أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 19 و20 يونيو 2023، زيارة رسمية إلى الصين، التقى خلالها بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، ومدير المكتب المركزي للشؤون الخارجية للحزب الشيوعي الصيني وانغ يي، وعضو مجلس الدولة ووزير الخارجية الصيني، تشين جانغ. وتمت مناقشة العديد من القضايا العالقة في العلاقات الصينية الأمريكية على الصعيد السياسي والأمني والاقتصادي والتجاري. وتُعد تلك الزيارة الأولى التي يقوم بها وزير خارجية أمريكي إلى بكين منذ آخر زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، في 2018.
تفاهمات مبدئية:
تم الاتفاق خلال زيارة بلينكن إلى الصين على عدد من الملفات والقضايا، يتمثل أبرزها في التالي:
1- ضبط مستوى الخلافات: اتفق الجانبان الأمريكي والصيني خلال الزيارة على الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة من أجل حلحلة وإدارة الخلافات بالسبل السلمية والدبلوماسية. وتم الاتفاق كذلك على استمرار العمل بما تم التوافق بشأنه بين الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والرئيس شي، باجتماع بالي، في نوفمبر 2023، حيث تعهدا بالالتزام بالتفاهم المشترك وعدم تأجيج حرب باردة جديدة، أو العمل على تغيير الأنظمة. كما تم توجيه الدعوة للرئيس شي، لزيارة واشنطن حينما يصبح السياق ملائماً، والاتفاق على تشجيع توسيع العلاقات الشعبية والتبادلات التعليمية.
ومن جانبه، أكد الرئيس الصيني تجاوز الصدام مع الولايات المتحدة عبر التأكيد أن الصين من جانبها تحترم المصالح الأمريكية، ولا تسعى لإزاحة الولايات المتحدة أو تحديها، ومن ثم فإنه ينبغي عليها أن تحترم الحق المشروع للصين في التنمية، وألا تضر بمصالحها، فالمنافسة بين القوى الكبرى لا يمكن أن تصبح هي الاتجاه العالمي الراهن، لأنها تضر بالجميع.
2- مواصلة التعاون الاقتصادي: أكدّ بلينكن، على هامش الزيارة، أن واشنطن لا تسعى إلى تقويض اقتصاد الصين، بل ترغب في نموه، لأن ذلك يصب في صالح الولايات المتحدة، مؤكداً أنه ليس في نية الولايات المتحدة القطيعة الاقتصادية مع الصين، نظراً للمصالح الاقتصادية والتجارية الضخمة التي تربط بين الجانبين.
واتفق الطرفان الأمريكي والصيني على تشكيل مجموعة عمل لمعالجة قضية تصدير الصين لمخدر الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، إلى جانب دور الصين في التخفيف من مخاطر نقص الغذاء العالمي من خلال دعم مواصلة تنفيذ اتفاقية نقل الحبوب عبر البحر الأسود.
وشدد بلينكن، خلال الزيارة، على أن التعاون مع الصين، لا ينفي حرص الولايات المتحدة على اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة للحيلولة دون نقل تقنياتها للصين على نحو توظفه الأخيرة للإضرار بالأمن القومي الأمريكي، أو لممارسة المزيد من القمع والانتهاكات لحقوق الإنسان.
وتشير التقارير الإعلامية الأمريكية إلى أن زيارة بلينكن قد يترتب عليها عقد المزيد من الاجتماعات الثنائية على الصعيد الاقتصادي والتجاري لتكثيف التعاون بشأن استقرار الاقتصاد العالمي والمصالح المتقاطعة بين البلدين، وقد يتم الترتيب لزيارة من قبل وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، ووزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، إلى الصين في وقت لاحق.
ويعزز ذلك التوجه، ترتيب الشركات الصينية وغرفة التجارة الدولية الصينية رحلات واجتماعات في الولايات المتحدة لتوسيع آفاق التعاون مع نظرائهم الأمريكيين، فضلاً عن معارضة نواب في الكونغرس الأمريكي للانفصال عن الاقتصاد الصيني، الأمر الذي يعكس رغبة متبادلة في تذليل التناقضات والعقبات خاصة على الصعيد التجاري والاقتصادي.
3- الوساطة في الصراع الروسي: أكد بلينكن دعم بلاده لجهود الصين للوساطة وإحلال السلام في أوكرانيا، وذلك عبر التركيز، ليس فقط، على وقف الحرب، ولكن على تحقيق مجموع من المبادئ الأساسية، وهي الحفاظ على السيادة الأوكرانية ووحدة أراضيها، مشيراً إلى قدرة الصين على تحقيق نتائج إيجابية في هذا الإطار، في إشارة إلى أنها يمكن أن تتجه لممارسة ضغوط على روسيا في هذا الإطار.
وطالب بلينكن المسؤولين الصينيين بالانتباه بشأن الشركات الخاصة التي قد تزود روسيا بالتكنولوجيا التي يمكن استخدامها في الحرب ضد أوكرانيا، ولكنه أكد عدم وجود أية أدلة بشأن تقديم بكين مساعدات عسكرية لموسكو.
وعلقت السفارة الصينية في واشنطن، على ذلك، بتأكيدها أن الصين ملتزمة بتعزيز محادثات السلام ولم تقدم أسلحة لأي من الجانبين في الصراع الروسي الأوكراني. كما أكدت الصين، في الوقت ذاته، رفضها إلحاق الضرر بمصالحها الاقتصادية والتجارية هي وشركاتها بسبب علاقتها الاقتصادية بروسيا، في رسالة مفادها رفض الصين التماهي مع العقوبات الغربية ضد موسكو.
خلافات قائمة:
لا تعني زيارة بلينكن للصين أن الطرفين قد حسما كافة الخلافات بينهما، إذ إن الخلافات الأساسية ظلت قائمة واتضحت كذلك خلال مجريات المحادثات بينهما، ولعل أبرز تلك الخلافات تتمثل فيما يلي:
1- دعم واشنطن العسكري لتايوان: أكد بلينكن، خلال زيارته للصين، على أن واشنطن لا تدعم حصول تايوان على استقلالها، مشدداً على تمسك بلاده بالحفاظ على الوضع القائم هناك، إلا أنه أشار كذلك لرفض بلاده الممارسات الرامية لتغيير الوضع الراهن في تايوان، وكذلك كافة الأعمال الاستفزازية الصينية في بحر الصين الجنوبي والشرقي وفي مضيق تايوان، مؤكداً السعي لحل تلك القضية سلمياً، مع العمل على تجنب أي إجراءات أحادية في هذا الشأن، غير أن بلينكن لم يتراجع عن تصريحات بايدن السابقة، والتي أكد خلالها أن واشنطن سوف تتدخل عسكرياً لحماية تايوان من أي اعتداء عسكري صيني.
ويلاحظ أن موقف بلينكن جاء بسبب إدراك واشنطن للتداعيات العالمية السلبية على الاقتصاد العالمي في حالة اندلاع أزمة حادة بين واشنطن وبكين حول تايوان. ويعني ذلك أن الخلاف بين الولايات المتحدة والصين ما زال قائماً، حيث ترفض بكين أي تدخل من جانب واشنطن في ملف تايوان، باعتبار ذلك يمثل استفزازاً لها، بل إن تلك النقطة تُعد خطاً أحمر وأي تجاوز بشأنها قد يقضي على آفاق التعاون في كل الملفات الأخرى، وفق ما صرح به مسؤولون صينيون في مناسبات عدة. كما كانت لهجة بكين بشأن تايوان حاسمة خلال زيارة بلينكن، إذ إنه وفقاً للبيان الصيني، قال كبير الدبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، إنه "لا مجال لدى الصين للمساومة أو تقديم تنازلات" في هذه القضية.
2- التنافس على منطقة المحيطين: ارتفعت مستويات المواجهة بين الولايات المتحدة والصين في المحيطين الهادئ والهندي، خلال الفترة الأخيرة، إلى الحد الذي وصلت لتحليق مقاتلة صينية على بعد 400 قدم من طائرة استطلاع أمريكية فوق بحر الصين الجنوبي في مايو 2023.
وتطرقت القمة بين وزيري الخارجية الأمريكي والصيني إلى الحديث عن مخاوف كل منهما بشأن نفوذ الطرف الآخر في منطقة المحيطين. وحثّ كبير الدبلوماسيين الصينيين الولايات المتحدة على إعادة ضبط استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ قبل قمة "أبيك" (منتدى التعاون الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادئ) التي ستستضيفها مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2023، وذلك لإبداء حسن نيتها بشأن إقامة علاقات صحية مع بكين في المنطقة، واصفاً الاستراتيجية الأمريكية بأنها تجسيد لمحاولات جرّ هذا الإقليم للتنافس بين القوى الكبرى وخلق سياقات مواتية للمواجهات العسكرية بها.
واتهم وانغ، واشنطن بتغيير الوضع الراهن للسلام والاستقرار في المنطقة وتقويض الانسجام بين دول الجوار، داعياً واشنطن للتعاون مع بلاده في تلك المنطقة بدلاً من التنافس والصراع.
3- استمرار تعليق الاتصالات العسكرية: لم تفلح جهود بلينكن في إعادة قنوات الاتصال بين البلدين على الصعيد العسكري، والتي انقطعت بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكية السابقة، نانسي بيلوسي، لتايوان العام الماضي. ورفض وزير الدفاع الصيني في وقت سابق من هذا الشهر لقاء نظيره الأمريكي في مؤتمر شانغريلا الأمني في سنغافورة.
وترفض الصين استئناف المحادثات العسكرية في ظل استمرار العقوبات الأمريكية على المسؤولين العسكريين الصينيين، وفي مقدمتهم وزير الدفاع ذاته، ويعني ذلك غياب خط ساخن للتواصل بين الجانبين، لمنع أي سوء تفاهم إذا ما وقع حادث بالخطأ بين القوات العسكرية التابعة للبلدين، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث تصعيد عسكري بشكل غير مقصود.
4- التدخل الأمريكي في شؤون الصين: أعرب وزير الخارجية الأمريكي عن مخاوف بلاده بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وفي إقليم شينجيانغ، والتبت، وهونغ كونغ، مؤكداً استمرار بلاده في الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الموقف الذي أثار الصين، نظراً لأنه يُمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية للصين، وهو أمر دأبت الأخيرة على رفضه.
سيناريوهات متوقعة:
يمكن الإشارة إلى أبرز السيناريوهات المتوقعة في ضوء الزيارة على النحو التالي:
1- تجنب التصعيد: يُمثل السيناريو المتفائل، والذي يرى أن الحفاظ على قنوات تواصل دبلوماسية بين الجانبين قد يسهم في إذابة الجليد وخفض حدة الصدام بينهما، وذلك في ظل الحديث عن إمكانية عقد المزيد من المحادثات الاقتصادية، فضلاً عن الحديث عن لقاء مُرتقب بين بايدن وشي، في نوفمبر 2023، خاصة في ظل تأكيد الجانبين ترابط المصالح التجارية والاقتصادية وصعوبة قطعها لما في ذلك من تداعيات سلبية ليس فقط على الطرفين، بل على العالم أجمع.
2- تصاعد الخلافات: يُمثل السيناريو الأكثر واقعية، إذ إن المحادثات لم تحدث اختراقاً حقيقياً في الملفات الخلافية، خاصة تايوان، والتي في حال تأججها فإنها قد تنذر بانهيار كافة التفاهمات على مختلف الأصعدة.
ومما يُعزز هشاشة النتائج التي توصلت إليها مباحثات بلينكن في الصين، أنه لم تكد تنتهي الزيارة حتى وقعت أزمة دبلوماسية بين البلدين على إثر وصف الرئيس الأمريكي نظيره الصيني بالديكتاتور خلال حفل لجمع التبرعات للحزب الديمقراطي، الأمر الذي أعربت الصين عن استيائها منه واحتجاجها ضده. هذا إلى جانب عبور سفينة تابعة للقوات البحرية الأمريكية مضيق تايوان، بُعيد ساعات قليلة من مغادرة وزير الخارجية الأمريكي الصين، في رسالة تؤكد مواصلة واشنطن دعمها عملياً استقلال تايوان عن الصين.
وفي التقدير، يمكن القول إنه لا يمكن التعويل على زيارة بلينكن للصين باعتبارها ستُسهم في رأب الصدع وحلحلة كافة الخلافات الجذرية بين الصين والولايات المتحدة. وصحيح أن الزيارة كشفت عن نية الطرفين تجنب الصدام المباشر بفعل ترابط مصالحهما وتداخلها، غير أن ذلك لا ينفي وجود بعض القضايا التي تُعد بمثابة ملفات خلافية قد يسهم تأجيجها في نتائج غير محمودة العواقب ليس فقط على صعيد العلاقات الثنائية، وإنما كذلك على الصعيد الإقليمي والعالمي، وفي مقدمتها ملف تايوان.