أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

العملة المهيمنة:

تأثير دبلوماسية الدولار الأمريكية في النظام المالي العالمي

05 مارس، 2019


عرض: شيماء أحمد ميدان

يمثل الدولار الأمريكي الورقة النقدية الأقوى والأكثر تأثيرًا في الاقتصاد العالمي، وقد عززت هيمنته على التمويل والتجارة والاحتياطيات السيادية من نفوذ الولايات المتحدة وسيطرتها على النظام المالي الدولي.

وعن مستقبل الدولار ومدى تأثيره على الدبلوماسية المالية الأمريكية، نشرت مجلة "ناشيونال إنترست" في عددها عن شهري يناير/فبراير ٢٠١٩، مقالة بعنوان "دبلوماسية الدولار" لـ"كريستوفر سمارت"، رئيس قسم أبحاث الاقتصاد الكلي والجيوسياسية في بارينجز (شركة خدمات مالية عالمية)، وزميل كبير غير مقيم بمعهد كارنيجي للسلام الدولي.

قوة الدولار

بدايةً، يُشير "سمارت" إلى أن قوة العملة الأمريكية في الأسواق المالية العالمية تنبع مباشرةً من هيبة المؤسسات السياسية للولايات المتحدة والثقة في نواياها، وتعكس غياب البدائل للدولار. ولعل ما يميزه عن العملات الدولية الأخرى هو قدرته على فرض النظام على الأسواق العالمية الجامحة، ولا سيما في أوقات الاضطرابات السياسية أو المالية. ويؤكد الكاتب على ذلك بالدور المحوري للمجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية في استقرار الأسواق المالية من خلال المقايضات والقروض.

ويضيف أن قوة الدولار منحت الولايات المتحدة الهيمنة التي تُمكِّنها من إدارة المفاوضات العالمية المتعلقة بإعادة هيكلة الديون، ومواجهة الإرهاب العالمي، وغسل الأموال والهجمات السيبرانية. ولطالما كانت الدبلوماسية المالية الأمريكية هي المهيمنة في وضع القواعد وضبط عمل المؤسسات التي تُعزز انفتاح النظام المالي العالمي، واستقراره بما يضمن ازدهار الاقتصاد الدولي. فضلًا عن أن هيمنة العملة الأمريكية فتحت المجال أمام واشنطن لإدارة محادثات حول مجموعة من المسائل التي من شأنها أن تُعزز التعاون في مجالات مختلفة.

ويرى "سمارت" أن ميل الشركات الأجنبية وعملائها ومنافسيها لاستخدام الدولار في معاملاتهم يرجع إلى كون العملة الأمريكية هي الأقوى والأكثر إدرارًا للأرباح والعائدات والأقل تكلفة في تغطية القروض. وقد استشهد بمسح أجرته "جيتا جوبيناث" (أستاذة الاقتصاد بجامعة هارفارد، وتشغل منصب كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي) الذي تبيّن فيه أن حصيلة المعاملات التجارية التي تتم بالدولار تفوق حصيلة صادرات الولايات المتحدة بثلاثة أضعاف، وأن الحكومات الأجنبية تحرص على مراكمة الدولارات؛ لأنها تفضل إدارة سعر الصرف الخاص بها مقابل عملة التبادل التجاري الرئيسية في العالم. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، ما زال الدولار يمثل 62% تقريبًا من كافة الاحتياطيات السيادية، فيما يمثل اليورو 20%، والرنمينبي (العملة الصينية) أقل من 2%.

الهيمنة الأمريكية

يشير المقال إلى أن الولايات المتحدة لا تزال الأكثر تأثيرًا في المؤسسات المالية الرئيسية التي تحدد أطر التعاون الاقتصادي وقواعد العمل المصرفي، وما زالت هي الحَكم الرئيسي على طاولة المفاوضات الرئيسية بين الحكومات المثقلة بالديون ودائنيها. فإبان الأزمات الاقتصادية الآسيوية واليونانية والأيرلندية والبرتغالية، كان وزراء المالية يضعون التجارب الأمريكية نصب أعينهم، ويستفيدون من آراء واشنطن حتى لو كان دورها الرسمي محدودًا.

وباتت العديدُ من البلدان تعتمد على الولايات المتحدة في بناء مؤسسات مالية تحكمها القواعد، وفي اقتراح جداول الأعمال لتنسيق السياسات المالية وللبروز في الأسواق المفتوحة، وذلك على حد قول "سمارت" الذي يذكّر باتفاقية "بريتون وودز" التي أُبرمت بقيادة واشنطن في يوليو 1944 بهدف تحقيق الاستقرار في أسعار صرف العملات الرئيسية للبلدان المشاركة عن طريق ربطها بالدولار الأمريكي، من أجل تأمين نمو الاقتصاد العالمي.

ورغم كون القوة العسكرية والسياسية الأمريكية هما الأعلى مكانة والأكثر أهمية، فقد أشار "سمارت" إلى أن المستثمرين يلجئون إلى الدولارات وقت تصاعد المخاطر، حتى لو كانت تلك موجودة في الولايات المتحدة ذاتها. ويضيف أن الاستثمار أو الادخار بالدولارات لا يزال هو الخيار الأمثل والأكثر نفعًا بالنسبة للكثيرين.

ويتحدث الكاتب عن مواصلة القيادة الأمريكية العمل على توفير إطار عالمي للنمو القوي والمستدام والمتوازن، إدراكًا منها بأن الثقة في الدولار نابعة من الإيمان بأن دور الولايات المتحدة قد تطور من مجرد شريك تنفيذي كبير إلى شريك مهيمن يحمي النظام المالي العالمي ومصالحه. ويضيف أن قوة الاقتصاد الأمريكي شجعت الاقتصادات الأخرى على مناقشة معايير العمل الجديدة في المحادثات التجارية، مثل: اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ (TPP) واتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA)).

وفيما يتعلق بدور البنوك الأمريكية في الحفاظ على دور الولايات المتحدة القيادي، قال "سمارت" إنها تأخذ على عاتقها مهمة رصد "المارقين" و"المشتبه فيهم" ومعاقبتهم، حرصًا منها على ضمان عدم استخدام الدولار في ممارسات مشبوهة. وتتعاون الحكومات مع بعضها بعضًا في التحقيقات الخاصة بتجارة المخدرات، وتنسق الجهود فيما بينها من خلال فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية المتعلقة بغسل الأموال، والمعروفة اختصارًا بـ(FATF). 

غياب البدائل

لفت "سمارت" إلى أن قوة الدولار وقدرته على البقاء ترجع إلى غياب بدائل وعملات منافسة له، موضحًا أن مشروع العملة الأوروبية الموحدة الذي دشنه الأوروبيون بعد قرون من الحرب لربط القارة ولخلق وزن مضاد لهيمنة الدولار، لم يثمر الكثير، لأن الأزمة المالية الأوروبية قوضت أسواق أوروبا المالية إلى درجة أنه أُثيرت تساؤلات حول مدى جدوى ذلك المشروع.

وفيما يتعلق بالين الياباني، الذي ما زال يمثل ما يقرب من 4,5% من الاحتياطيات الدولية، فقد تعمّدت طوكيو أن تنأى بعملتها بعيدًا عن أي دور دولي من أجل توجيه رأس مالها للأغراض المحلية، ومن أجل السيطرة على سعر الصرف. أما الرنمينبي الصيني، فما زال نطاق عمله محدودًا في الوقت الراهن رغم سعي بكين لتوسيع دوره في التجارة العالمية والاحتياطيات السيادية والتمويل. فضلًا عن أن أسواق الصين المالية المحلية ليست قوية بما يكفي لاستيعاب التدفقات المالية العالمية الضخمة.

ونقل الكاتب عن "روبرت ماندل"، أستاذ الاقتصاد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، قوله: "إن للقوى العظمى عملات عظمى"، وذلك في إشارة إلى أن النفوذ العالمي مرتبط بقوة العملة، وإلى أن تنامي النفوذ الدولي للولايات المتحدة يرجع إلى هيمنة عملتها على التجارة والتمويل والاحتياطيات السيادية. وعليه يمكن القول إنه رغم دعم القوة العسكرية الأمريكية والثروة الاقتصادية الأمريكية للدولار، إلا أن دور الدولار كملاذ آمن قد عزز نفوذ المؤسسات السياسية الأمريكية وزاد من الثقة في نواياها.

تشكيك في القيادة الأمريكية

يُشير "سمارت" إلى أنه في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى تعزيز قيمة الدولار بعدما أضحى أساسًا للنمو المستدام للاقتصاد العالمي، فقد شكك كل من الجمهوريين والديمقراطيين في فوائد النظام الاقتصادي المنفتح والمتكامل، ورأوا أنه يستنزف الوظائف الجيدة، ويستدعي القيام بعمليات إنقاذ متكررة للبنوك والحكومات الأجنبية، حتى سيئة السمعة منها. وفي الوقت ذاته، يُشكك الحلفاء والمنافسون -على حدٍّ سواء- في متانة القيادة الأمريكية الحالية وفي قدرتها على الحفاظ على استقرار النظام المالي العالمي، وفي مدى صواب فكرة الاعتماد بشكل كبير على قوة مهيمنة واحدة. وينذر هذا الكلام بانهيار مالي وشيك، وبإعادة تشكيل محتمل للنظام العالمي، على حد قول "سمارت".

ويرى الباحث أن المشكلة التي يواجهها النظام العالمي الحالي لا تكمن في أن قوة أخرى ستحل محل الولايات المتحدة في القيادة، ولكن في أنه لن تكون هناك قيادة أساسًا في المناطق التي أضحت حيوية ومهمة للتجارة العالمية. والأسوأ من ذلك كله هو أن الاستجابة للأزمة المالية القادمة ستكون غير منسقة وكارثية، من وجهة نظر "سمارت"، الذي نوّه -في الوقت ذاته- إلى أن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أُجريت في نوفمبر الماضي أثارت بعض الجدل حول الأجندة العالمية للولايات المتحدة؛ إذ لم يكن هناك سوى أصوات قليلة تُذكّر الناخبين بأن القيادة المالية الدولية تُفيد الأمريكيين والبنوك، على حدٍّ سواء.

وبحسب المقال، تصاعدت الشكوك حول القيادة المالية الأمريكية -إلى حد كبير- إبان الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فسماح الولايات المتحدة ببيع الأصول العقارية آنذاك أصاب النظام المالي العالمي بالعجز، ما اعتُبر وقتها إهمالًا أمريكيًّا. ورغم الاستجابة المذهلة لاقتراحات مجموعة العشرين التي قادتها واشنطن لحل الأزمة، تعثر التزام الولايات المتحدة بإرساء الاستقرار في النظام العالمي بسبب تأخيرات طويلة من جانب الكونجرس الأمريكي في اعتماد إصلاحات صندوق النقد الدولي التي تضمنت اقتسامًا متواضعًا للسلطة مع الاقتصادات الناشئة، ما صعّد من حدة القلق بشأن مصداقية المشاركة الأمريكية في تشكيل النظام المالي العالمي.

ومن الأمور التي هزّت ثقة الحلفاء في القيادة الأمريكية أيضًا، إفراط الولايات المتحدة في فرض العقوبات، وتصميمها لحماية مصالحها التجارية وليس لتعزيز القواعد والمعايير العالمية ومكافحة الجرائم والإرهاب. فرغم نجاح العقوبات المالية المفروضة على إيران، ساور كثيرين الخوف والقلق عندما فرضت واشنطن غرامة قدرها تسعة مليارات دولار على بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي لتوجيهه مدفوعات لإيران، وخرقه الحظر الأمريكي المفروض على طهران. كما شجب منافسون مثل روسيا والصين العقوبات المالية بوصفها "قوة أمريكية غاشمة"، واتخذت كل منهما إجراءات جديدة تجنبهما الدولار في تعاملاتهما وصفقاتهما.

ويرى "سمارت" أن تصرفات الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تثير تساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بحماية النظام الدولي وقيادته من خلال الدولار. وقد شدد على أن مواجهة الاضطرابات السياسية المستقبلية تتطلب المزيد من الدهاء السياسي، بحيث يتم الموازنة بين المصالح الأمريكية والصالح العام للعالم ككل.

ويتحدث في مقاله عن أن الاتجاهات الحالية للاقتصاد العالمي تُشير إلى أن الاقتصادات الأخرى ستنمو، ولن تترك للولايات المتحدة سوى حصة متدنية فيه، ولا سيما أن الدراسات والأبحاث خلصت إلى أن عالمًا من العملات الاحتياطية المتساوية سيكون أكثر عدلًا واستقرارًا، وإلى أن وجود قوة عالمية واحدة مهيمنة على نظام من القوى المتنافسة ليس له سوى فوائد نسبية.

وفي الختام، قال "سمارت" إنه لا الاقتصاد الأمريكي ولا قيمة الدولار على وشك الانهيار، لكن تنامي الاستياء الشعبوي من الهياكل المالية الحالية، إلى جانب التقلبات الكبيرة التي يمر بها الاقتصاد العالمي؛ يثير التساؤلات والشكوك دائمًا حول مدى التزام واشنطن ببنود اتفاق "بريتون وودز". ولهذا يَنصح القادة السياسيين والرئيس الأمريكي المقبل بأن يوضحوا للعالم أهمية التعاون المالي الدولي، ودوره الحاسم في دعم النظام الاقتصادي العالمي، وجعله قويًّا ومستقرًّا وعادل!ا للجميع. ويرى أن الدبلوماسية المالية الأمريكية تحتاج إلى الثقة لتنجح، ولا سيما ثقة الناخبين في مشاركة الولايات المتحدة في النظام المالي العالمي، والتي ستبدد مخاوفهم من المستقبل، وكذلك ثقة دول العالم بأن الدولار والمؤسسات المالية الأمريكية توفر أفضل آلية لتعزيز نمو الاقتصاد العالمي واستقراره.

المصدر: 

Christopher Smart, “Dollar Diplomacy”, National Interest, Issue 159, January/February 2019, p27-34.