أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

رهانات متضادة:

كيف امتدت حرب التجارة بين بكين وواشنطن إلى أمريكا اللاتينية؟

10 سبتمبر، 2019


شكَّل إعلان شركة "هواوي" الصينية عزمها إنشاء مصنع للهواتف الذكية في البرازيل، بالإضافة إلى توقيع مذكرة تفاهم مع أوروجواي لتعميق التعاون في مجال شبكات اتصالات الجيل الخامس والرقمنة الصناعية وتدريب الموهوبين على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، استمرارًا للجهود الصينية الهادفة إلى تعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية، وهو الحضور الذي برزت بوضوح العديد من مؤشراته خلال السنوات الأخيرة. وسواء كان هذا الحضور تُحركه المصالح الاقتصادية، أو الاعتبارات الجيواستراتيجية؛ فإن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد أوجدت دوافع إضافية لدى بكين لتوطيد علاقاتها مع دول القارة اللاتينية، التي أصبحت تُمثل ساحة جديدة من ساحات التنافس الأمريكي الصيني.

دوافع متعددة:

هناك عدد من الدوافع المحرِّكة لرغبة الصين في تعزيز وجودها في أمريكا اللاتينية، ومنها على سبيل المثال:

1- التقليل من تأثير العقوبات الأمريكية: مع نشوب الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، عملت بكين على تعزيز علاقاتها مع بقية دول العالم، في محاولة من جانبها لتعويض الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها جراء الحرب التجارية مع واشنطن. لذا حولت وجهة وارداتها من بعض السلع الأولية من الولايات المتحدة إلى دول أمريكا اللاتينية ومن بينها فول الصويا. وعقب حظر وزارة التجارة الأمريكية في مايو الماضي بيع التكنولوجيا والسلع أمريكية الصنع لـشركة "هواوي" الصينية، دون الحصول على ترخيص مسبق من الحكومة، على خلفية اتهامات للشركة بأنها تُمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي؛ ضاعفت الصين جهودها المبذولة لتعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية، وذلك لتعويض استبعادها من السوق الأمريكية.

واتفق المسؤولون الصينيون والبرازيليون على إنشاء شركة "هواوي" مصنعًا للهواتف الذكية وكذلك لتصنيع معدات الاتصالات الداعمة لتقنية الجيل الخامس، وذلك بمدينة ساو باولو البرازيلية، بتكلفة تُقدر بنحو 800 مليون دولار. وتسعى الشركة الصينية إلى الاستفادة من نمو قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في القارة اللاتينية، وخاصة البرازيل التي تُعدّ رابع أقوى الأسواق العالمية في مجال مبيعات الهواتف الذكية. مما يعني أن علاقات الصين الاقتصادية القوية بدول القارة اللاتينية، ساهمت -ولو بصورة جزئية- في تعزيز قدرة بكين على الصمود أمام الضغوط الأمريكية.

2- مزاحمة النفوذ الأمريكي: عكفت الصين على تعزيز حضورها الاقتصادي والسياسي فيما يُعرف بـ"الحديقة الخلفية للولايات المتحدة"، رغبةً منها في موازنة النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة، التي اعتبرتها واشنطن، على مدار عقود طويلة، مجالًا مباشرًا لممارسة هيمنتها وسيطرتها الإقليمية، بل والدولية. وارتباطًا بذلك، تسعى بكين لموازنة النفوذ الأمريكي المتزايد في العديد من الدول الآسيوية، في ظل المحاولات الأمريكية الدؤوبة لمحاصرة النفوذ الإقليمي للصين، ومحاولة تطويقها اقتصاديًّا وعسكريًّا، وذلك بتغلغل واشنطن داخل مجال بكين الحيوي ومناطق نفوذها، وكذلك من خلال تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في جنوب شرق آسيا. لذلك فإن الصين تفعل الشيء نفسه في أمريكا اللاتينية، في إطار محاولاتها منع الولايات المتحدة من الإضرار بالمصالح الصينية في آسيا والعالم.

3- ضمان مصالحها الاقتصادية: باعتبارها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، فإن الصين تعمل على ترسيخ نفوذها الاقتصادي لضمان الوصول إلى الأسواق الشاسعة في أمريكا اللاتينية، وكذلك للمخزون الاستراتيجي الهائل من المواد الأولية ومصادر الطاقة التي تحتاج إليها لتعزيز نموها الاقتصادي وضمان استمراريته، خاصة أن أمريكا اللاتينية مسئولة عن إنتاج ما يُقدر بنحو 11 بالمائة من الإنتاج الغذائي والزراعي العالمي. كما تحتفظ بثروات طبيعية هائلة، تؤهلها لأن تكون مورّدًا بديلًا للطاقة للصين. وجميعها عوامل ساهمت في انتعاش حركة التبادل التجاري بين الطرفين، لتصل إلى 306 مليارات دولار عام 2018، لتصبح بكين الشريك التجاري الأول للبرازيل وشيلي وبيرو، وثاني أكبر شريك تجاري لبعض الدول الأخرى في المنطقة. هذا بالإضافة إلى سعي الصين الحثيث لتوسيع نطاق مبادرة "الحزام والطريق" لتشمل دول القارة اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وهو الأمر الذي ارتبط بضخها استثمارات ضخمة في المنطقة، تجاوزت مائتي مليار دولار، لتصبح بذلك أمريكا اللاتينية والكاريبي ثاني أكبر وجهة للاستثمارات الصينية في الخارج.

4- حشد الدعم السياسي: سعت الصين إلى ترجمة نفوذها الاقتصادي المتعاظم في أمريكا اللاتينية إلى دعم سياسي مباشر من قبل دول المنطقة للمواقف والقضايا ذات الأهمية الخاصة بالنسبة للصين، وفي مقدمتها قضية تايوان، حيث ضغطت بكين على دول أمريكا اللاتينية لتقليص الدعم الدبلوماسي لتايوان، خاصة أن القارة اللاتينية تُعد موطنًا لبعض الدول التي تعترف بتايوان. وفي هذا الإطار، أعلنت السلفادور في أغسطس 2018، عن إقامة علاقات دبلوماسية مع العملاق الآسيوي، لتحذو بذلك حذو بعض الدول الأخرى في المنطقة، والتي كان آخرها جمهورية الدومينيكان التي تخلت عن اعترافها بتايوان، وأقامت علاقات دبلوماسية مع الصين في مايو من العام الماضي، وذلك في إطار الالتزام بسياسة "الصين الواحدة". والشيء نفسه ينطبق على بنما، حيث إن هناك علاقة واضحة بين الاستثمارات الصينية الضخمة في بنما, وقرارها الاعتراف بـ"بكين" بدلًا من "تايبيه".

قيود مزدوجة:

على الرغم من الجهود التي بذلتها الصين، على مدار العقود الماضية، لتوطيد علاقاتها بدول أمريكا اللاتينية، لا يزال التقارب الصيني اللاتيني يواجه العديد من العقبات والقيود، التي يرتبط بعضها بالدور الأمريكي، بينما يرتبط البعض الآخر بدول القارة اللاتينية نفسها، كما يتضح فيما يلي:

1- الدور الأمريكي: تُمثل الضغوط التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية عقبة رئيسية أمام الجهود الصينية الرامية إلى توسيع نطاق علاقاتها مع دول القارة اللاتينية. ويُشكل تعزيز الصين حضورها في أمريكا اللاتينية، من وجهة نظر إدارة الرئيس "ترامب"، تحديًا كبيرًا للهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية في القارة اللاتينية، وذلك بسبب ما نتج عن ذلك من حدوث تحول إقليمي في اتجاهات التجارة في المنطقة؛ حيث نجحت الصين في إزاحة الولايات المتحدة، لتصبح الشريك التجاري والمستثمر الرئيسي وكذلك المقرض الأكبر للعديد من دول أمريكا اللاتينية. وفي هذا السياق، عمل وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو"، على الضغط على دول أمريكا اللاتينية بسبب علاقاتها مع الصين خلال جولاته المتكررة في المنطقة. واتهم "بومبيو" بكين بـ"زرع الشقاق" في المنطقة من خلال "فخ الديون"، وقال: "عندما تأتي الصين لا يكون ذلك دائمًا أمرًا طيبًا لمواطنيكم"، وأضاف: "الحقيقة ببساطة هي أن الصين استثمرت في مناطق من العالم بأساليب جعلت الدول في حالة أسوأ، ويجب ألا يكون هذا هو الحال أبدًا".

2- الضغوط الداخلية: يلقى الدور الصيني في القارة اللاتينية معارضةً من قبل بعض القوى الداخلية، والتي من بينها بعض رجال الأعمال والمنظمات غير الحكومية. ويرجع ذلك إلى المخاوف من تفاقم العجز التجاري مع الصين، والذي يبلغ -في الوقت الحالي- حوالي عشرين مليار دولار، إلى جانب انخفاض سعر السلع الصينية مما يُضعف من القدرة التنافسية للسلع المحلية. هذا بالإضافة إلى الاعتماد الكبير لاقتصادات تلك الدول على المواد الأولية كصادرات للصين، مما ساهم في إضعاف القطاع الصناعي لديها. فمنذ عقد مضى، أعطى التوسع الاقتصادي الصيني السريع دفعة قوية لاقتصادات أمريكا اللاتينية، التي كان نموها مدفوعًا بارتفاع أسعار السلع الأساسية. ولكن عندما تباطأ النمو في الصين، انخفضت أسعار السلع، مما ألحق أضرارًا بالغة باقتصادات دول المنطقة. علاوة على الانتقادات التي توجهها العديد من منظمات حماية البيئة وحقوق الإنسا للمشروعات التي تمولها الحكومة الصينية، نظرًا لعدم التزامها بالمعايير البيئية المطلوبة، وغياب الشفافية فيما يتعلق بمعايير وشروط تنفيذ المشروعات، هذا إلى جانب معارضة السكان الأصليين لبعض المشروعات الصينية التي يجري تنفيذها في المناطق التي يقطنون فيها.

مستقبل الدور الصيني:

يتوقف مستقبل الدور الصيني في أمريكا اللاتينية على عدة عوامل، من أهمها:

1- استمرار المساهمة الإيجابية للصين: ليس من قبيل المبالغة القول بأن بروز الصين كلاعب رئيسي في أمريكا اللاتينية قد ساهم في تقليل اعتماد دولها على الولايات المتحدة، وتنويع مصادر التمويل والاستثمار فيها، وفتح أسواق جديدة لصادراتها. وساهمت الاستثمارات الصينية بالفعل في تنمية دول المنطقة، وزيادة حجم الطبقة المتوسطة، وخفض معدل الفقر في الإقليم خلال الفترة 2004-2013، كما ساهمت في خلق ما لا يقل عن 1.8 مليون فرصة عمل مباشرة خلال الفترة 1990-2016، وهو ما يعادل حوالي 4 بالمائة من إجمالي عدد فرص العمل التي تم توفيرها خلال تلك الفترة، وذلك وفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية.

وفي السياق ذاته، لعب الدور الصيني إلى جانب الروسي دورًا محوريًّا في استمرار النظام الحاكم في فنزويلا على الرغم من كافة الضغوط الدولية والداخلية المفروضة عليه. وهذه الفوائد المتحققة لدول أمريكا اللاتينية نتيجة الاستثمارات والتجارة مع الصين، تجعل دول المنطقة ترحب بالدور الصيني، وذلك بغض النظر عن طبيعة التيار السياسي الحاكم في تلك الدول، سواء كان اليمين أو اليسار.

2- فاعلية الضغوط الأمريكية: من الواضح أن الضغوط الأمريكية، حتى الوقت الراهن، لم تُؤتِ ثمارها بعد، ولم تنجح في تعديل سلوك دول المنطقة تجاه الصين؛ فالبرازيل التي كان من المرجح أن تُعيد صياغة علاقاتها مع الصين في عهد رئيسها اليميني "جايير بولسونارو"، الذي يُولي أهمية خاصة لتوطيد علاقات بلاده بالولايات المتحدة، استمرت في الترحيب بالاستثمارات الصينية، كما دعت الحكومة البرازيلية إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع الصين التي تُعد أكبر شريك تجاري للبرازيل، منذ عام 2009، بحجم تجارة ثنائية بلغ حوالي 76 مليار دولار عام 2017، كما استثمرت بكين حوالي 124 مليار دولار في البرازيل منذ عام 2003. 

وفي الإطار ذاته، أعلن "هاميلتون موراو" نائب الرئيس البرازيلي، أنّ بلاده لن تفرض قيودًا على نشاط الشركة الصينية في البرازيل، مؤكدًا أن "علاقات بلاده مع الصين، أكبر شركائها التجاريين، لن يتم تجاهلها"، وذلك على الرغم من الضغوط الأمريكية على دول المنطقة لحظر شركة "هواوي"، ومنعها من تطوير شبكات الجيل الخامس من الهواتف المحمولة. وفي السياق ذاته، تخطط كل من المكسيك والأرجنتين وشيلي للتعاون مع الشركة الصينية من أجل البدء في إدخال تقنية الجيل الخامس خلال العام القادم. ومن الواضح أنه في ظل تعثر النمو الاقتصادي في دول المنطقة، تزداد حاجتها إلى جذب المزيد من الاستثمارات الصينية.

3- موقف دول أمريكا اللاتينية: وضعت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، دول أمريكا اللاتينية بين شقي رحى، حيث وجدت نفسها ممزقة بين شريكها التقليدي في أمريكا الشمالية والمستثمر الآسيوي الجديد نسبيًّا. وتتوقف مدى استفادة دول أمريكا اللاتينية من الدور الصيني في المنطقة، بدرجة كبيرة، على قدرتها على تحقيق التوازن بين الولايات المتحدة والصين، من خلال اتباعها استراتيجية "مرنة وبراجماتية"، تستهدف تعظيم الفوائد المتحققة لتلك الدول من علاقاتها بالطرفين. وقد استفادت بالفعل بعض دول المنطقة نتيجة الحرب التجارية الأمريكية مع الصين، حيث قامت بعض دول أمريكا اللاتينية بإمداد الصين باحتياجاتها من بعض المنتجات الزراعية وخاصة فول الصويا عقب التعريفات الجمركية التي فرضتها بكين على فول الصويا الأمريكي، وتوقفها عن الشراء من المنتجين الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، ارتفعت مشتريات بكين من فول الصويا البرازيلي بنسبة 15% في الفترة من يناير إلى أغسطس 2018 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2017.