أجرى رئيس وزراء جزر سليمان، ماناسيه سوغافاري، خلال الفترة من 9 إلى 15 يوليو 2023، زيارة رسمية إلى الصين، شملت العاصمة بكين، ومقاطعتي جيانغسو (شرق) وقوانغدونغ (جنوب) ذاتا الأهمية الاقتصادية الكبيرة، وهي الثانية له إلى هذا البلد منذ تدشين علاقاتهما الدبلوماسية، في سبتمبر 2019، وذلك بدعوة من نظيره الصيني، لي تشيانغ.
والتقى سوغافاري خلال الزيارة مع كل من الرئيس شي جين بينغ، ورئيس مجلس الدولة (مجلس الوزراء)، لي تشيانغ، وكبير المشرعين الصينيين، رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، تشاو ليجي، حيث جرت مناقشة العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
أبعاد الزيارة:
شهدت الزيارة إصدار بيان مشترك بين الجانبين، في 10 يوليو 2023، في أعقاب القمة بين الرئيس شي وسوغافاري، وكذلك المحادثات بين الأخير وكبار القادة الصينيين، ويمكن توضيح أبرز أبعاد الزيارة في النقاط التالية:
1- إقامة شراكة استراتيجية شاملة: أعلنت الصين وجزر سليمان عن تدشين شراكة استراتيجية شاملة بينهما، ترتكز على الاحترام المتبادل والتنمية المشتركة، وأكد الرئيس شي أن "الصين وجزر سليمان صديقتان كل منهما جديرة بثقة الأخرى، وشريكتان يمكن لكل منهما الاعتماد على الأخرى"، مبدياً استعداد بلاده لتعميق التعاون مع جزر سليمان في كافة المجالات بهدف تحقيق نقلة نوعية في العلاقات الثنائية بما يعود بمزيد من النفع على شعبي البلدين.
2- توقيع اتفاق أمني جديد: أعرب الجانبان عن رغبتهما في تفعيل التعاون الأمني بينهما، وهو ما اتضح خلال اللقاء الذي جمع بين وانغ شياو هونغ، عضو مجلس الدولة، ووزير الأمن العام الصيني، وأنتوني فيكي، وزير الشرطة والأمن الوطني والإصلاحيات في جزر سليمان.
ووفقاً للبيان المشترك، شهدت الزيارة توقيع العديد من اتفاقيات التعاون في مجالات متنوعة، أبرزها توقيع اتفاق جديد بشأن تفعيل التعاون الأمني بين البلدين، حيث أعلنت الصين استمرارها في دعم قدرات جهاز الشرطة في جزر سليمان، بجانب حماية حقوق ومصالح مواطني ومؤسسات البلدين لدى كل طرف. ويسمح هذا الاتفاق للصين بالحفاظ على وجودها الأمني في هذه الدولة الواقعة في المحيط الهادئ، حتى عام 2025.
3- افتتاح سفارة جزر سليمان: قام سوغافاري بافتتاح سفارة بلاده لدى الصين، في 11 يوليو 2023، وذلك بحضور وانغ يي، مدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، والذي صرح بأن "الافتتاح الرسمي لسفارة جزر سليمان في الصين لحظة مهمة أخرى في تنمية العلاقات بين البلدين"، معرباً عن إيمانه بأن السفارة ستكون رابطة بين الشعبين وجسراً للعلاقات بين الصين وجزر سليمان.
4- رفض استقلال تايوان: جددت جزر سليمان في البيان المشترك التزامها الصارم بمبدأ "الصين الواحدة"، وعبرت عن رفضها لاستقلال تايوان، معربة عن دعمها الحازم لجهود الحكومة الصينية لتحقيق إعادة التوحيد الوطني، في إشارة إلى تأييدها لبكين في حالة إقدامها على إعادة ضم تايوان إلى البر الرئيسي الصيني.
5- التعاون في "الحزام والطريق": اتفق الجانبان في البيان المشترك على تشجيع التعاون بشأن مبادرة الحزام والطريق الصينية، وذلك عبر تحقيق التكامل بين المبادرة واستراتيجيات التنمية في جزر سليمان، وتعميق التعاون العملي في العديد من المجالات، بما في ذلك التجارة والاستثمار، الزراعة، الغابات، صيد الأسماك، التنمية الريفية، البنية التحتية، الطاقة والمعادن، المعلومات والاتصالات، حماية الموارد البحرية واستغلالها، التمويل، الطيران المدني، الانبعاثات المنخفضة والتنمية الخضراء، علاوة على الاقتصاد الرقمي.
6- رفض الهيمنة الأمريكية: اتفقت بكين وهونيارا على الدفاع عن النظام الدولي الذي يرتكز على الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولي التي تحكم العلاقات الدولية، بجانب تأييد التعددية الحقيقية، والتمسك بالإنصاف والعدالة الدولية، ومعارضة الهيمنة وسياسات القوة، ورفض الأحادية بكافة أشكالها، والوقوف ضد "الدوائر الصغيرة" الحصرية التي تستهدف بلدان محددة، في إشارة محتملة إلى التحالفات الأمنية، التي تسعى واشنطن لبنائها، بالإضافة إلى معارضة الحمائية، وقطع سلاسل التوريد، وكذلك رفض فرض العقوبات أحادية الجانب، وهي مواقف تحمل إشارات ضمنية إلى رفض الجانبين الممارسات الأمريكية الهادفة إلى الهيمنة على النظام الدولي ومحاولة احتواء وتطويق الصين.
7- دعم الأمن والاستقرار الإقليمي: أبدى الجانبان التزامهما بالتعاون مع كافة الأطراف لتعزيز السلام والتنمية والاستقرار في جزر المحيط الهادئ، ولاسيما دعم نظام حظر الانتشار النووي، وإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية في جنوب المحيط الهادئ، في إشارة إلى رفض بكين محاولة واشنطن إمداد أستراليا بغواصات نووية.
وحث الجانبان الدول ذات الصلة على الوفاء بالتزاماتها الدولية والتعامل بحكمة مع قضايا، مثل تصريف المياه الملوثة نووياً والتعاون في الغواصات النووية، وذلك في إشارة إلى خطة اليابان بشأن تصريف المياه الملوثة من محطة فوكوشيما النووية في المحيط الهادئ، وصفقة شراء أستراليا لغواصات نووية في إطار اتفاقية "أوكوس" مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
تعزيز نفوذ ومخاوف إقليمية:
عكست زيارة سوغافاري إلى بكين، في ضوء ما أسفرت عنه من نتائج، وردود فعل تجاهها، مجموعة من الدلالات المهمة، يمكن توضيح أبرزها في النقاط التالية:
1- تعزيز نفوذ بكين في "الهادئ": تؤشر زيارة رئيس وزراء الدولة الجزرية الواقعة في المحيط الهادئ إلى تنامي دور ومكانة الصين في هذه المنطقة، وهو ما يتضح من تأكيد البيان المشترك بين الجانبين تفعيل التعاون بين بكين وهونيارا عبر الآليات متعددة الأطراف، ومنها آلية اجتماع وزراء خارجية الصين ودول جزر الباسيفيك، وآلية منتدى التنمية الاقتصادية والتعاون بين الصين ودول جزر الباسيفيك، وذلك بهدف تعميق التعاون الجماعي بين الصين وهذه الدول في مختلف المجالات، وهو ما يشير إلى أن الفترة المقبلة سوف تشهد تنامياً ملحوظاً في التفاعلات بين الصين ودول جزر الباسيفيك، سواءً على المستوى الثنائي أو الجماعي.
2- ممانعة أستراليا ونيوزيلندا: كشفت نتائج الزيارة، ولاسيما فيما يتعلق بتعزيز التعاون الأمني بين الصين وجزر سليمان، وما ترتب على ذلك من ردود فعل من جانب أستراليا ونيوزيلندا عن وجود توجه إقليمي رافض لتنامي الدور الصيني في منطقة المحيط الهادئ ودول جزر الباسيفيك.
وطالبت الدولتان الصين بالكشف عن مضمون اتفاقها الجديد مع جزر سليمان، والذي رأت الدولتان أنه يهدد بإشعال التوترات الأمنية في جنوب المحيط الهادئ. وعلق المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، في مؤتمر صحفي في 12 يوليو 2023، على موقف أستراليا ونيوزيلندا، مؤكداً أن الاتفاق المُشار إليه يتوافق مع القوانين والممارسات الدولية ذات الصلة، وهو ما يعني رفض بكين مواقف الدولتان الرافضة للاتفاق.
3- تنافس أمريكي صيني: يلاحظ أن جنوب المحيط الهادئ تحوّل في الفترة الأخيرة إلى إحدى المناطق الجيوستراتيجية المهمة للصراع على النفوذ بين واشنطن وبكين، حيث تشعر الولايات المتحدة بقلق متزايد إزاء تنامي تأثير ووجود الصين في المنطقة، مما دفعها إلى إعادة تقييم سياستها تجاهها، واتجاهها لإعادة افتتاح سفارتها في جزر سليمان في فبراير الماضي، بعد 30 عاماً على إغلاقها.
كما قامت واشنطن في مايو 2023، بتوقيع اتفاقية دفاعية مع بابوا غينيا الجديدة، تتيح للأولى حق استخدام قواعد عسكرية في هذا البلد، وذلك بهدف تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة. واستضافت واشنطن في سبتمبر 2022، اجتماع قمة مع دول جزر المحيط الهادئ، تعهدت خلاله باستحداث صندوق مساعدات جديد بقيمة 810 ملايين دولار لهذه الدول. وتهدف التحركات الأمريكية لاستمالة دول المنطقة إلى معسكرها لتطويق بكين في المحيط الهادئ.
إشكالية توازن العلاقات:
تواجه جزر سليمان إشكالية مهمة ترتبط بكيفية تحقيق توازن في علاقاتها الخارجية بين الصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، وذلك في ظل التنافس المحتدم بين القوتين العظميين على النفوذ في المنطقة. ويمكن توضيح أبرز ملامح تلك الإشكالية في النقاط التالية:
1- علاقات متوازنة مع الجميع: تتبنى جزر سليمان توجهاً مفاده إقامة علاقات دبلوماسية ترتكز على الصداقة والحياد تجاه جميع الدول، وهو ما يتضح من تصريح سوغافاري المتكرر بأن بلاده "صديقة للجميع"، مضيفاً في كلمته أمام المناقشة العامة بالجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2022، أن "جزر سليمان ليست لديها أعداء، بل أصدقاء فقط، وأن كفاحها ينصب على التنمية"، وهو ما يعني حرصها على إقامة علاقات متوازنة مع مختلف الدول، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات بين هذه الدول، وهو ما يشير إلى أن هونيارا تتبنى سياسة خارجية مستقلة نابعة من مصالحها الوطنية، ولا تنحاز لأي طرف أو قوة دولية على حساب أخرى.
2- انحياز ملحوظ لبكين: يلاحظ أنه رغم تبني رئيس وزراء جزر سليمان توجهاً معلناً مفاده الاستقلال الاستراتيجي لبلاده في علاقاتها الخارجية، فإن ممارسات ومواقف سوغافاري نفسه تدل على وجود ميل ملحوظ من جانبه لمنح الأولوية في علاقات بلاده الخارجية لبكين على حساب واشنطن، ومما يؤكد ذلك ما نقلته وسائل إعلام حكومية صينية عنه، لدى وصوله إلى بكين، مخاطباً مسؤولين صينيين، بقوله "عدت إلى الوطن"، وكذلك قوله إن هناك الكثير الذي تتعلمه بلاده من تجربة التنمية في الصين، وذلك في إشارة واضحة إلى المكانة الكبيرة التي تحظى بها الصين بالنسبة له.
3- رفض الانحياز لواشنطن: رفضت جزر سليمان في سبتمبر 2022، التوقيع على اتفاقية الشراكة بين الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادئ، إلا بعد حذف الإشارات "غير المباشرة" للصين في الاتفاقية، إذ أكد وزير الخارجية، جيريمايا مانيلي، أن بلاده لا تريد "الانحياز لطرف"، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وهو ما يشير إلى حرص جزر سليمان على عدم اتخاذ أي مواقف قد تؤدي إلى إغضاب الصين، خاصة في ظل حاجتها إلى المساعدات التنموية والاقتصادية من الصين، لتحقيق التنمية الاقتصادية.
وفي التقدير، يمكن القول إن زيارة سوغافاري إلى الصين أخيراً تعكس إعطاء جزر سليمان الأولوية لعلاقاتها بالصين، على الرغم من محاولة واشنطن وأستراليا ونيوزيلندا لاستقطابها بعيداً عن دائرة النفوذ الصيني، ولذلك يتوقع أن تقوم واشنطن بمحاولة تقديم إغراءات وحوافز اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية لجزر سليمان، للحد من اندفاعها في علاقاتها مع بكين، وهو ما سيُقابل بمقاومة ومعارضة كبيرة من جانب الصين، الأمر الذي سيؤثر في علاقاتها المتوترة أصلاً مع واشنطن، وكذلك علاقاتها مع بعض دول جزر الباسيفيك.