عقدت في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، قمة لحلف شمال الأطلسي، على مدار يومي 11 و12 يوليو، وتمحورت حول انضمام السويد وأوكرانيا إلى "الناتو"، بالإضافة إلى مناقشة العديد من القضايا الدفاعية، أبرزها تعزيز دفاعات الحلف وزيادة الدعم لكييف، وكذلك تعميق التعاون مع الشركاء.
أبرز التفاهمات المعلنة:
جاءت قمة "الناتو" وسط الهجوم الأوكراني المضاد ضد روسيا، وهو الهجوم الذي أكد المسؤولون الأوكران والأمريكيون أنه أبطأ مما هو متوقع، في اعتراف ضمني بفشله، ولذلك سعت القمة إلى التغطية على هذه الانتكاسة، وكذلك التخفيف من وطأة رفض انضمام أوكرانيا إلى الحلف، عبر تأكيد مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا، وذلك إلى جانب الحديث عن تعزيز دفاعات الحلف في مواجهة روسيا والصين، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- رفض عضوية أوكرانيا في "الناتو": استبق الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قمة "الناتو"، وخفض من سقف توقعات كييف بالانضمام إلى الحلف، إذ أكد، في 9 يوليو، أنه "لا يعتقد أنها جاهزة للانضمام إلى عضوية الناتو"، مشيراً إلى أن الانضمام إلى "الناتو" عملية تستغرق بعض الوقت لتلبية جميع المؤهلات، بما في ذلك التحول الديمقراطي وبعض القضايا المماثلة. وقد عبّر أعضاء الحلف عن نفس الموقف، في 11 يوليو، إذ أكدوا أن أوكرانيا يمكنها الانضمام إلى التحالف العسكري "عندما يتفق الحلفاء ويتم الوفاء بالشروط".
ومن جهة أخرى، أكد الأمين العام لحلف "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، في مؤتمر صحفي عقب اليوم الأول من القمة، أنه إذا فشلت أوكرانيا في كسب المواجهة مع روسيا، فإن مسألة عضويتها في "الناتو" ستفقد أهميتها، في إشارة إلى أن العضوية لن تكون خياراً مطروحاً في هذه الحالة.
وعلى الرغم من تأكيد زيلينسكي أنه كان يرغب في الحصول على اعتراف من الحلف بانضمام أوكرانيا إليه فور انتهاء العمليات العسكرية بشكل مباشر، فإن الحلف رفض إعطاءه مثل هذا الضمان، وهو ما يعني، في التحليل الأخير، أن الحلف سيستخدم هذه النقطة ورقة تفاوضية مع روسيا فور انتهاء العمليات العسكرية، على نحو ما أشار إليه زيلينسكي بنفسه على موقع "تويتر"، إذ رأى أن "هناك فرصة سانحة للمساومة على عضوية أوكرانيا في الناتو خلال المفاوضات مع روسيا". ومن غير المرجح أن يقبل الكرملين، وهو منتصر، في أي تسوية سلمية بعد وقف الحرب، ألا يتم النص على حيادية أوكرانيا، وعدم انضمامها لـ"الناتو" صراحة.
2- زيادة الدعم العسكري: أعلنت فرنسا عن إرسال صواريخ طويلة المدى من طراز "سكالب"، يبلغ مداها 250 كيلومتراً إلى أوكرانيا، بينما أكد تحالف يضم 11 دولة أنه سيبدأ تدريب الطيارين الأوكران على طائرات "أف – 16" بدءاً من الشهر المقبل، وهي كلها مؤشرات من جانب الحلف على أنه لن يتراجع عن دعم أوكرانيا عسكرياً في مواجهة روسيا، وذلك على الرغم من الانتكاسات العسكرية التي لحقت بأوكرانيا بعد فشل هجومها المضاد.
3- رفع الإنفاق العسكري: أكد بيان صادر عن قادة "الناتو"، في 11 يوليو 2023، أن الأعضاء وافقوا على جعل الهدف الحالي المتمثل في 2% من الناتج المحلي الإجمالي هو الحد الأدنى للإنفاق السنوي على الدفاع، مع تخصيص خمس تلك الميزانية للاستحواذ على المعدات الرئيسية والبحث والتطوير.
ويلاحظ أن ذلك التعهد قد يكون موضع شك، فقد تعهد أعضاء "الناتو"، في عام 2014، بزيادة الحد الأدنى للإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني بحلول عام 2024. وحققت 11 دولة فقط من أصل 31 دولة هذا الهدف حتى الآن، وتنتمي أغلبها إلى دول شرق أوروبا، بالإضافة إلى بريطانيا والولايات المتحدة. ولا شك أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الدول الغربية عموماً، والحاجة إلى تعزيز الإنفاق الحكومي على دعم الاقتصاد في هذه الدول، لتحفيز النمو، سوف تجعل من الصعب على دول الحلف رفع الإنفاق العسكري، خاصة في الوقت الذي توجه هذه الدول مليارات الدولارات لدعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً.
4- قبول عضوية السويد: أعلن الأمين العام لحلف "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، في 10 يوليو، أي عشية عقد القمة، أن تركيا وافقت على إحالة طلب السويد لعضوية "الناتو" إلى البرلمان التركي للتصديق عليه، وبذلك تزيل أنقرة اعتراضها على انضمام السويد لعضوية الحلف، وذلك في مقابل حصولها على تنازلات من الأخيرة، تمثلت في تشديد الإجراءات ضد حزب العمال الكردستاني، المحظور في تركيا، فضلاً عن رفع الحظر عن تصدير الأسلحة إلى تركيا، بالإضافة إلى موافقة واشنطن على إتمام صفقة "أف – 16" إلى تركيا.
5- الدفاع عن الهيمنة الأمريكية: ذكر البيان الصادر عن حلف "الناتو" أن "الطموحات المعلنة وسياسة الإكراه لجمهورية الصين الشعبية تتحدى مصالحه وأمنه وقيمه"، في إشارة إلى سياسة الصين الرامية إلى ضم تايوان، وإن أكد الحلف أنه لا يزال منفتحاً على المشاركة البناءة مع الصين. وأثار هذا البيان غضب الأخيرة، إذ أصدرت البعثة الدبلوماسية الصينية في الاتحاد الأوروبي بياناً أكدت فيه أن الصين مصممة على حماية سيادتها وأمنها، وستقاوم بحزم أي إجراءات يقوم بها "الناتو" تسبب ضرراً للحقوق والمصالح الشرعية للصين، وأنها ستحمي بالقوة مصالحها، في مؤشر على أن الصين لن تحيد أبداً عن ضم تايوان.
كما أشار بيان "الناتو" إلى أن "تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا ومحاولاتهما المشتركة لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد تتعارض مع قيمه ومصالحه"، ويلاحظ أن النظام الدولي القائم على القواعد هو إشارة غربية ضمنية للنظام أحادي القطبية، وهو ما يعني أن واشنطن، وحلف "الناتو" من ورائها، لا يزالان يسعيان إلى الدفاع على النظام الدولي المهيمن عليه من جانب واشنطن، ويرفضان الجهود الصينية الروسية لإرساء نظام دولي متعدد الأقطاب عبر تأسيس منظمات دولية اقتصادية وأمنية موازية للغرب، على غرار "بريكس" و"منظمة شانغهاي للتعاون".
دلالات الدعم لأوكرانيا:
على الرغم من أن قمة "الناتو" سعت إلى إرسال رسالة تحدٍ إلى روسيا، فإنه من الواضح أن القمة لم تنجح في تجاوز انتكاسة الهجوم الأوكراني المضاد، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تقديم ضمانات أمنية: أكد الرئيس الأمريكي، وكذلك عدد من أعضاء الحلف، خاصة ألمانيا وبريطانيا، أن المطروح أمام أوكرانيا هو الحصول على ضمانات أمنية، على غرار ما تحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة، أي أن تحصل على دعم عسكري، وأصدرت دول مجموعة السبع (ألمانيا وكندا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة) لذلك بياناً مشتركاً حول دعم كييف في السنوات المقبلة، من أجل مساعدتها في محاربة روسيا ومواجهة الاعتداءات في المستقبل، إضافة لإمكانية إنشاء مجلس "الناتو أوكرانيا" كبديل عن ضم كييف للحلف كعضو. ويلاحظ أن كل هذا الدعم لن يختلف عما هو مقدم حالياً من جانب الدول الغربية، خاصة وأن الدول الغربية قد رفعت سقف هذا الدعم حتى وصل إلى التعهد بإمداد أوكرانيا بالمقاتلات من طراز "أف – 16"، بالإضافة إلى الصواريخ طويلة المدى.
2- محدودية فاعلية الدعم العسكري: يلاحظ أن الدعم العسكري الذي أعلنت عنه الدول الغربية لتأكيد التزامها بدعم أوكرانيا لن يُغير كثيراً في موازين القوى الحالية. فعلى سبيل المثال، فإن صواريخ "سكالب"، التي أعلنت فرنسا عن نيتها إرسالها إلى أوكرانيا، هي نفسها صواريخ "ستورم شادو" البريطانية المجنحة، التي سبق وأن سلّمت لندن كميّة منها لكييف، وتمكنت نُظم الدفاع الجوي الروسي من التصدي لها، كما أن أوكرانيا استخدمتها في الهجوم المضاد، غير أنها لم تساعدها في تحقيق أي نتائج تذكر.
وبالمثل، يشكك المحللون العسكريون الغربيون في جدوى إمداد أوكرانيا بمقاتلات "أف – 16"، وذلك بسبب قدرة روسيا على إسقاطها بنُظم الدفاع الجوي من طراز "أس – 400"، أو غيرها من نُظم الدفاع الجوي التي تمتلكها. ويلاحظ أن أغلب المقاتلات الأوكرانية الحالية تم إسقاطها من جانب نُظم الدفاع الجوي الروسية، وهو ما أدى إلى تدمير أغلب سلاح الجو الأوكراني، ولذلك، فإن القيمة الحقيقية لمقاتلات "أف – 16" هي في تعويض أوكرانيا عما فقدته من مقاتلات سوفيتية الصنع.
أما فيما يتعلق بإعلان واشنطن إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية، فقد أكد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في 11 يوليو 2023، أن موسكو ستضطر إلى استخدام أسلحة "مماثلة" إذا زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بالقنابل العنقودية، مؤكداً أن الذخائر العنقودية الروسية أكثر فاعلية من تلك التي لدى الأمريكيين، بينما وجه ديمتري ميدفيديف، نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي، تهديداً أكثر حدة، إذ أكد أن زيادة حلف "الناتو" مساعداته العسكرية لأوكرانيا تُقرب من الحرب العالمية الثالثة، في تلميح إلى إمكانية اتجاه روسيا لاستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، إذا ما سعى حلف "الناتو" إلى تغيير الوضع الميداني الراهن لغير صالح روسيا، حتى لو ترتب على ذلك الذهاب إلى حرب عالمية نووية تفني العالم.
3- خسائر أوكرانية فادحة: سعت وزارة الدفاع الروسية إلى الرد على القمة، وكذلك ما صدر من تصريحات خلالها، خاصة تأكيد رئيس الوزراء البريطاني أن أوكرانيا تحقق انتصارات استراتيجية، وذلك بخلاف الوضع الميداني. فقد أكد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، في 11 يوليو أن الجيش الروسي تقدم بعمق يتراوح ما بين 1.5 كيلومتر، و2 كيلومتر على طول الجبهة، بالإضافة إلى تأكيده خسارة أوكرانيا أكثر من 26 ألف جندي، و3 آلاف قطعة من الأسلحة المختلفة، من بينها 17 دبابة من طراز "ليوبارد" الألمانية، و5 دبابات فرنسية، و12 عربة قتال مشاة أمريكية من طراز "برادلي"، وهو ما يُعد بمثابة رسالة بأن أداء القوات الأوكرانية المدربة على يد "الناتو"، والمدعومة بالمرتزقة الغربيين لم تنجح في تحقيق أي نتائج تذكر، على الرغم من كل هذا الدعم الغربي.
4- التأثير في شعبية زيلينسكي: شن زيلينسكي هجوماً حاداً على حلف "الناتو" متهماً إياه بالتردد والضعف، بسبب رفضه ضم أوكرانيا إليه. ويلاحظ أن مثل هذا الرفض قد جاء في ظل انتكاسة الهجوم الأوكراني المضاد، وعجز كييف عن تحقيق أي هدف من أهداف هجومها المضاد، على نحو اعترف به المسؤولون العسكريون الغربيون صراحة.
ويلاحظ أن كلا الأمرين سوف يؤثران في شعبية زيلينسكي في الداخل الأوكراني، خاصة وأنه أعلن في مايو 2023 أنه لن يتم إجراء أي تصويت في البلاد بينما تظل البلاد خاضعة للأحكام العرفية. وكان من المقرر أن تجري البلاد انتخابات البرلمان في أكتوبر 2023 وانتخابات الرئاسة مطلع 2024. ولا شك أن إجراء أي انتخابات بعد وقف الحرب، وفي ظل عجز كييف عن استعادة أراضيها، بالإضافة إلى رفض "الناتو" انضمام أوكرانيا إليه، وهو السبب الرئيسي الذي بسببه ذهب زيلينسكي إلى الحرب، سوف يعني أن فرص نجاحه في هذه الانتخابات سوف تكون محدودة.
وفي الختام، يمكن القول إنه من الواضح أن حلف "الناتو" سوف يواصل دعمه لأوكرانيا هذا العام، غير أن إخفاق كييف في تغيير الواقع الميداني الراهن، سوف يجعل فرص استمرار الدول الغربية في مواصلة دعمها لأوكرانيا تتراجع، كما أنه سيقضي على أي احتمالات لانضمامها مستقبلاً إلى حلف "الناتو"، وذلك وفق التصريحات الصادرة عن أمين عام الحلف نفسه.