في أواخر شهر أبريل 2016، أعرب المفاوضون الأمريكيون والأوروبيون، بعد محادثات في نيويورك، عن أملهم في التوصل إلى اتفاقية "الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي" بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خلال العام الحالي، والتي تهدف إلى تحرير التبادل التجاري بين ضفتي الأطلسي، من خلال تخفيض رسوم جمركية وإلغاء أخرى، وتقريب القواعد المعمول بها لدى الطرفين.
لكن هذه الاتفاقية تواجه معارضة شعبية قوية، خاصةً داخل أوروبا، كما أصبح الحديث المعارض للاتفاقية يحتل مساحة كبيرة بين مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي في المراحل التمهيدية لانتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل.
وأيضاً بعد أن كانت الأصوات المعارضة والمنددة باتفاقية التبادل التجاري الحر تقتصر، في وقت سابق، على جهات غير حكومية، سواء نقابية أو اتحادات عمال أو منظمات حقوقية، ظهرت خلال الآونة الأخيرة مواقف حكومية رسمية، على رأسها فرنسا، تدعو إلى التريث قبل إبرام أي اتفاق قد يضر بالمصالح الأوروبية.
رهانات الشراكة عبر الأطلسي
في حال تم التوصل إلى اتفاقية الشراكة الاستثمارية والتجارية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، سيتم إنشاء أكبر منطقة للتجارة الحرة في العالم، تضم نحو 800 مليون نسمة، وتشكل 40% من الناتج الاقتصادي العالمي، و50% من التبادلات التجارية العالمية، أي ما يفوق 30 تريليون دولار سنوياً، وفقاً للتقديرات.
ويعد الاتحاد الأوروبي الآن أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وتتدفق بينهما يومياً سلع وخدمات تبلغ قيمتها 2.7 مليار دولار، وحوالي 4 تريليونات دولار من الاستثمارات في اقتصادات الجانبين. كما تعتمد أكثر من 13 مليون وظيفة في الجانبين الأوروبي والأمريكي على الشراكة الاقتصادية بينهما.
وعلى الرغم من أن التعريفات الجمركية التي تفرضها كل من الولايات المتحدة وأوروبا على السلع المُصنعة التي يسوقها الطرف الآخر، منخفضة بالفعل (أقل من 3% في المتوسط)، فإن اتفاقية التجارة الحرة بينهما من شأنها أن تكون مفيدة للغاية في تشجيع المزيد من الاستثمار، وبالتالي تعزيز النمو الاقتصادي، وتقليص تكاليف الصادرات والواردات بينهما بأكثر من 25 مليار دولار، وخلق المزيد من الوظائف.
وتشير تقديرات المفوضية الأوروبية إلى أن الشراكة عبر الأطلسي ستؤدي إلى خلق نحو مليوني فرصة عمل جديدة سنوياً، لاسيما في أوروبا التي مازالت تعاني تداعيات الأزمة المالية، وتزايد معدلات البطالة في بلدانها والتي تتجاوز أحياناً أكثر من 10%.
وفي المقابل، أظهرت دراسة اقتصادية ألمانية، نُشرت في يونيو 2013، أن الأمريكيين سيكونون أكثر الرابحين من منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي؛ إذ ستوفر للاقتصاد الأمريكي نحو 1.1 مليون فرصة عمل جديدة سنوياً، وسترفع دخل الفرد بنسبة 13.4%. وتوقعت هذه الدراسة أن يرتفع دخل الفرد في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي في المتوسط بنسبة 5%، و4.7% في ألمانيا.
وإذا كانت اتفاقيات التجارة الحرة ذات جوانب اقتصادية في المقام الأول، إلا أنها لا تخلو من رهانات سياسية غالباً، وفي هذا الصدد فإن اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي تهدف إلى تكوين كتلة ضخمة، يكون بمقدورها مواجهة قوة الصين المتنامية بسرعة كبيرة.
حماس رسمي
تستحوذ اتفاقية الشراكة الأطلسية على درجة كبيرة من اهتمام الساسة الأمريكيين والأوروبيين، فهي شراكة تاريخية واستراتيجية حاسمة للجانبين، كالتالي:
1- على الجانب الأمريكي: يرغب الرئيس باراك أوباما في أن تتحول الاتفاقية إلى أهم إنجاز حققه في فترته الرئاسية، إن لم يكن واحداً من أهم الإنجازات التي حققها أي رئيس أمريكي.
وأكد أوباما أن اتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا ستكون عنصراً أساسياً في جدول أعماله خلال الشهور المتبقية من حكمه. وبالفعل دفع الرئيس الأمريكي من أجل سرعة إنجاز الاتفاقية، خلال حضوره معرض هانوفر التجاري الدولي بألمانيا في أبريل الماضي.
وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون قد أعلنت، في عام 2012، عن تطلعها إلى إبرام الشراكة الأمريكية – الأوروبية، باعتبارها هدفاً استراتيجياً أو "ناتو اقتصادياً" يجمع بين الناتو العسكري والسياسي، قائلةً :"إن توجهنا نحو آسيا لا يعني الانسحاب من أوروبا".
وفي مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير 2013، شدد نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن، على أن أوروبا هي الشريك الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة، وهي حجر الزاوية والمُحفز في تعاون واشنطن مع بقية دول العالم.
2- على الجانب الأوروبي: تسعى بعض الحكومات الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، إلى إبرام اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي، باعتبارها منفذاً جديداً لاقتصاداتها، حيث ستعود عليها بالمليارات، فضلاً عن تقديم الاتفاقية مغريات وحوافز لبريطانيا من أجل إثنائها عن تفكيرها في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
كما تشير وجهة النظر الأوروبية الرسمية الداعمة لهذه الاتفاقية، إلى أنها ستحقق مصلحة للجميع، وفي وقت قصير نسبياً ستصبح الشراكة الأطلسية قاطرة الاقتصاد العالمي.
إشكاليات وعوائق الشراكة
على الرغم من الرهانات الواعدة للشراكة عبر الأطلسي، والحماسة الرسمية لسرعة توقيعها، فإن هذه الاتفاقية تواجه جملة من الاعتراضات الشعبية، وأيضاً على المستوى الرسمي لدى بعض الدول الأوروبية، فضلاً عن مخاطرها العالمية، ويتضح ذلك في النقاط التالية:
1- اعتراضات فرنسية:
في حين تبدو ألمانيا في طليعة الدول التي تدعم المُضي قُدماً في الاتفاقية، نظراً لطبيعة الصناعة والمنتجات الألمانية التي لن تجد منافسة قوية من نظيرتها القادمة عبر الأطلسي، فإن فرنسا تبدو على العكس أقل حماسة، وربما اعتراضاً.
وفي 26 أبريل الماضي، أكد وزير الدولة الفرنسي للتجارة الخارجية، "ماتياس فيكل"، والذي مثَّل بلاده في المفاوضات، تراجع فرص التوصل إلى توافق حول اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار، مُستبعداً إمكانية توقيع الاتفاقية قبل نهاية العام الحالي، كما يأمل الرئيس أوباما.
وثمة موضوعات تترقب باريس تحقيق تقدم بشأنها، ومنها البيئة، وشفافية المفاوضات، وآليات التحكيم، كما تعتبر فرنسا أن أوروبا هي المجموعة الاقتصادية الأولى في العالم من حيث قيمتها وحجمها، وبالتالي ليس هناك أي سبب يدعو إلى اتباع قارة محددة أو بلد محدد، ولو كان شريكاً وحليفاً.
وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قد أعلن، في منتصف أبريل الماضي، أن بلاده بإمكانها أن ترفض اتفاق الشراكة الأطلسية في حال لم يُستجب لشروطها.
وفي الحقيقة، ترى باريس أنها ستكون الجانب الأضعف في حال إتمام الشراكة الأطلسية، حيث إن الصناعة الفرنسية تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى الأسواق الأوروبية، وهو ما سيجد تحدياً بالغاً، وربما يلقى تراجعاً كبيراً إذا فتحت أوروبا أبوابها للواردات الأمريكية "مخصومة من الضرائب والرسوم الجمركية"، وهي العوامل التي ربما تقضي على القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية في عقر دارها.
وهناك أيضاً بعض الجوانب التي لا تريد فرنسا التخلي عنها مثل دعمها صناعتها السينمائية، حيث تسعى باريس إلى حماية إنتاجها الثقافي كجزء مما تسميه بـ"الاستثناء الثقافي" لمنع تدفق الأفلام الأمريكية إلى السوق الفرنسية.
2- اعتراضات شعبية أوروبية:
تتسلح فرنسا في معارضتها للاتفاقية المنتظرة بتزايد المخاوف بين الأوروبيين من المفاوضات حول تحرير التجارة مع الولايات المتحدة، إذ شهدت عدة مدن في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، خلال الفترة الأخيرة، عدداً كبيراً من الاحتجاجات المناهضة لتلك المفاوضات، وأعرب منظموها عن قلقهم من أن تُعرض تلك الشراكة المستهلك الأوروبي إلى المزيد من الأغذية المُعدلة وراثياً، واللحوم والدواجن المعالجة بالهرمونات.
كما تناول معارضو الاتفاقية طريقة إجراء المفاوضات، إذ وصفوها بالمفاوضات السرية غير الديمقراطية.
3- عوائق اقتصادية:
يعارض بعض الساسة في الاتحاد الأوروبي البنود المعروفة في الاتفاقية باسم "آلية تسوية المنازعات بين المستثمر والدولة"، على أساس أنها تحد من قدرة الحكومات الوطنية على رعاية المصالح العامة، وتتيح للمستثمرين تحقيق مصالحهم، نظراً لوجود بنود تسمح للمستثمرين والشركات باللجوء إلى القضاء للاعتراض على التشريعات والقواعد المحلية المنظمة لحماية البيئة والمستهلك.
ومن ناحية ثانية، فإن الأوروبيين مهتمون أيضاً بإزالة العقبات الموضوعة أمامهم في قطاع الخدمات الذي يضطلع بالنصيب الأكبر في إجمالي الناتج المحلي الأمريكي.
وفي المقابل، فإن ثمة مطالب أمريكية من الأوروبيين، تشمل قطاع الخدمات الأوروبي والقطاع الزراعي الذي يستحيل على قادة الكونجرس أن يدعموا ويمرروا الاتفاقية إذا لم تستجب لطلبات بلادهم فيما يخص تخفيف القيود الأوروبية المفروضة على اللحوم والمحاصيل الزراعية المعالجة هرمونياً.
وبالتالي في حالة عدم تقديم الولايات المتحدة أي تنازلات للأوروبيين في هذه الاتفاقية، فإنها مُرشحة للفشل، وهو ما أكده وزير الاقتصاد الألماني "سيغمار غبرييل"، في شهر أبريل الماضي، مشيراً إلى أنه لن يوافق على نص يلخصه في الوقت الحاضر بعبارة "اشتروا منتجات من صنع الولايات المتحدة".
4- تداعيات ومخاطر عالمية:
في منتصف يونيو 2013، حذرت دراسة أجراها معهد "إنفو" الألماني من أضرار بالغة للدول النامية في حال أُبرمت اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي، حيث ستقل الواردات الأوروبية والأمريكية من الدول الأخرى، وبالتالي سيضر ذلك بدخل الفرد في هذه الدول التي لديها علاقات تجارية تقليدية مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
كما أن هناك العديد من المخاوف والتحفظات على الشراكة الأطلسية باعتبار أنها اتفاقية تهدف إلى تجميد التنافس في التجارة العالمية، والقضاء على المنافسين في السوق الدولية، وفي مقدمتهم الصين.
ختاماً، يمكن القول إن ثمة فرصاً محدودة لإنجاز اتفاقية "الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الأطلسي" بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قبل نهاية العام الحالي على الأقل، على الرغم من المساعي المبذولة من الرئيس الأمريكي باراك أوباماً في هذا الاتجاه منذ منتصف عام 2013. وتقف الكثير من المعوقات وراء إنجاح الاتفاقية بين الجانبين، وأبرزها الشكوك التي باتت تساور الكثير من الأوروبيين، وفي مقدمتهم الفرنسيون، فضلاً عن الخلافات بشأن عدد من النقاط في الاتفاقية، وهو ما فشل أوباما في حله إبان زيارته الأخيرة إلى ألمانيا في شهر أبريل الماضي.