صباح يوم في مطلع آذار (مارس)، استيقظ الرئيس ترامب باكراً وبدأ يرسل التغريدات، واحدة تلو الأخرى، حول رواية مزعومة وصلته، مفادها أنّ سَلفه باراك أوباما تنصّت على هاتفه المنزلي في "ترامب تاورز"، نيويورك. وعلى الفور، وَصَف الأمر بعمل من صَنيع "شخص شرّير أو مريض". ولم يحاول ترامب التفكير، ولو للحظة، بمدى غرابة مزاعمه هذه، ولم يسعَ حتّى للتأكد من صحّتها مع أيّ فرد من أفراد فريق عمله، لترتبط الحادثة على الفور بالأسلوب العام الرائج لديه، الذي يقوم على إطلاق تعليقات من دون تفكير، وعلى توجيهها ضد رجل يبدو أنّه لا يزال حاقداً عليه، لأنه سخر منه خلال مناسبة عامّة منذ عشر سنوات.
لسوء الحظ، يبـــدو أنّ الأخـــبار عن تغريدات ترامب هذه تطغى على اهتمامات الرأي العام، كما هو الحال بالنسبة إلى معظم تغريداته الأخرى، ما يقلّل الوقت المكرّس للمباشرة في نقاش موزون إما عن سياساته، أو عـــن دوره في الزيـــادة مـــن حدّة مجمل الانقسامات الأخرى في الحياة العامة الأميركية، بما يشمل النقاش السام حـــول الجهود الروسية للتأثير في الانتخابات الأخيرة ضد هيـــلاري كلينتون، منافِسة ترامب. وفي تلك الأثناء، ومهما كانت الجوانب الإيجابيّة التي تأمّلها مستشاروه لدى قراءته خطـــاباً موزوناً يهدف إلى جعله يعتمد نبرةً أقرب إلى الرئاســة، تلاشت هذه الأخيرة على الفور بعد أن وقع، شأنه شأن أميركيين كثيرين، في فخّ عادة مؤذية يمتلكونها، تقـــوم على التشكيك في كلّ ما يصدر عن خصومهم وعلى الاعتراض عليه. وثمّة أمر بالسوء عينه، وهو أنّ معظم الاجتمـــاعات الرسميّة اليوم سيشوبها خلل، في حين يبدو، في مقابل ذلك، أن صحافة المعارضة تعتمد مساراً حذراً، بالقسم الأكبر منها، تسعى للتأكد تماماً من أنّه يتم تمثيل أصوات الحزب الجمهوري بالشكل المناسب.
تكثر الأسئلة المحوريّة، ويتعلّق أهمّ سؤالين منها بما إذا كان هذا الوضع سيستمرّ لنحو أربع سنوات متبقية من رئاسة ترامب، وفي حال لم يكن الأمر كذلك، حول طبيعة العوامل الرئيسيّة التي قد ستضع حدّاً للكابوس الراهن. وفي هذا الإطار، دعوني أقترح ثلاثة عوامل.
يأتي العامل الأول والأكثر ترجيحاً على شكل "انقلاب سلميّ من النخبة الحاكمة"، حيث ينجح أفراد من أسرة ترامب، وغيرهم من المستشارين المقرّبين منه، في إقناعه بأنّه ليس من مصلحته مواصلة إطلاق التعليقات بهذه الطريقة. ففي النهاية، قيل إنّهم إمّا أقفلوا صفحته على "تويتر" أو أرغموه على القيام بذلك خلال الانتخابات، وبالتالي، لا ريب إن فعلوا ذلك مجدّداً.
ثانياً، يشتمل الدستور الأميركي على بند شهير يقضي بفصل السلطات، وقد تستعين به المحاكم لمنع ترامب من الإقدام على أمر مخالف جدّاً للدستور، كأن يأمر أحدهم ضمن النظام القضائي بالتحقيق في نشاطات الرئيس السابق أوباما، في وقت يعالج فيه نظام المحكمة عينها، على ما يبدو، قضيّة ارتكاب أعضاء فريق عمل ترامب خطأ فادحاً، عندما قرّروا منع التحقيق في علاقة الأعمال المظلمة، وغير الأخلاقيّة على الأرجح، التي تجمعه بروسيا.
أخيراً، يشتمل النظام الانتخابي الأميركي على ممارسة، تنصّ على إجراء انتخابات لمجلس النواب في غضون سنتين. ويعني ذلك أنّه قبل أشهر من انتهاء العام 2018، سيشعر الجمهوريون في مجلسي الكونغرس بالقلق في شأن "تأثير ترامب" في فرص إعادة انتخابهم - بما يشمل الأدلة المتعددة على إدارته الفوضويّة للبيت الأبيض بحدّ ذاته. وما يزيد الاحتمال بتدخّل أحد العوامل المؤثّرة المذكورة أعلاه أو كلّها، ويجعلها أكثر واقعيّةً، هو أنه عاجلاً أم آجلاً، قد يعود الرئيس السابق باراك أوباما إلى قلب المعركة، بغض النظر عمّا كان ينويه في الأساس. فبادئ ذي بدء، باشر هذا الأخير شراء منزل لنفسه في واشنطن، على مقربة من مركز المستجدّات السياسيّة، كما وأنّه لا بدّ من وجود حدود لما يمكن لرجل أبيّ مثله أن يتحمّله من انتقادات علنيّة ومتهكّمة تنصب على أمثال كيليان كونواد، المتحدّثة البغيضة والسافرة باسم ترامب.
وكذلك، سيخرج الحزب الديموقراطي المعارض عاجلاً، وليس آجلاً، من إحباطه جرّاء خسارة هيلاري كلينتون في الانتخابات، وجرّاء استبدالها بوزير العمل السابق في عهد أوباما، توم بيريز، الذي تم تفويضه اليوم لإدارة مختلف جهات الحزب وتوحيدها، فيتطرّق إلى مهمة التطرّق إلى الأخطاء الكثيرة في الاستراتيجية الانتخابية التي اعتمدتها كلينتون، على أن تكون العملية مرفَقة بأمل كبير بعودة الأخلاقيات التي سادت في الماضي الحياة السياسية الأميركية، وهي زالت اليوم للأسف عن الوجود، حتّى في البرامج الحواريّة التلفزيونيّة ذات النوايا الأصدق، حيث يعاني المقدّمون في الكثير من الأحيان لمنع المشاركين من الصراخ للتغطية على بعضهم بعضاً.
أمّا سبب وصول الحياة السياسية الأميركية إلى هذا الطريق المسدود، فمسألة أخرى. ففي النهاية، كان ترامب نفسه ديموقراطياً في ما مضى، وتشتمل خططه على مفاهيم ديموقراطية في أساسها، على غرار تصميم برنامج أشغال عامة باهظ التكلفة، يعيد أشخاصاً كثيرين إلى العمل على إصلاح مختلف أجزاء البنية التحتية المتهاوية في البلاد. وهنا، من الواضح أن الأمر على صلة بالمسألة العرقيّة، وكذلك بمسألة الهجرة، وأيضاً باستدامة الآراء الراسخة حول مسائل تراها الأكثريات الدينية وغيرها غير قابلة للنقاش، وتشمل مثلاً الإجهاض والهجرة غير المشروعة، ناهيك عن الشكوك السائدة ضمن النخب التي لم يتم انتخابها، والتي تودّ سماع تفسير للسبب الذي يجعل تغريدات ترامب في الصباح الباكر تلقى أصداء بهذا الحجم الكبير.
*نقلا عن صحيفة الحياة