للوصول إلى بحر آزوف، وتدمير الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بمنطقة كراسنودار الروسية، وبذلك تصبح القوات الأوكرانية على مشارف القرم، وهو الأمر الذي يجبر روسيا على سحب قواتها في شرق خيرسون باتجاه زاباروجيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن مثل هذا الهجوم لم يبدأ، وصدرت تصريحات أوكرانية متضاربة حول الأمر.  

خطاب أوكراني مرتبك:

على الرغم من تأكيد أوكرانيا تحضيرها لهجوم عسكري مضاد، فإن هذا الأمر لم يتحقق، وصدرت تصريحات أوكرانية مترددة، وتسريبات أمريكية سلبية حيال ذلك الهجوم، وهو الأمر الذي يمكن تفصيله على النحو التالي: 

1- استعدادات أوكرانية متواصلة: حصلت أوكرانيا على أسلحة غربية متنوعة، فقد باتت مسلحة بالدبابات الأوروبية وناقلات الجند المدرعة الأمريكية، كما أن لديها وحدات جديدة مدربة ومجهزة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وقوات "الناتو". ويقدر عددها بحوالي 50 إلى 100 ألف جندي.

وأكدت المملكة المتحدة تزويدها أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى من طراز "ستورم شادو"، وهو من الصواريخ المجنحة، الذي يبلغ مداه أكثر من 250 كيلومتراً، وهو ما يزيد عن مدى صواريخ "هيمارس" الأمريكية، والتي يبلغ مداها نحو 80 كيلومتراً فقط، والتي ساعدت الجيش الأوكراني في استعادة مناطق واسعة من روسيا في خاركيف في سبتمبر 2022. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك معلومات أوكرانية وغربية تشكك في كفاية الإمدادات الغربية لشن الهجوم المضاد. 

2- تضارب تصريحات المسؤولين: يلاحظ أن التصريحات الرسمية الأوكرانية حيال الهجوم المضاد جاءت متضاربة، فقد أكدت نائبة وزير الدفاع الأوكراني، آنا ماليار، في 19 إبريل 2023، أن: "القوات الأوكرانية بدأت هجوماً مضاداً في 4 محاور في دونباس، هي: أرتيموفوسك (باخموت) ومارينكا وأفدييفكا وليمان"، مدعية أن القوات الأوكرانية تتقدم بنجاح في محاور ليمان وأفدييفكا ومارينكا.

وفي المقابل، صرح الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في 11 مايو 2023، أن جيشه يحتاج مزيداً من الوقت للتحضير لهجوم مضاد يهدف لصد القوات الروسية، مضيفاً أنه: "من غير المقبول شن الهجوم الآن لأن الكثير من الأرواح ستزهق"، في مؤشر محتمل على أن الكفاءة القتالية للقوات الأوكرانية ليست مرتفعة، أو أن الاستعدادات المضادة الروسية قوية. وأكد وزير الدفاع الأوكراني أن معدلات الآمال المرتفعة من الهجوم الأوكراني المضاد قد تكون مضرة.

3- تسريبات أمريكية سلبية: صاحبت التصريحات الأوكرانية السابقة تسريبات من وزارة الدفاع الأمريكية بأن أوكرانيا لن تتمكن من تشكيل حملة عسكرية ضخمة لاستعادة أراضيها في الشرق والجنوب في الوقت الحالي بسبب نقص كبير في الذخيرة والإمدادات العسكرية وخصوصاً أنظمة "أس-300" للدفاع الجوي التي من المتوقع أن تنفد ذخائرها بحلول نهاية مايو ما سيشكل فرصة كبيرة لاستخدام القوات الجوية الروسية في الحرب بشكل مباشر.

4- تقييمات أمريكية متضاربة: يلاحظ أن الولايات المتحدة تتبنى مواقف متباينة من الهجوم الأوكراني المضاد، غير أنه في التحليل الأخير، بات من الواضح أن رهانات الولايات المتحدة على تمكن الجيش الأوكراني من استعادة كافة الأراضي الأوكرانية المحتلة قد تراجعت، وهو ما يتضح من موقفين. أولهما تضارب مواقف الإدارة الأمريكية، إذ أن وزارة الخارجية، والتي تتبنى أكثر المواقف تشدداً ترى أن هدف الهجوم المضاد هو استعادة كافة الأراضي الأوكرانية التي احتلت بعد فبراير 2022، أي أن شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا في 2014، لم تصبح هدفاً للهجوم المضاد. فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في تصريح أصدره في مايو 2023 أن ما يحتاجه الأوكرانيون هو النجاح في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا خلال الأربعة عشر شهراً الأخيرة. وفي المقابل، فإن مسؤولي البيت الأبيض، وفقاً لصحيفة النيويورك تايمز، يتحدثون عن حل يرضي أوكرانيا وروسيا، إذا ما بدأت مباحثات سلام حقيقية، وهو ما يعني في النهاية اضطرار أوكرانيا للتنازل عن سيادتها عن بعض أراضيها لصالح روسيا، وهو تحوّل لافت في الموقف الأمريكي،

وثانياً، أنه بات هناك إجماع من جانب المسؤولين الأمريكيين بأن الهجوم الأوكراني المضاد في الربيع سوف يمهد الطريق أمام مباحثات سلام. وذلك على الرغم من أن المدى الزمني للهجوم، أو معيار النجاح فيه غير واضح بالنسبة لهم، غير أن التفكير في مباحثات سلام يكشف في حد ذاته عن تقييمات غربية متحفظة لحدود نجاح مثل هذا الهجوم. ولعل ما يؤكد ذلك أن الجنرال مارك مايلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة، يُعد من أقوى الأصوات المنادية بأهمية التفاوض بين روسيا وأوكرانيا.

فهم التردد الأوكراني: 

تضارب تصريحات المسؤولين الأوكرانيين والأمريكيين حول الهجوم المضاد، فضلاً عن تأخيره يمكن فهمه بالاستناد إلى أحد التفسيرات التالية: 

1- مصالح أوكرانية على المحك: يضع الهجوم المضاد ضغطاً كبيراً على الرئيس الأوكراني في حالة فشله في استعادة مساحات واسعة من روسيا، إذ أن ذلك سوف يدفع الغرب للضغط على زيلينسكي للجلوس على طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي، وتقديم تنازلات مذلة.

2- تضليل معلوماتي محتمل: يلاحظ أن الحديث المتضارب من جانب المسؤولين الأوكرانيين والغربيين عن الهجوم المضاد قد يدخل في إطار التضليل المعلوماتي، الذي يستهدف بدرجة أساسية منع روسيا من تحديد مكان الهجوم وموعده للحفاظ على عنصر المفاجئة. ويبدو أن أغلب وسائل الإعلام الروسية تؤيد هذا الرأي، إذ أن غالبيتها ترى أن الهجوم الأوكراني المضاد لم يبدأ بعد. 

3- استنزاف الجيش الأوكراني: يلاحظ أن الخبراء العسكريين الأمريكيين والبريطانيين قد تفاوتت آراؤهم حيال تقييم جدوى دفاع أوكرانيا عن مدينة باخموت الاستراتيجية. ففي حين رأت واشنطن أن الدفاع عن المدينة قضية خاسرة، إذ أنها ستسقط في النهاية في يد الروس، فإن الخبراء البريطانيين دعموا الموقف الأوكراني الذي يرى ضرورة الدفاع عن المدينة، حتى وإن تكبدوا في ذلك خسائر فادحة، وذلك نظراً لأن هذا الأمر سوف يمثل استنزافاً للقوات الروسية، كما أنه سيمنعها من الاستيلاء على مناطق واسعة من دونيتسك، إذا ما سقطت باخموت في أيديها. 

وأياً ما كان الأمر، فقد كان من الواضح أن القوات الأوكرانية قد تعرضت هي الأخرى للاستنزاف العسكري، دفاعاً عن المدينة، في حين أن روسيا تمكنت، في النهاية، من إحكام السيطرة عليها في 20 مايو 2023. وعلى الرغم من نفي القادة الأوكرانيين سقوطها، فإن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ألمح إلى خسارة المدينة أمام القوات الروسية، إذ صرح قائلاً على هامش اجتماعات مجموعة السبع، في 21 مايو 2023: "لم يتبق شيء" منها، مؤكداً "اليوم، باخموت باقية في قلوبنا فقط"،

استعدادات روسية مقابلة: 

يلاحظ أن موسكو قامت، في المقابل، بتبني إجراءات عسكرية متعددة للرد على الهجوم الأوكراني المحتمل، يمكن تفصيلها على النحو التالي: 

1- تحصينات دفاعية روسية: رسخت القوات الروسية أقدامها في المناطق الشرقية من أوكرانيا بخطوط دفاعية متعددة الطبقات يصل عمقها إلى 20 كيلومتراً. كما أنه من المحتمل أن يواجه هجوم كييف المضاد حقول ألغام وخنادق مضادة للدبابات بالإضافة لعقبات أخرى، وهو ما يعني أن مثل هذا الهجوم الأوكراني سوف يكبد قوات كييف خسائر فادحة، كما أن نتائجه سوف تكون محدودة، خاصة وأن روسيا قد استفادت من درس خاركيف، عبر بناء عدة خطوط دفاعية لتجنب خسارة مساحات واسعة، على غرار ما جرى هناك.

ومن جهة أخرى، تتحسب روسيا للهجوم الأوكراني المضاد، فقد أكد دينيس بوشيلين، رئيس جمهورية دونيتسك، الموالي لروسيا، أن القوات الأوكرانية عززت وجودها على طول خطوط التماس بأكملها، وإن أكد أن مثل هذا الانتشار يهدف إلى إجراء استطلاع لتحديد مناطق الضعف في الانتشار الروسي على الجبهة. وأياً ما كان الأمر، فقد أكد بوشيلين كفاية الاستعدادات الروسية. 

2- ضربات عسكرية مكثفة: تبدي روسيا تصميماً كبيراً على مواصلة الحرب، وتكبيد كييف خسائر فادحة، وذلك على الرغم من حصولها على نظم دفاع جوي غربية، مثل "باتريوت"، فقد أكدت وزارة الدفاع الروسية، في 16 مايو 2023، قيامها بتدمير محطة رادار متعددة الوظائف و5 قاذفات لنظام "باتريوت" في كييف باستخدام صواريخ من طراز "كينجال"، كما أكدت أنها كثفت من قصفها لمستودعات كبيرة للأسلحة والمعدات الأجنبية وكذلك احتياطيات العدو في مناطق مختلفة من أوكرانيا. وأظهرت بعض الفيديوهات المتداولة دماراً واسعاً أصاب بعضها. 

3- تغيير قيادات عسكرية: قام الجيش الروسي باستبدال نائب وزير الدفاع للشؤون اللوجستية، العقيد ميخائيل ميزينتسيف، بالعقيد إليكسي كوزمينكوف، وذلك من دون توضيح أسباب رسمية لذلك التغيير. وتؤدي اللوجستيات دوراً حيوياً في العمليات العسكرية، خصوصاً في ظل محاولات كييف المتعددة لاستهداف خطوط الإمدادات الروسية بأسلحة بعيدة المدى، لقطع الدعم عن الخطوط الأمامية من القتال. ويبدو أن روسيا تستعد لذلك جيداً، عبر إدخال التغييرات الأخيرة في قيادة الجيش. 

4- استبعاد موسكو السلام: هناك مخاوف أمريكية من وجود حسابات لدى الرئيس الروسي بأنه حتى في حالة تعرض جيشه لانتكاسات عسكرية جديدة في أوكرانيا، فإنه قد لا يتراجع، وأن يتجه للتعويل على الانتصار في حرب استنزاف، أو على تبدل القيادة الأمريكية في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وهو ما وضح في تقييم أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، أمام الكونغرس، في مايو 2023، بأن احتمالات تقديم روسيا لأي تنازلات هذا العام لأوكرانيا تبدو محدودة للغاية. 

وفي الختام، يبدو من الواضح أن القوات الأوكرانية تواجه صعوبات في تنفيذ هجومها المضاد، وقد تكون استعاضت عنه عبر محاولة شن هجمات مضادة على طول الجبهة، ودون الإعلان صراحة عن الهجوم المضاد، وذلك حتى لا يرتفع سقف التوقعات من العملية العسكرية الأوكرانية، ونتائجها. وفي المقابل، فإن موسكو تبدو مصممة على أن الهجوم المضاد لم يبدأ بعد، وإن سعت للتأكيد لكييف وداعميها الغربيين، أن الأسلحة الغربية الجديدة المرسلة لأوكرانيا لن تحقق تحولاً حاسماً في المعركة، وهو ما وضح من استهداف منظومة "باتريوت" في كييف وتدميرها.