شهدت كوريا الجنوبية، في 3 ديسمبر 2024، أحداثاً دراماتيكية، على خلفية إعلان يون سوك يول، رئيس كوريا الجنوبية، فَرْض الأحكام العرفية في تحرك غير مُتوقَّع من جانبه، وعلى الرغم من أن العلاقة المضطربة بين السلطة التشريعية والتنفيذية كانت تشير إلى احتمالية حدوث صدام بين الطرفين؛ فإن أكثر المتشائمين لم يكن يُتوقَّع أن يسعى الرئيس إلى الانقلاب على الثوابت الديمقراطية التي عملت كوريا على ترسيخها، كما تتهمه المعارضة.
قرار صادم واستدارة سريعة:
برر الرئيس الكوري الجنوبي في خطاب تلفزيوني قراره بفرض الأحكام العرفية بالحاجة إلى حماية البلاد من القوات الشيوعية الكورية الشمالية، والقوات المناهضة للدولة، والعمل على إعادة بناء كوريا الجنوبية وحمايتها من السقوط والخراب. وربما حاول الرئيس تعزيز سلطته عَبْرَ إعلانه فَرْض الأحكام العرفية في خطوة كانت تشير لحسابات سياسية غير دقيقة، خاصة وأن المحصلة النهائية لها قد تكلفه مستقبله السياسي بشكل عام.
وتمنح المادة 77 من الدستور الكوري الجنوبي الرئيس القدرة على إعلان الأحكام العرفية وتنفيذ التدابير الخاصة بها. ومع ذلك تتيح المادة ذاتها الحق للجمعية الوطنية في مطالبة الرئيس بإلغاء الأحكام العرفية من خلال تصويت أغلبية أعضاء الجمعية ضد القرار؛ وهو ما حدث بالفعل بعد ساعات من إعلان يول، حيث تمكَّن 190 برلمانياً من دخول مقر الجمعية الوطنية وصوتوا بالإجماع ضد قرار فَرْض الأحكام العرفية؛ ما يجعله قراراً غير قابل للتنفيذ.
ترتيباً على ما سبق، يمكن الوقوف على تفسيرات التحرك المفاجئ لرئيس كوريا الجنوبية والتراجع السريع عن قرار فَرْض الأحكام العرفية، في ضوء مجموعة من العوامل، على النحو التالي:
1 - العلاقة المضطربة بين السلطة التشريعية والتنفيذية: تشير تحركات الرئيس يول إلى أن التوتر المكتوم أو التباينات بينه وبين البرلمان (الجمعية الوطنية)، قد وصلت إلى مستوى الانفجار، ما يُعد نتيجة طبيعية للعلاقة المضطربة بين الجانبين على مدى سنتين، خاصةً بعد انتخابات الجمعية الوطنية الأخيرة في إبريل 2024، والتي تسببت في تزايد الفجوة بين مكونات النظام السياسي بعدما أسفرت نتائجها عن حيازة أحزاب المعارضة مجتمعة على أكثرية المقاعد بنحو 192 مقعداً من أصل 300 مقعد، وحصول "حزب قوة الشعب" الحاكم على 108 مقاعد، وهي العلاقة التي حالت دون تنفيذ الرئيس يول أجندته بقدر كبير من المرونة؛ إذ اصطدمت خططه بمعارضة صارمة داخل الجمعية الوطنية.
هذه العلاقة المضطربة تبلورت في وقت مبكر، حيث رفض يول حضور الجلسة الافتتاحية للجمعية الوطنية في سبتمبر 2024، وهي المرة الأولى منذ عام 1987، التي يغيب فيها الرئيس عن الافتتاح. من ناحية أخرى اتسعت الفجوة بينهما مع اقتراح الحزب الديمقراطي في 29 نوفمبر 2024، تخفيض ميزانية الحكومة للعام المقبل؛ وهو القرار الذي تم تمريره من جانب واحد داخل لجنة الموازنة، في خطوة هي الأولى من نوعها أيضاً في تاريخ كوريا الجنوبية، ومع ذلك لم يتم التصويت عليها نهائياً حتى الآن. كما زادت التوترات على خلفية تُهم فساد تتعلق بزوجة الرئيس الكوري وبعض كبار المسؤولين في حكومته.
2 - تزايد حدة الاستقطاب السياسي: كشفت التطورات الأخيرة وإعلان الأحكام العرفية عن قدر كبير من الانقسام والاستقطاب السياسي بين الفاعلين الرئيسيين في المشهد السياسي في كوريا الجنوبية، كما أن هذه التحركات ربما تشير لسياسة الانتقام التي فرضت نفسها خلال الفترات الماضية، من قِبَل المعارضة، التي تسعى لعرقلة أجندة الحكومة وإقصاء المسؤولين بمن فيهم الرئيس يول نفسه، فمنذ وصوله للسلطة في مايو 2022، كانت هناك 22 محاولة عزل قادتها المعارضة ضد مسؤولين حكوميين، و10 محاولات لعزل الرئيس منذ يونيو الماضي، وذلك بحسب ما أعلن الرئيس الكوري.
من ناحية أخرى، كان خطاب يول كاشفاً عن الانقسام السياسي ومحاولة الانتقام من المعارضة، حيث تبنى رواية تتهم المعارضة بأنها موالية لكوريا الشمالية، ومعادية للدولة، وربما كان يهدف من خلال هذه السردية إلى تشويه صورة المعارضة وجذب الرأي العام إليه. ورغم أن هذه المحاولات لم تؤت ثمارها؛ فإنها تكشف عن مستوى عدم الثقة ورغبة أطراف المعادلة السياسية في إقصاء الطرف الآخر، بما يعكس إحدى سلبيات المشهد السياسي الأخرى ممثلة في بروز العداء السياسي الناتج عن حالة الشخصنة التي تسيطر على الحياة الحزبية؛ وهو ما يمكن ملاحظته من تعرُض معظم الرؤساء السابقين للتحقيق وإدانتهم بمجرد وصول معارضيهم للسلطة.
3 - مقاومة الابتعاد عن المسار الديمقراطي: تشير حالة الاستدارة السريعة من جانب الرئيس يول، وتراجعه عن فَرْض حالة الطوارئ إلى رغبة المؤسسات الكورية ممثلةً في الجمعية الوطنية، والرأي العام ممثلاً في المواطنين ومنظمات المجتمع المدني، في قطع الطريق أمام أية محاولات لما يمكن اعتباره انقلاباً على القيم والمسار الديمقراطي، الذي سعت كوريا الجنوبية للترويج له وتأكيده منذ أن أصبحت دولة ديمقراطية في عام 1987، وهي التجربة التي بدأت ملامحها مع انتخاب أول رئيس للبلاد في عام 1992 من خارج صفوف العسكريين.
أيضاً، لم تشهد كوريا الجنوبية إعلان الأحكام العرفية منذ نحو 45 عاماً، عندما تم إعلانها في أعقاب اغتيال الرئيس، بارك تشونغ هي، الذي حكم البلاد ما يقرب من 15 عاماً؛ لذا يُنظَر للمحاولة الأخيرة باعتبارها تجاوزاً للخطوط الحمراء، والقواعد التي شكَّلت النظام السياسي في كوريا الجنوبية خلال العقود الماضية، كما أنها كانت بمثابة اختبار حقيقي بين العودة للمسار الاستبدادي أو الحفاظ على النموذج الديمقراطي. وعلى الرغم من ذلك، تشير التحولات الراهنة إلى أن التجربة الديمقراطية في كوريا الجنوبية ربما لا تزال هشة أو أنها لم تنضج بَعْد بصورة كاملة، في ظل استمرار الانقسام السياسي وسوء استخدام السلطة، ومحاولة شيطنة المعارضة والفجوة القائمة بين الجنسين، وغيرها من العوامل التي تتناقض مع الممارسات الديمقراطية الراسخة.
4 - مرونة الجيش وميله للمزاج الجمعي: وضعت الترتيبات التالية لفرض الأحكام العرفية الجيش في مقدمة المشهد، حيث تولى الجنرال بارك آن سو، رئيس الأركان العامة للجيش قيادة الأحكام العرفية، وقام بإصدار مجموعة من الأحكام، من بينها حَظْر الأنشطة والتجمعات السياسية، وإخضاع وسائل الإعلام لسيطرة القيادة العسكرية، وغيرها من الأحكام التي تزيد من قبضة الجيش على المشهد، وكانت وزارة الدفاع قد أعلنت حالة التأهب والجاهزية لجميع عناصرها، وقام الجيش بالانتشار في الشوارع وتطويق مبنى الجمعية الوطنية.
ويبدو أن المعارضة لم تكن تستبعد التخطيط المسبق لهذا التحرك، خاصة مع إعلان تعيين رئيس جهاز الأمن الرئاسي، كيم يونغ هيون، وزيراً جديداً للدفاع في أغسطس 2024، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة المعارضة، التي بدأت في سبتمبر 2024 الحديث عن مخطط لفرض الأحكام العرفية. ورغم ذلك اتسم تعامل الجيش مع القرارات الأخيرة بقدر من الاتزان والهدوء، خاصة بعدما انسحب من المشهد في أعقاب تصويت الجمعية الوطنية ضد قرار فَرْض الأحكام العرفية؛ أي أن الجيش استجاب في الحالتين لقواعد الدستور؛ ومن ثم حالت تصرفات الجيش دون اندلاع مواجهة عنيفة مع الجماهير والقوى السياسية الغاضبة من قرار يول؛ ما أفضى إلى احتواء الأزمة بصورة سلمية بعيداً عن العنف والفوضى.
ملامح عامة للمشهد القادم:
يمكن وصف الإجراءات التي لجأ إليها رئيس كوريا الجنوبية بأنها مغامرة غير محسوبة النتائج، وربما تكون بداية النهاية له، فعلى الرغم من احتواء محاولة الانقلاب على الديمقراطية؛ فإن الملامح العامة للمشهد ربما لم تتضح بَعْد، كما يُتوقَّع أن تشهد الساحة السياسية زخماً كبيراً خلال الأشهر القادمة، وهو ما يمكن استعراضه فيما يلي:
1 - مسار إجباري (الاستقالة أو العزل): ربما تتجه الأحداث في المدى المنظور نحو مسار إجباري لم يكن ضِمْنَ حسابات الرئيس الكوري، فالنتيجة المنطقية لفشله في إحكام سيطرته على المشهد من خلال محاولة فَرْض الأحكام العرفية سوف تؤول إما إلى قيام الرئيس بإعلان استقالته والخروج من المشهد أو عزله. ومع ذلك، ومع تراجُع شعبية الرئيس بصورة كبيرة خلال الفترة الماضية، حيث وصلت نسبة تأييده إلى 20% فقط مقارنة بنحو 53% وقت انتخابه، إلا أن قرار تنحيه يظل موضع شك، ولا يُتوقَّع أن يُقبِلَ عليه في ظل رغبته في الاحتفاظ بالسلطة وحاجته إلى تأجيل المساءلة السياسية أو الهروب منها.
وهنا يكون الانتقال إلى المسار الثاني، الذي يدور حول عزل الرئيس وإجباره على الخروج من المشهد، وهو الاتجاه الأكثر ترجيحاً، حيث بدأت المعارضة في إعداد مقترح لعزل الرئيس، قد يتم التصويت عليه يوم 7 ديسمبر الجاري. ولا تبدو مهمة المعارضة صعبة في تمرير قرار العزل، حيث يحتاج القرار إلى تصويت أغلبية ثلثي الأعضاء، وعددهم 200 عضو؛ ما يعني أن المعارضة بحاجة إلى استقطاب 8 أعضاء من الحزب الحاكم للتصويت لصالح القرار. نظرياً يُعد التصويت لعزل الرئيس مضموناً؛ إذ تشير التقارير إلى تصويت 18 عضواً من الحزب الحاكم على قرار رَفْع الأحكام العرفية، ورغم صعوبة الجزم بتأييد أعضاء الحزب الحاكم لقرار العزل؛ فإن موقف حزب قوة الشعب الحاكم من إعلان الأحكام العرفية ربما يشير لإمكانية تصويت بعض أعضاء الحزب لصالح القرار، حيث وصفه زعيم الحزب بأنه مأساوي ودعا لمحاسبة كل المسؤولين عنه.
وفي هذه الحالة ستكون كوريا الجنوبية أمام ثاني محاولة عزل للرئيس منذ استكمال عملية التحول الديمقراطي؛ إذ أطاح البرلمان في عام 2017 برئيسة البلاد بارك كون هيه، بَعْد التصويت على عزلها، وربما يجد يول نفسه أمام مصير بارك، بمجرد عزله ورفع الحصانة، والتي وُجِّهَت إليها تُهم بالرشوة وإساءة استخدام السلطة، وحُكِمَ عليها بالسجن 20 سنة، قبل إعلان العفو عنها في ديسمبر 2021.
2 - الاحتكام للمحكمة الدستورية كمسار تكميلي: يحتاج عزل الرئيس بعد تمريره من الجمعية الوطنية إلى قرار مماثل من المحكمة الدستورية، والتي إما أن تؤيد قرار العزل أو ترفضه. ويجب أن يوافق على القرار ستة قضاة على الأقل من أصل تسعة من قضاة المحكمة. هذا المسار يواجه إشكالية؛ إذ لا يوجد سوى ستة قضاة في الوقت الحالي في المحكمة الدستورية، بعد تقاعُد ثلاثة قضاة في الفترة الأخيرة، في حين لا يمكن للمحكمة النظر في قضية العزل إلا بحضور سبعة قضاة أو أكثر؛ ما يعني أن تمرير القرار في المحكمة يظل خطوة غير مكتملة في ظل غياب النصاب القانوني. وعليه، فقد أوصى الحزب الديمقراطي المعارض في 4 ديسمبر بإضافة قاضييْن للمحكمة؛ وذلك بهدف تجاوز أية عقبات يمكن أن تؤثر في القرار أو تثير شكوكاً حول مشروعيته، إضافة إلى المخاوف المتعلقة برفض تأييد المحكمة للقرار، في ظل وجود بعض القضاة الذين تم تعيينهم من قبل الرئيس يول.
ربما تؤدي هذه الإشكالية إلى بقاء يول في الحكم على الأقل ثلاثة أشهر بعد تصويت الجمعية الوطنية؛ إذ تشير التجربة التاريخية إلى أن تعيين قضاة جدد ربما يحتاج إلى شهرين أو ثلاثة، كما أن المحكمة الدستورية ليست مُلزَمَة بمدى زمني معين لإصدار قرارها برفض أو تأييد العزل، وربما يحتاج الأمر إلى ثلاثة أشهر على غرار ما حدث في قرار عزل بارك كون هي؛ إذ صوتت الجمعية الوطنية على القرار في ديسمبر 2016، قبل أن يحظى القرار بتأييد المحكمة الدستورية في مارس 2017.
3 - الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة: في حالة استكمال المسار القانوني لعملية عزل الرئيس أو قبوله تقديم استقالته، فسوف تدخل البلاد في مرحلة الإعداد لإجراء انتخابات مبكرة، وكان من المقرر استمرار الرئيس يول في الحكم حتى عام 2027. وفي هذه الحالة سوف يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو، إدارة البلاد، على أن يتم إجراء الانتخابات في غضون 60 يوماً. وتشير التوقعات إلى أن نتائج هذه الانتخابات سوف تأتي في صالح الحزب الديمقراطي، وقد يكون لي جاي ميونغ، زعيم الحزب المرشح الأوفر حظاً، خاصة أنه خسر الانتخابات الرئاسية في عام 2022 بفارق ضئيل جداً. ورغم صعوبة تحقيق حزب قوة الشعب اختراقاً كبيراً في الانتخابات المبكرة القادمة بعد الإجراءات الأخيرة التي لجأ إليها يول؛ فإن هذا لا ينفي فرص رئيس الحزب، هان دونغ هون، في السباق الرئاسي المحتمل، خاصة وأنه تبنى منذ البداية موقفاً معارضاً تماماً للخطوات التي قام بها الرئيس، وربما تزداد شعبيته وفرصه في حال قيامه بالحشد أو مطالبة أعضاء الحزب في البرلمان التصويت لصالح قرار عزل الرئيس.
أخيراً، لم يكن تراجُع الرئيس يول عن فَرْض الأحكام العرفية بمثابة الفصل الأخير في التحولات الدراماتيكية التي شهدتها كوريا الجنوبية يومي 3 و4 ديسمبر الجاري؛ بل إنه قد يكون البداية نحو تحولات أكثر دراماتيكية، سواء على صعيد الداخل أم الخارج؛ إذ قد يؤدي ذلك إلى تغيير المعادلة السياسية في كوريا الجنوبية، وربما تغيير الأوزان النسبية للفاعلين في المشهد، كما قد يؤدي إلى تساؤلات كبرى حول مستقبل الديمقراطية في كوريا الجنوبية وكذا العلاقة المستقبلية بين السلطة التشريعية والتنفيذية.