أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"الحراس المحليون":

مخاطر تسليح المدنيين لمحاربة الإرهاب بالساحل الأفريقي

18 يونيو، 2020


في الوقت الذي دعا فيه رئيس مالي "إبراهيم كيتا" إلى فتح حوار مع المتطرفين الجهاديين في بلاده، سلكت بوركينافاسو مسلكًا آخر، حيث وافق برلمانها في يناير 2020 على تمويل وتدريب "الحراس المحليين" استجابة للعنف المتزايد من قبل الجماعات الجهادية ضد المجتمعات المحلية ومؤسسات الدولة. ولعل ذلك يعكس تباين المقاربات المتبعة لمواجهة تنامي الأنشطة الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي، كما أنه يأتي في ظل سياق تستغل فيه الجماعات المتطرفة المظالم الجماعية والتنافس على الموارد المحدودة من خلال إثارة النزعات القبلية والدينية بين أفراد المجتمع. ومن الواضح أن استراتيجية الجماعات المتطرفة تسعى إلى تقويض شرعية السلطات المحلية، وتعميق حالة انعدام الثقة بين المواطنين تجاه الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية في الدولة. ومع ذلك، يدعي كثير من المحللين للظاهرة الإرهابية في سياقها الإفريقي أنه ربما يكون من الأفضل لدول الساحل التي تواجه أزمة عدم الاستقرار فتح حوار مع الجماعات الجهادية بدلًا من اللجوء إلى تسليح المدنيين.

مفهوم "الحراس المحليين":

تختلف تسميات "الحراس المحليين" بحسب الاختلافات الثقافية والجغرافية، إذ يطلق عليهم أحيانًا "حراس الليل" أو "حراس الأدغال" أو جماعات الصحوة المحلية التي تُضاهي مجالس الصحوات في الخبرة العراقية. وتُعد دراسة هذه الظاهرة حديثة نسبيًّا في أدبيات العلوم الاجتماعية. وربما يرجع الفضل إلى "راي أبرهامز" Ray Abrahams الذي قدم في عام 1998 دراسة جامعة لظاهرة الحراس المحليين من خلال مقارنة حالات من الأمريكتين وجنوب شرق آسيا وإفريقيا. وعادة ما تبرز إشكالية عدم الرضا بشأن مرفق العدالة وتطبيق القانون في الدولة الحديثة، ولا سيما إن هي عجزت عن توفير الأمن والحماية لمواطنيها. في مثل هذه الحالة تكون الاستجابة المجتمعية هي أن يأخذ المواطن على عاتقه تطبيق القانون بيده. وعلى سبيل المثال، أضحى السؤال في كثير من الدول الإفريقية يدور حول من يخوّل له حق وضع القانون. هذا النزاع تمحور حول مفهوم السيادة ووظيفة الدولة من ناحية، وحق المواطنين في الدفاع عن أنفسهم وتقرير مصائرهم من ناحية أخرى.

وتنقسم الأدبيات في النظر إلى ظاهرة الحراس المحليين إلى اتجاهات ثلاثة رئيسية؛ أولها: أنها تشكل تهديدًا للنظام العام والاستقرار الاجتماعي من خلال إمكانية انخراط هذه الميليشيات في أعمال إجرامية عنيفة. ثانيًا: بحسبانها آلية لتعزيز المطالب الإثنية والهويات الثقافية والسياسية لهذه الجماعات. وثالثًا: اعتبارها أداة لتحقيق العدالة والأمن في المجتمعات المحلية، وذلك بالتعاون مع أجهزة الدولة. بيد أن العامل المحدد في التقييم النهائي يتمثل في مدى استخدام أو إساءة استخدام السلاح من قبل هذه الجماعات. وتشير الممارسة العملية إلى أن الدولة قد تغض الطرف عن وجود هذه الجماعات أو تدعمها أحيانًا أو أنها تستشعر خطورتها فتجرمها باعتبار أن الدولة هي التي تحتكر وسائل الإكراه المادي وحدها في المجتمع.

دوافع تسليح المدنيين:

ظهرت جماعات الحراس المحليين في فترات مختلفة من التاريخ الإفريقي؛ بيد أنها اكتسبت أهمية كبيرة في مجال الدراسات الإفريقية وغيرها من التخصصات منذ فترة حديثة. ولعل أبرز التساؤلات بهذا الخصوص ترتبط بماهية الظاهرة وأسباب انتشارها وخصائصها وتداعياتها على كل من الدولة والمجتمع. وعادة ما يقوم الحراس المحليون بمهام الشرطة في المناطق الريفية والحضرية، حيث تضعف مراكز سلطة الدولة فيها، ولكنها في غالب الأحوال تتجاوز في أنشطتها مهام حماية المجتمع. وقد تتخذ الظاهرة في تطورها شكل الحركات الاجتماعية المحلية، حيث تقوم ببناء شبكات من العلاقات والطقوس الاجتماعية بالغة التعقيد، بالإضافة إلى احتفاظها غالبًا بعلاقات وثيقة بالنخب المحلية وبعض مكونات السلطة المركزية. ونستطيع الإشارة إلى مجموعة من الأسباب التي تفسر لنا هذه الازدواجية في قضية حوكمة قطاع الأمن الإفريقي. 

وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ضعف وهشاشة دولة ما بعد الاستعمار التي عادة ما توصف بأنها بيت الداء. ففي كثير من الدول الإفريقية، ولا سيما تلك التي تنوء بالصراعات والانقسامات الاجتماعية الحادة، لا تتجاوز سلطة الحكومة المركزية حدود العاصمة، وعليه لا تقوى الدولة على القيام بوظيفتها الأساسية في توفير الأمن والخدمات الأساسية الأخرى لمواطنيها

يضاف إلى هذا تعدد مراكز القوى ووجود أنماط مختلفة للعمل السياسي على الصعيد المحلي في المجتمعات الإفريقية. على سبيل المثال، منذ ثمانينيات القرن الماضي يوجد نزاع بين الفولاني وبعض قبائل الطوارق على الحدود بين مالي والنيجر، بسبب التنافس على الموارد الطبيعية والأنشطة الإجرامية مثل سرقة الماشية.

مع غياب مركزية الدولة ووجود أزمة تغلغل في مختلف أقاليمها أدى إلى ظهور مراكز القوى المحلية، وقيامها بتنفيذ أجنداتها الخاصة. لقد تم استبدال سلطات الحكومات المركزية الضعيفة أو حتى المنعدمة بأشكال بديلة من التنظيم، بما في ذلك السلطات التقليدية والهياكل المحلية والحركات الجهادية العنيفة، والشبكات الإجرامية.

من الناحية التاريخية، تُعد منطقة الساحل الإفريقي، ولا سيما بحيرة تشاد، بؤرة للعداوات والنزاعات المسلحة منذ أعوام الستينيات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي جعلها ساحة للمواجهة بين القوات المسلحة النظامية وقوات التمرد الخارجة على القانون. وبمرور السنين اندمجت فصائل التمرد في تشاد والجماعات الانفصالية في النيجر وتحالفوا مع جماعات الجريمة المنظمة، حيث انخرط الجميع في أنشطة التهريب والسطو المسلح والاعتداء على المجتمعات المحلية. وقد وفّرت الطبيعة الجغرافية لمنطقة بحيرة تشاد، من حيث عدم السيطرة على الحدود وهشاشتها الأمنية، بيئة مناسبة لصعود جماعة "بوكو حرام" وغيرها من الجماعات الجهادية العنيفة. كما أن عمليات العسكرة المتزايدة في الإقليم من جانب القوى الدولية قد أسهم بشكل متزايد في عسكرة عمليات الحوكمة في الساحل. 

ومن جهة أخرى، كان التنافس على الأراضي وغيرها من الموارد المحدودة بين أصحاب المهن المختلفة من الرعاة الرحل والمزارعين أحد ملامح الحياة الرئيسية في منطقة الساحل. وعادةً ما يتم حل هذه النزاعات من خلال آليات الوساطة السلمية التقليدية. بيد أن مقدم الجماعات الجهادية العنيفة، وتفاقم الضغوط على الأراضي والموارد بسبب تغير المناخ، أدى إلى تغيير موازين القوة بشكل كبير. وعليه، نجد اليوم تقاطعات معقدة بين الصراعات القبلية على الموارد من جهة، والهجمات التي تشنها الجماعات الإرهابية من جهة أخرى، وهو ما أسهم في ظهور أشكال معقدة جديدة من العنف. 

اقترابات غير تقليدية لمكافحة الإرهاب:

في كثيرٍ من الحالات، أدى عدم قدرة الدول على توفير الأمن، واحتكار استخدام القوة، وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية؛ إلى إعطاء الفرصة للجهات الفاعلة الأخرى غير الرسمية لسد هذه الثغرات، واغتنام الفرصة للتعامل مع نقاط ضعف الدولة لصالحها. كان ذلك هو المبرر الرئيسي لظهور جماعات الحراس المحليين لتوفير الأمن والدفاع عن القرى، بيد أنهم تحولوا في بعض الحالات إلى منظمات إجرامية مفترسة لديها القدرة والموارد على منافسة سلطة الدولة. وقد ظهرت هذه الميليشيات المحلية في أجزاء كثيرة من منطقة الساحل وغرب إفريقيا، بحيث إنها أضحت مصدر تهديد لشرعية الدولة وتقويض استقرار المنطقة. ولعل ذلك ما يُبرر النظر لظاهرة الميليشيات المحلية باعتبارها سلاحًا ذا حدين، حيث وجدت المجتمعات المحلية نفسها في نهاية المطاف في دوامة من العنف؛ فثمة هجمات طائفية ردًّا على المذابح التي ترتكبها الجماعات الجهادية العنيفة، كما قد يحدث اقتتال داخلي بين ميليشيات الحراس المحليين، وفي بعض الحالات يتم تنفيذ الهجمات ردًّا على عمليات قوات الأمن الوطنية. ولعل أبرز نماذج الحراس المحليين في سياق الساحل الإفريقي التي تستفيد من دعم حكومة بوركينافاسو هي حركة المقاومة الشعبية، التي تم إنشاؤها في أكتوبر 2019، وتغطي لجان المراقبة والدفاع الإقليمي 30 إقليمً. 

وتتكون هذه القوات الشعبية من مجموعات مختلفة تشمل: "حراس الأدغال"، والدوزو "الصيادين التقليديين"، والجنود السابقين، والشباب القروي الذي يتعاون مع قوات الأمن الحكومية. ومع ذلك، فإن إضفاء الشرعية على الميليشيات المحلية قد أثار مخاوف المنظمات الحقوقية من إمكانية دمج المقاتلين المتهمين بارتكاب جرائم بدوافع عرقية في الماضي. وتقدر الأمم المتحدة حاليًّا عدد المحاربين المحلين بنحو 400 ألف مقاتل في جميع أنحاء بوركينافاسو. ولا يخفى أن الصراع العرقي يمثل أحد التكتيكات التي تستفيد منها الجماعات الجهادية والميليشيات المحلية على السواء.

 ولقد تم استهداف مسلمي الفولاني -على سبيل المثال- بشكل خاص من قبل ميليشيات المزارعين والجيوش الوطنية. ففي عام 2019، لقي أكثر من 150 فولانيًّا حتفهم على يد قوات الأمن البوركينابية بعد اتهامهم بدعم الجماعات الجهادية المسلحة. وفي الوقت نفسه، تجد مجتمعات الفولاني نفسها متهمة بدعم الجهاديين من قبل مجموعات عرقية أخرى، وتحديدًا الدوغون، وهو ما يدفعها لتوفير حاضنة اجتماعية للجهاديين لتجنب الهجمات الانتقامية من قبل المجتمعات الأخرى. وتشمل المزايا الإضافية للحماية الجهادية التي يحصل عليها أفراد الفولاني: توفير الغذاء والسلع، وتحقيق العدالة، فضلًا عن الحماية من أعمال سرقة الماشية وقطع الطرق.

بيد أن الإشكالية الكبرى هنا تكمن في أن قبائل الفولاني تجد نفسها في دائرة مفرغة حقًّا؛ فهي تارة متهمة من قبل القوات الحكومية بتوفير الدعم للجهاديين، وتارة أخرى متهمة من قبل بامبارا ودوغون في مالي، والموسي في بوركينافاسو، بأنهم يشكلون حواضن اجتماعية للجهاديين. ولا شك أن هذا الانقسام القبلي يخدم الجماعات الجهادية التي تسعى إلى تأليب المجتمعات المحلية على بعضها بعضًا. فعلى سبيل المثال، كان هجوم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين،‎ في 23 يناير 2020، في منطقة دوجون في مالي ردًّا على المذبحة التي راح ضحيتها 160 فردًا من قبيلة الفولاني في قرية أوغوساغو قرب مدينة موبتي وسط مالي في مارس 2019 من قبل ميليشيا "دانا أماساغو"، والتي تعني بلغة الدوجون "الصيادون المؤمنون بالله". هنا تصبح استراتيجية الجماعات الجهادية مزدوجة، فهي تسعى إلى ترهيب قبائل دوغون التي تستفيد من الدعم اللوجستي والمالي من حكومة مالي من جهة، واستغلال خوف الفولاني من الهجمات الانتقامية كأحد تكتيكات التجنيد في صفوفها.

تداعيات عسكرة المجتمع:

يمكن أن تكون ميليشيات الحراس المحليين أكثر فعالية بكثير من القوات الأمنية الحكومية في توفير الأمن للمجتمعات المحلية، وفي تحديد وتتبع ومحاربة المتمردين والعناصر الإرهابية. وربما يرجع ذلك إلى معرفتهم باللغات والثقافات المحلية والطبيعة الجغرافية للمنطقة، على أن مشاركة جماعات الحراس المحليين في محاربة الإرهاب تقتضي المزيد من الحرص والرقابة من جانب الدولة، بما في ذلك: توفير الإشراف العسكري، وضمان المساءلة عن الأفعال المسيئة التي يقوم بها الحراس. ومع ذلك، تزداد المخاوف من الاعتماد على الميليشيات المحلية وتمويلها أو دعمها في القتال ضد الجماعات الإرهابية على المدى الطويل. وتُشير دراسات الحالة لظاهرة الحراس المحليين في الساحل إلى أن الاستعانة بمصادر غير رسمية لتحقيق الأمن تعبر عن استراتيجية بالغة الخطورة وأنها سيف ذو حدين. إنها مخاطرة بوقوع المزيد من الانتهاكات وانتشار الميليشيات القائمة على أساس الهوية العرقية بما يهدد التماسك الوطني للدولة الوطنية. 

ولقد أدى غياب الدولة في المناطق المهمشة والنائية إلى اللجوء إلى آليات الحماية التقليدية والمحلية. وعليه، فإن هذا المسار الحالي للعسكرة يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الصراعات العرقية، وتهديد أمن واستقرار هذه المجتمعات. ويدفع بعض المحللين أن خيار الحوار مع الجهاديين وتبني خيار الحلول السياسية يقدم بديلًا مقبولًا للتعاطي مع جذور الخطاب الراديكالي العنيف في منطقة الساحل الإفريقي.