تشهد تونس في التوقيت الحالي موجة كاسحة لتفشي وباء كوفيد -19 والسلالات المتحورة منه، حيث تسجل البلاد أعداد قياسية من الإصابات والوفيات اليومية، وهو ما دفع الحكومة الحالية إلى إعلان انهيار المنظومة الصحية في البلاد، والاعتراف بأن الوضع أصبح كارثياً، وبالتالي تم فرض إغلاق شبه تام على عدد كبير من الولايات؛ وذلك في محاولة للتقليل من الانتشار الواسع للفيروس.
ويتزامن تفاقم أزمة تفشي كورونا في تونس مع دخول البلاد مرحلة الشحن السياسي، وتعقد الأزمة السياسية في ظل تزايد حدة الاستقطاب بين الرئاسات الثلاثة "رئيس الدولة، الحكومة، والبرلمان". وقد أفضت هذه الأزمة السياسية إلى تزايد تحديات مواجهة جائحة كورونا من جهة، ومن جهة أخرى تكثيف الضغوط النفسية التي يواجهها المواطنون التونسيون؛ نتيجة حالة القلق السياسي المصاحبة لتصاعد المخاوف وعدم اليقين من قدرة النظام الصحي على استيعاب الارتدادات الصحية التي أفرزتها كورونا في عموم البلاد.
مؤشرات الانهيار:
ثمة العديد من المؤشرات الكاشفة عن تفاقم أزمة فيروس كورونا في تونس ووصولها إلى مستويات خطرة خلال الفترة الحالية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- ارتفاع حالات الوفاة والإصابة بالفيروس: تُوفي ما يزيد على 16 ألف مواطن تونس، وأُصيب أكثر من نحو 497 ألف شخص منذ ظهور وباء كورونا في العام الماضي. وتسجل تونس مؤخراً أعداد قياسية من الوفيات والإصابات اليومية، بلغت أقصاها 194 وفاة، و9286 إصابة يوم 10 يوليو الجاري. كما تخطت معظم الولايات التونسية، بحسب وزارة الصحة، مستوى "الإنذار المرتفع جداً"، والذي يعني تسجيل أكثر من 100 إصابة بالفيروس لكل 100 ألف شخص، وقد تجاوزت بالفعل عدة ولايات تونسية أضعاف هذا الرقم.
وعلى صعيد ذي شأن، دفع تفشي الفيروس ونسخته المتحورة "دلتا" في قطاعات معتبرة من الولايات التونسية، دول الجوار إلى تبنى تدابير احترازية. فعلى سبيل المثال، قررت السلطات الليبية، يوم 8 يوليو الجاري، إغلاق المنافذ الجوية والبرية مع تونس لمدة أسبوع.
2- انهيار المنظومة الصحية: شهدت المنظومة الصحية في تونس انهياراً تاماً بسبب ارتفاع عدد الإصابات بشكل غير مسبوق، ووصلت حالة التفاقم في المنظومة الصحية إلى الذروة مع انعكاس تداعيات جائحة كورونا التي ألقت بظلالها على وضعية المستشفيات العمومية في البلاد، حيث عانت انهياراً في طاقة الاستيعاب ونقصاً في التجهيزات وأسرّة الإنعاش والأكسجين.
وفي الصدد، أقرت المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية، نصاف بن علي، يوم 8 يوليو الجاري، بأن المنظومة الصحية في البلاد انهارت، مع امتلاء أقسام العناية الفائقة وإرهاق الأطباء والتفشي السريع لجائحة كورونا. وأضافت أن "المركب يغرق"، داعية الجميع إلى توحيد الجهود، مع ضرورة "العمل على جلب اللقاح"، حيث إن حملة التطعيم بطيئة، وتلقى نحو 4% فقط من سكان تونس اللقاح بالكامل في بلاد يقطنها حوالي 12 مليون نسمة.
وقد دفع عجز المنظومة الصحية عن التعاطي مع حالات الإصابة بالوباء، السلطات التونسية إلى إقامة مستشفيات ميدانية عسكرية في عدد من الولايات، فضلاً عن إعلان الرئيس قيس سعيد، في 7 يوليو الجاري، حالة التعبئة العامة في مراكز التجنيد بدعوة المتخرجين الجدد من الأطباء إلى الخدمة الوطنية لسد نقص الأطقم الطبية، كما استدعت الرئاسة التونسية الجيش للدخول على خط مواجهة انتشار كورونا.
3- الإغلاق شبه التام: دفعت الظروف والتداعيات السلبية الناتجة عن جائحة كورونا، الحكومة التونسية مؤخراً إلى إغلاق العديد من القطاعات والأنشطة الاقتصادية في عدد كبير من الولايات. كما أعلنت البلاد، منذ 8 يوليو الجاري، منع التنقل بين الولايات حتى نهاية هذا الشهر، بعدما وصل تفشي الوباء إلى مستوى "كارثي"، بحسب تعبير المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية.
4- طلب المعونات المالية: اتجهت تونس مع انهيار النظام الصحي، والفشل في توفير المستلزمات الطبية لمواجهة جائحة كورونا، إلى طلب تبرعات مالية من الأصدقاء والمغتربين. وكشف عن ذلك مناشدة السفارة التونسية في باريس رعاياها المقيمين في فرنسا المساهمة في مساندة النظام الصحي التونسي في ظل التبعات الكارثية الناجمة عن تفشي وباء كورونا. وحثت السفارة التونسية، في منشور على صفحتها بموقع "فيس بوك" يوم 11 يوليو الجاري، التونسيين المقيمين بفرنسا على المساهمة في دعم المؤسسات الصحية التونسية، لتزويدها بتجهيزات ومعدات طبية وشبه طبية ضرورية، أو تقديم مساعدات مالية. كما تعهدت عدة دول بمساعدة تونس في مواجهة الوضع الكارثي للجائحة بعد انهيار نظامها الصحي.
انعكاسات سياسية:
في الوقت الذي تعاني فيه تونس من تفشي جائحة كورونا، ووصولها إلى مستويات قياسية، فإن الأزمة السياسية المتفجرة في البلاد منذ فترة تقف حجر عثرة أمام مكافحة الوباء. وتعيش تونس تحت وطأة أزمة سياسية بسبب الاستقطاب السياسي بين الرئيس قيس سعيد، وحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي والتي تسيطر على البرلمان. وقد تسببت هذه الخلافات والتجاذبات بين مكونات المشهد التونسي في سوء إدارة أزمة كورونا، وجعلت عملية اتخاذ القرارات الصحية معقدة، وهو الأمر الذي سمح بتفشي الوباء، وانتشاره بصورة سريعة.
كما صعّبت حدة الاستقطاب السياسي في تونس من القدرة على مواجهة الوباء وتداعياته الصحية، حيث شهد الخطاب السياسي في إدارة أزمة كورونا حالة من التخبط، ناهيك عن ضعف السياسة الاتصالية للهياكل المعنية بمجابهة الوباء، وفي مقدمتها اللجنة العلمية، ووزارة الصحة، إضافة إلى تضارب خطابات القوى السياسية الرسمية بخصوص حقيقة الوضع الصحي في البلاد.
وفي هذا السياق، ونتيجة تفاقم الوضع السياسي في تونس، فإن الدولة تبدو معرضة لكارثة صحية قد يصعب تجاوزها، لاسيما أن استمرار سياسة التجاذبات بين الرئاسات الثلاث، تثير قلق الخارج، وظهر ذلك في قرار بريطانيا بتصنيف تونس ضمن "القائمة الحمراء"، في ظل التسارع الكبير في عدد الإصابات المسجلة يومياً.
والأرجح أن استمرار الأزمة السياسية في تونس قد تسبب في تعرض البلاد لانتكاسة صحية، نتيجة انشغال مراكز السلطة بصراعاتها السياسية، وهو الأمر الذي فرض حالة من الضبابية على آفاق االوضع الصحي وفرص تعافيه من جائحة كورونا. وبينما تتزايد حالات الإصابة بالفيروس في تونس، فإنه من المرجح أن تزيد الأزمة السياسية المتفاقمة من صعوبة الخروج من الوضع الذي وصلت إليه المنظومة الصحية من دون تسوية الأوضاع السياسية المتأزمة، فضلاً عن إيجاد السبيل نحو التكامل والتنسيق بين الرئاسات الثلاث لإقرار سياسات صحية قادرة على استيعاب الضغوط الناتجة عن وباء كورونا.
تداعيات الجائحة:
تفاقمت أزمة تفشي كورونا إلى درجة غير مسبوقة في تونس، وهو ما ترتب عليه انهيار القطاع الصحي في البلاد، إضافة إلى الارتدادات السلبية للجائحة على زيادة حدة الأزمة الاقتصادية، وارتفاع نِسَب البطالة، وصعود معدلات الفقر. وبالتوازي مع ما تعيشه البلاد من انهيار كامل للمنظومة الصحية، تتفاقم حالة الاستقطاب السياسي بين الرئاسات الثلاث، وصعود حالة التشظي السياسي بين التيار الإيديولوجي الذي تمثله حركة النهضة، والتيارات العلمانية.
وقد ألقى تفاقم الأوضاع الصحية في تونس وتفشي وباء كورونا والسلالات المتحورة في عموم البلاد، بظلاله على طبيعة التجاذبات السياسية بين مكونات السلطة التونسية، وكشف عن ذلك التحولات في أداء هياكل السلطة والقوى السياسية الفاعلة. فعلى المستوى الرئاسي، سعى الرئيس قيس سعيد إلى استثمار الجائحة لتقويض دور حكومة هشام المشيشي وتيار النهضة الداعم لها، حيث قرر الرئيس سعيد الاستعانة بالجيش لمنع انتشار فيروس كورونا، من خلال تأسيس مستشفيات ميدانية متنقلة في الولايات الأكثر إصابة بالفيروس، وكذلك المساعدة في عمليات تطعيم المواطنين في ظل تزايد كبير في أعداد حالات الوفاة والإصابات بالوباء.
والأرجح أن استعانة الرئيس سعيد بالجيش التونسي جاء في ظل غياب دور الحكومة التي فشلت في إدارة أزمة كورونا، فضلاً عن أن خيار إنزال الجيش للمساعدة في مكافحة الوباء من شأنه أن يخفف الضغوط على التونسيين الذين سئموا أداء مؤسسات السلطة مقارنة بالجيش الأكثر تنظيماً وقدرة على فرض الانضباط. كما يعي الرئيس التونسي أن قرار الاستعانة بالمؤسسة العسكرية يوفر بيئة داعمة له باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وفي المقابل، فإن تعقيدات الوضع الصحي في تونس، وفشل حكومة المشيشي في تقديم آليات يمكن الاعتماد عليها في مكافحة كورونا، دفعت حركة النهضة - الفصيل المهيمن على البرلمان - إلى إعادة صياغة حساباتها السياسية، وظهرت مؤشرات كاشفة عن ترددها بشأن مواصلة دعم حكومة المشيشي، حيث أبدت النهضة استعدادها لمناقشة إمكانية بقاء المشيشي من عدمه على رأس حكومة سياسية مقبلة.
من جانبها، بدأت قطاعات سياسية واسعة في تونس تتجه إلى الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، باعتبارها الخيار الأمثل لوضع حد للأزمة السياسية الراهنة، وتسكين أوجاع حدة الاستقطاب السياسي الذي زاد تونس انغماساً في همها الداخلي. وكان "الاتحاد العام التونسي للشغل" قد أعلن بعد تفاقم الأوضاع الصحية، والعجز عن مواجهة فيروس كورونا، عن تأييده لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، خاصة بعد إجهاض دعوته قبل نحو شهرين لإجراء حوار وطني يضع حداً للأزمة السياسية المتصاعدة.
ختاماً، يمكن القول إنه ثمة صعوبة في التكهن بما سيؤول إليه الوضع الصحي في تونس، حيث لا تملك البلاد إمكانات صحية أو مادية كبيرة لاستعادة حيوية المنشآت الصحية المنهارة، أو توفير المستلزمات الطبية كافة لمواجهة حالات الإصابة والوفاة اليومية بسبب كورونا، والتي قفزت إلى مستويات مخيفة. ومن ثم، فإن استمرار الأزمة السياسية بين الرئاسات الثلاث، والإصرار على تجميد أدوات تغيير طبيعة المشهد السياسي الراهن، قد يزيد من تعقيدات الأوضاع الصحية من جهة، ويرسخ حالة الاستقطاب السياسي من جهة أخرى.