عرض: عبدالمنعم علي
تلعب أجهزة الاستخبارات الغربية دوراً أساسياً في الديناميات السياسية والعسكرية الراهنة للحرب الروسية - الأوكرانية، لكن هذا الدور برز أيضاً على نحو وقائي مبكر على صعيد التنبؤ بتلك الحرب وتهيئة الرأي العام العالمي لها قبل نشوبها في فبراير 2022. إذ استطاعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية تصدير أفكار لوسائل الإعلام حول الحرب المحتملة في أوكرانيا منذ نوفمبر 2021، من خلال رصد الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا والتقييمات المختلفة لتحركات موسكو في زعزعة الاستقرار داخل كييف.
مثل هذا النهج الاستباقي بدا أحد الملامح الأساسية لدور أجهزة الاستخبارات في العصر الحالي في منع التهديدات وردع الخصوم أو الحد من أي صراعات مسلحة وهو ما يمثل آلية جديدة في التفاعلات الدولية. لذلك، تناقش دراسة نشرت مؤخراً للباحثين هوو ديلان وتوماس جيه ماجواير تحت عنوان "المخابرات السرية والدبلوماسية العامة في حرب أوكرانيا" دور الاستخبارات في توظيف المعلومات في الصراع الغربي – الروسي الراهن.
آليات التوظيف الاستخباراتي:
ثمة ثلاثة أنماط من المعلومات الاستخباراتية التي يتم توظفيها في مواجهة الخصوم في العلاقات الدولية، الأول: المعلومات ذات التأثير على الرأي العام الداخلي، الثاني: المعلومات ذات الطابع الاستراتيجي التي يتم جمعها عن إحدى الدول بقصد التأثير على الرأي العام الخارجي، الثالث، يتجلى في المعلومات المضللة عن قصد والهادفة للتأثير السلبي على الرأي العام الخارجي عبر تكتيك الخداع.
ومن خلال هذه الأنماط يتم تطويع أجهزة الاستخبارات للتأثير على القضايا التي تشغل الرأي العام العالمي، وهو اتجاه ليس وليد اللحظة الراهنة، إذ برز في خضم الصراع الأمريكي - الإيراني بشأن برنامج طهران النووي، حيث نشرت واشنطن صوراً تم التقاطها من جانب الأقمار الصناعية لمحطات الطاقة النووية الإيرانية بهدف توضيح حجم التقدم في تلك المحطات وتأثيرها على الأمن الإقليمي، وذلك لممارسة ضغط عالمي على إيران للموافقة على اتفاق يتضمن الأنشطة السلمية للبرنامج النووي الخاص بها. بالمثل، عززّت واشنطن وحلفاؤها في حلف الناتو من نشر التقارير الاستخباراتية، سواء قبل أو بعد نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية الراهنة حول قدرات الجيش الروسي وروحه المعنوية مع التركيز على اتهام موسكو بارتكاب جرائم الحرب في أوكرانيا.
وتحقيقاً للتأثير الإيجابي لأجهزة الاستخبارات والمعلومات، هناك ثلاث آليات لذلك برزت بصورة كبيرة في خضم المشهد الروسي - الأوكراني وفي عِدة أزمات وصراعات أخرى عرفها العالم، كالآتي:
- الآلية الأولى: تتمثل في نشر المعلومات الاستخباراتية للجمهور بصورة مباشرة عبر صانعي السياسات وموظفي الخدمة المدنية أو الخبراء الأمنيين. ولجأت الحكومة البريطانية إلى هذا النهج خلال هجوم بالأسلحة الكيماوية في الحرب الأهلية السورية عام 2013، وكذلك نشر الحكومة الأمريكية تقارير استخباراتية حول حادث مقتل الصحفي جمال خاشقجي في عام 2018.
- الآلية الثانية: تتم من خلال شركاء الدولة ووكلائها في ضوء تبادل المعلومات السرية، وهو ما حدث إبان أزمة الصواريخ الكوبية والتي قامت على ضوئها واشنطن بمشاركة المعلومات الاستخباراتية مع حلفائها بشأن القدرات النووية السوفييتية المتنامية داخل كوبا، ويستهدف ذلك حصول واشنطن على دعم من تلك الدول في خضم الحرب الباردة الناشبة بين الكتلة الغربية والشرقية.
- الآلية الثالثة: تتمثل في تمرير التقارير والمعلومات الاستخباراتية عبر الوسطاء غير الحكوميين المستقلين ذوي التأثير على الرأي العام مثل، القنوات الإعلامية ووسائل التواصل المختلفة والصحفيين والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، ولطالما كانت هناك علاقة ترابط بين الأجهزة الاستخباراتية ووسائل الإعلام في تمرير العديد من الرسائل للرأي العالمي.
دوافع وأهداف متعددة:
ثمة دوافع متعددة وراء توظيف الدول للتقارير والمعلومات الاستخباراتية، سواء أكان سراً أو علناً، أولها، تبرير استباقي لانتهاج سياسات أو قرارات بعينها، مثلما فعلت واشنطن قبيل غزو العراق عام 2003 من خلال الإفراج المبكر عن وثائق توضِّح مساعي صدام حسين نحو امتلاك أسلحة نووية وارتباطه بعناصر تنظيم القاعدة المتورطين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
أما الدافع الثاني، فهو التأثير على الرأي العام العالمي وبيئات صنع القرار لتحقيق تضامن ودعم في العمليات التي تعتزم الدول القيام بها أو إقناع الدول بتبني مواقف أكثر دعماً لتوجه دولة معينة، وهو ما حدث قبيل الغزو الأمريكي للعراق إذ تم الضغط على فرنسا وكندا لتبني مواقف أكثر قوة في الأمم المتحدة والانضمام إلى غزو العراق.
ويتمثل الدافع الثالث في الضغط على حكومات الدول لتجنب أي دعم مقدم للتنظيمات الداخلية، كما كان حال الضغط الأمريكي على المخابرات الباكستانية الداخلية لوقف دعمها السري لحركة طالبان، أو مثلما ضغطت إسرائيل على واشنطن في عهد ترامب من أجل الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني أو الضغط الأمريكي على الحكومات الأوروبية لمنع تبنيهم شراكات مع الحكومة الصينية فيما يتعلق بشبكات الجيل الخامس.
ويتجلى الدافع الرابع في بناء مجتمع داخلي متماسك وقادر على الصمود وحماية نفسه في مواجهة أي تهديدات ومخاطر مستحدثة، ويبرز ذلك بصورة رئيسية في تحديث التقارير الخاصة بالاستخبارات والتي تتعلق بنصائح السفر إلى دول تشهد تهديدات إرهابية. ويرتبط هذا الهدف بآخر خامس وهو تأسيس علاقات تفاعل إيجابية بين الدول من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية حول الهجمات السيبرانية والتهديدات المتنوعة من قبل الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية التي تستهدف شبكات الإنترنت.
يكمن الدافع السادس في العمل على تغيير سلوك الخصوم من خلال نهج الإدانة، أي يتم نشر المعلومات الاستخباراتية بهدف فضح أو إحراج للخصم، سواء كان عن أفعال ماضية أو محتملة تحت ما يعرف بمسمى ردع الأعمال المستقبلية وتحقيق قدر أكبر من الامتثال والتوافق في السياسات.
حالة حرب أوكرانيا:
على خلاف التعامل الاستخباري مع التدخل الروسي في جورجيا عام 2008 وسوريا عام 2015، كان الأمر مختلفاً في أوكرانيا، إذ وظفت أجهزة الاستخبارات الغربية عملية نشر المعلومات الاستخباراتية قبيل نشوب الحرب الأوكرانية في فبراير 2022 لتسليط الضوء على التحركات الروسية على الحدود الأوكرانية واستهدافها نشر الفوضى وتغيير الحكومة في كييف. تزامن ذلك مع الدبلوماسية المكوكية والتلويح بفرض عقوبات اقتصادية والمساعدة الأمنية الغربية لأوكرانيا وذلك لردع التحركات الروسية إزاء أوكرانيا.
كذلك، تم توظيف المعلومات الاستخباراتية خاصة من لندن وواشنطن حول الأنشطة الروسية المتوقعة في أوكرانيا لتهيئة الرأي العام وردع موسكو عبر كشف مخططها قبل الحرب. وبرغم أن هذه الجهود لم تنجح في إثناء روسيا عن التدخل العسكري، لكنها دفعت الغرب لدعم أوكرانيا والضغط على روسيا وتأهب حلف الناتو وتعزيز موقف دولي داعم للتحركات الغربية لدعم أوكرانيا.
وركزت الجهود الاستخباراتية الغربية أيضاً خلال الحرب الأوكرانية على كل من روسيا والصين، إذ انتشرت التقارير بصورة مبكرة حول التجنيد الروسي لمرتزقة أجانب وتراجع الروح المعنوية العسكرية ومشكلات التماسك والقيادة والسيطرة في الجيش الروسي، وفيما يتعلق ببكين، قامت إدارة "بايدن" والشركاء الأوروبيين بإحاطة سرية للاتصالات الإعلامية الموثوقة بمعلومات استخباراتية حول المشاركة الصينية في التخطيط الروسي قبل التدخل العسكري وتمت مشاركتها مع تقييمات حلفاء واشنطن.
بالمثل، قدَّمت أوكرانيا بدعم بريطاني- أمريكي تقييمات استخباراتية لوسائل الإعلام البريطانية تزعم أن الصين دعمت روسيا بهجمات إلكترونية واسعة النطاق على الجيش الأوكراني قبل التدخل العسكري، وأحرج هذا الكشف كلاً من روسيا والصين بينما ساعد في تجنب الانتقادات المحلية والدولية لدعم أكثر حزماً لأوكرانيا والعقوبات ضد روسيا باعتبارها "عدواناً غربياً".
وللحيلولة دون تكرار ما حدث في شبه جزيرة القرم عندما ضمتها روسيا في 2014، بادرت واشنطن عبر المخابرات الوطنية الأمريكية لتبادل المعلومات الاستخباراتية عن الإجراءات والقدرات والنوايا الروسية في نوفمبر 2021 مع الشركاء الأوروبيين، مما ساهم في مزيد من الضغط على الحلفاء الذين كانوا مترددين في اتخاذ إجراءات صارمة ضد روسيا، كما حال ألمانيا وفرنسا اللتين تتخذان موقفا استراتيجياً مرناً وأقل عدائية تجاه روسيا، تبع ذلك إصدار بيانات عامة ومفصَّلة ومنتظمة حول الخطط والإجراءات الروسية، وكشف أبعاد تأثير التدخل الروسي في أوكرانيا على ملف الطاقة، خاصة خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، مع رفض الرواية الروسية حول الحرب، مثل الإبادة الجماعية في دونباس ووصفها بالمغالطة.
ختاماً، يقترح الكاتبان إنشاء مركز غربي جديد مشترك بين الوكالات الاستخباراتية لمكافحة الأنشطة الضارة التي تمارس ضد الدول، ويتسم هذا المركز بالمرونة ويتم من خلاله نشر المعلومات الاستخباراتية من جميع المصادر مع الأخذ في الاعتبار المعادلة الخاصة بين نشر المعلومات الاستخباراتية ووضعية المجتمعات الديمقراطية وما لها من أبعاد ومخاطر قانونية وأخلاقية وسياسية لحملات التأثير المحلية التي تقودها الدولة، مع توظيف الاستخبارات لردع وإدارة المخاطر التي تؤثر على المصالح الوطنية الأساسية للدول.
المصدر:
Huw Dylan & Thomas J. Maguire, Secret Intelligence and Public Diplomacy in the Ukraine War, Survival Global Politics and Strategy, vol. 64 no. 4, August–September 2022, pp. 33–74.