أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

فعاليات المستقبل :

وداعاً للعولمة...عودة العالم المنقسم

16 يوليو، 2024

فعاليات المستقبل :

في ظل التحولات العميقة التـي يشهدها النظام الدولي، أصبح من الشائع التساؤل حول مستقبل العولمة باعتبارها أحد أهم آليات النظام الدولي الذي قاده الغرب المنتصر في الحرب الباردة. وأصبح يشار إلى العولمة باعتبارها العولمة المتناقصة أو المتباطئة أو الراكدة. وفي هذا السياق، عقد "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" حلقة نقاش مع الدكتورة إليزابيث برو لمناقشة كتابها الأخير الصادر عن جامعة ييل "وداعاً للعولمة: عودة العالم المنقسم" والذي يتناول التحولات الجارية في النظام الدولي بسبب تأثير المنافسات الجيوسياسية والاقتصادية وتراجع القوى الغربية وصعود القوى الأخرى التـي تحاول إعادة تشكيل النظام الدولي. 

إليزابيث برو باحثة وكاتبة سويدية، زميلة أبحاث في مركز برنت سكوكروفت للأمن في "المعهد الأطلسـي" بواشنطن، وعملت سابقاً كزميلة مقيمة في "معهد أمريكان إنتربرايز"، والمعهد الملكي للخدمات البحثية "روسـي" بلندن، تكتب برو بشكل منتظم في مجلتي "فورين أفيرز" و"فورين بوليسـي". صدرت لها أعمال صحافية ومقالات رأي في مجلات "نيوز ويك" و"كريستيان ساينس مونيتور" و"بولتيكو". وتركز أعمالها البحثية على نظرية الردع وحروب المنطقة الرمادية والأمن القومي والاقتصاد المعولم. صدر لها سابقاً كتاب "جواسيس السماء: استخبارات ألمانيا الشرقية أثناء الحرب الباردة" في 2019، و"معضلة المدافع: عن الهجوم والردع في مناطق الحروب الرمادية" عام 2022. 


أكدت برو في بداية النقاش أن أهم مظاهر تراجع حالة العولمة تتضح في عمليات التبادل التجاري والقيود التـي أصبحت تفرضها الدول على حرية الانتقال والمعاملات المالية؛ إذ أصبحت تتجه إلى مزيد من الحمائية وعدم العمل بالقواعد؛ وهو ما جعل فكرة وجود دولي مؤسس على قواعد أو أحكام محل تساؤل بين كثير من الأطراف. لقد حققت عولمة التجارة والنظام الدوليين منذ التسعينيات العديد من الفوائد والمنافع؛ خاصة من حيث تعميق الاندماج الدولي، والقضاء على ثنائية المركز والهامش من خلال ضمان حرية انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات؛ وهو ما جعل الكثير من الدول تستغل الفرص لتعزيز عملية التنمية. مع ذلك، جلبت عولمة الاقتصاد العديد من الأزمات خاصة للأسواق الأكثر هشاشة أو الأقل نمواً؛ إذ اتضحت صعوبة الاندماج في النظام الدولي دون إحداث تغيرات سياسية واجتماعية هيكلية، وهو ما خلق حالة من عدم الاستقرار. لذا، أخذت بعض الدول، ومن بينها قوى غربية إجراءات لحماية أسواقها ونظامها الاقتصادي.       

وتُعد الصين النموذج الأهم لهذه الحالة؛ إذ تواكبت سياسة الإصلاح الداخلي فيها مع نهاية الحرب الباردة، واستطاعت بشكل كبير تعزيز وضعها في النظام الدولي كمصدر للتصنيع والأيدي العالمة، وهو ما أسهم في تعزيز فرص صعودها الاقتصادي لتتحول إلى قوة اقتصادية وجيوسياسية هائلة، إلا أنها الآن تسعى إلى بناء نظام عالمي بديل عن ذلك الذي استفادت منه منذ نهاية الحرب الباردة. وتبدو نقطة التنافس حالياً حول اتجاه الصين لتأكيد أنها تقبل بالقواعد الاقتصادية للنظام الدولي، طالما تستفيد منها، إلا أنها ترفض إجراء أي تعديل في نظامها السياسـي الداخلي؛ الأمر نفسه ينطبق على روسيا والهند، وأدى هذا الانقسام إلى ظهور حالة من التنافس بين الصين والغرب على مناطق اقتصادية مهمة للموارد مثل إفريقيا والخليج الغربي. وأشارت برو إلى أن تأثير هذه المنافسة يبدو أكثر وضوحاً في حالة الخليج العربي الذي يسعى حالياً لموازنة علاقاته الاقتصادية بالصين، مع علاقاته الجيوسياسية مع الغرب.   

بالطبع، يمكن فهم الاتجاه الانشقاقي لدى القوى الصاعدة خاصة الصين وروسيا، إلا أن الاتجاه الرافض للعولمة أيضاً أصبح يتزايد داخل الدول الغربية؛ تحديداً في الولايات المتحدة التـي تشهد دعوات لمراجعة تأثير العولمة في الاقتصاد والأيدي العاملة. والأكثر أهمية من هذا هو التأثير المتزايد لقوى اليمين الشعبوي الصاعد في الغرب، والذي يرى أن العولمة الاقتصادية والليبرالية السياسية تغير من التركيبة الديمغرافية والثقافية لهذه المجتمعات من خلال تشجيع الهجرة والقيم الليبرالية المناهضة للجذور الثقافية والعرقية للغرب. إن الصعود الانتخابي لهذه الحركات، حتـى لو شهد بعض التراجع، يجعل نكوص العولمة أمراً أكثر احتمالاً. 

وأكدت برو أن العالم شهد عولمات سابقة عديدة منذ عدة قرون تواكبت مع حركات الاستكشاف الجغرافي ثم صعود الغرب من خلال الاستعمار، وصولاً لمرحلة ما بعد الحرب الباردة التـي شهدت أول توافق جماعي على قيم عالمية وتبلورت معها القواعد القانونية للنظام الدولي. أما العولمة التـي تشهد تراجعاً في الوضع الحالي، فهي عولمة ما بعد الحرب الباردة، والتـي ركزت على القيم الغربية السياسية والاقتصادية وتعززت بالثورات المتلاحقة في تكنولوجيا الاتصال التي خلقت بدورها أنماطاً اقتصادية جديدة على العالم قوامها الشبكات المتجاوزة للحدود والقوميات.    

وقالت برو إن هناك معضلة لصيقة بمنطق العولمة، وتتمثل في سذاجة الاعتقاد أن حرية الاتصال ستجعل العالم أقرب، وأن حرية التجارة من شأنها أن تجعل الدول أكثر ديمقراطية وأقرب شبهاً للغرب من حيث النظام السياسـي. اتضح هذا مثلاً في حديث الكاتب الأمريكي توماس فريدمان عن "العالم المسطح" حيث لا توجد اختلافات عميقة بين مختلف مناطق العالم المعولمة. لقد تجاهلت هذه الفرضية وجود صراعات حقيقية عميقة الجذور يصعب حلها بمجرد إتاحة حرية التجارة أو الاتصال. حتـى حرية الاتصال، بقدر ما قربت العالم والأفراد، إلا أنها أعادت إنتاج الحواجز الثقافية والحضارية بشكل يماثل العالم الواقعي. واتضح حالياً أن الخلافات الجيوسياسية والجيواقتصادية قادرة على إعادة الانقسام داخل النظام العالمي على نحو يماثل ما كان أثناء الحرب الباردة، مع تضاؤل دور الأيديولوجيا. 

ورداً على السؤال ما إذا كان العالم يشهد عولمة من نوع جديد غير تلك التي كان يقودها الغرب. رأت برو أن القوى الصاعدة مثل: الصين وروسيا والهند وربما دول الجنوب العالمي أيضاً تسعى إلى إعادة تشكيل قواعد النظام الدولي؛ وهو ما يفتح العالم على مسارات متنوعة، قد تكون إعادة إنتاج العولمة بصبغة غير غربية إحداها؛ خاصة أن هذه الدول غير قادرة على الانكماش اقتصادياً وخلق سوق داخلية فقط. بالعكس، فوجود سوق معولم هو المحرك الأساسـي لنموها الاقتصادي. وبشكل عام، يمكن القول إن الغرب ما زال يمتلك فرصة للاستمرار في دوره العالمي شريطة التعاطي مع المتغيرات الجديدة وقبولها. 

وفقاً لبرو، فإن أحد أبرز التحديات حالياً أمام العولمة بالنسبة للولايات المتحدة، باعتبارها قائدة العالم الغربي، هو احتمال عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض. لقد خصصت الكاتبة فصلاً كاملاً عن ترامب وسياساته الشعبوية والمعادية بشكل واضح للعولمة الاقتصادية؛ إذ شن ترامب حملة شعواء على قواعد السوق الحرة، ودعا بوضوح لحماية الطبقات العاملة الأكثر فقراً، والتي تضررت بشكل واضح من السياسات الديمقراطية البيئية والداعمة لعولمة الاقتصاد الأمريكي، والأهم أنه شرع لفكرة حرب التجارة مع الصين، على الرغم من التهدئة. وتبدو معضلة ترامب حالياً في صعوبة التراجع عن هذه السياسات. لقد حاولت إدارة بايدن الديمقراطية تصحيح مسار ترامب فيما يتعلق بالسياسات البيئية إلا أنها وجدت أنها مضطرة مثلاً لسن قانون حمائي لحماية السوق الأمريكية والسيطرة على التضخم الناتج عن أزمة الطاقة العالمية، كذلك خاضت مناوشات تجارية ضد الصين؛ ومن ثم، فمن المحتمل، في حالة عودة ترامب أن تزداد حدة هذه الممارسات؛ ومن ثم المزيد من الابتعاد عن قواعد السوق الحرة والنظام المعولم. 

فيما يتعلق باستمرار التأثير المركب لتكنولوجيا الاتصالات في ظل تحولات العولمة، أشارت برو إلى أن أحد احتمالات استمرار العولمة هو التأثير الذي يمكن التراجع عنه لتأثير تقنيات الاتصال التـي خلقت بالفعل مفهوم القرية العالمية على شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وقد تمكنت العديد من الدول في العالم النامي من استغلال ثورة الاتصالات لتعزيز فرص تحسين البنية التحتية في مجتمعاتها الفقيرة، خاصة في مناطق إفريقيا جنوب الصحراء. ويصعب على أية دولة حالياً مهما بلغت سياستها الحمائية أن تقف في مواجهة سيل الاتصالات على شبكة الإنترنت. ومع ذلك، فهناك خطر حقيقي ينبغي الالتفات إليه، هو تأثير الصراعات المسلحة في البنية التحتية للاتصالات. فقد يتجه أحد أطراف الصراع، خاصة في حالة اندلاع نزاع دولي كبير إلى الإضرار بكابلات الإنترنت والإنشاءات اللازمة لحماية الاتصالات في دولة أخرى معادية، أو استهداف أقمار الاتصالات بالتدمير أو التشويش. وعلى الرغم من عدم تخيل الكثيرين لوجود عالم بلا إنترنت، فإنه سيناريو قائم، من الضروري الاستعداد له. 

ختاماً، أكدت برو أن أخطر التحديات التـي تواجه عولمة النظام الدولي، هو تآكل منظومة القيم الداعمة للعولمة كمنظومة فكرية ليبرالية، ويتمثل أحد أشكال هذا التراجع في ضعف الأعراف الدولية خاصة مع تكرار حالات الاعتداء على السيادة، كما حدث في أوكرانيا أو استمرار الاحتلال كما يحدث في فلسطين. وكذلك، إحباط قوى الجنوب العالمي من ازدواجية المعايير لدى القوى الغربية، فضلاً عن تراجع شعبية هذه القيم الليبرالية مع صعود اليمين الشعبوي في الغرب نفسه؛ لذا، فإن محاولة ترميم العولمة حالياً تبدأ من إعادة تأكيد مركزية الأعراف الدولية وقواعد النظام الدولي التـي تضمن الأمن والسيادة للجميع.