ترك الانهيار المفاجئ لحكومة الشيخة حسينة بعد 15 عاماً من وجودها في السلطة، فراغاً خطراً في بنغلاديش، وهي دولة يبلغ عدد سكانها 170 مليون نسمة؛ إذ تحوّل الوضع على الأرض إلى حالة من التقلب وسط الفراغ في السلطة؛ إذ استقالت الشيخة حسينة نتيجة التظاهرات الدامية وهربت إلى الهند المجاورة بعد أن اقتحم المتظاهرون مقر إقامتها الرسمي، وأعلن الجيش تعيين حكومة مؤقتة بقيادة الحائز على جائزة نوبل للسلام محمد يونس، والذي كانت تعده حكومة حزب رابطة عوامي من المعارضين، واتهمته بالفساد قبل أن تُلغي المحكمة حكم الإدانة بحق يونس، وذلك عقب انهيار حكم حزب رابطة عوامي وهروب الشيخة حسينة.
والسؤال الذي يطرح نفسه عقب تولي حكومة مُؤقتة يوجد فيها أحد أبرز الشخصيات العامة والاقتصادية في البلاد، والذي جاء تعيينه من قبل الجيش استجابةً لضغط المتظاهرين، هو هل يكون للجيش دور في مُستقبل البلاد أم أن الخبير الاقتصادي بالتعاون مع الحركة الطلابية الوليدة يستطيعون وحدهم مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والإقليمية التي تواجهها بنغلاديش خاصة أن يونس أعلن أنه سيدعو إلى انتخابات عامة بعد فترة من "الاستقرار"؟
ترتيبات انتقالية:
طالب يونس، المؤسس العالمي لبنك غرامين للإقراض مُتناهي الصغر، المتظاهرين بالهدوء ووقف التظاهرات بعد أن وافق الجيش على تعيين حكومة مؤقتة لملء الفراغ الهش في السلطة الذي أعقب رحيل الشيخة حسينة، وأكّد أن الوضع في البلاد الآن يحتاج إلى الهدوء حتى تمكن استعادة الثقة في الحكومة بسرعة لإقرار خريطة طريق لإجراء انتخابات جديدة، مُشيراً إلى أن الاستقرار سيُعزز عمل الحكومة المُؤقتة للتحضير لـ"قيادة جديدة من أجل تحقيق الإمكانات غير العادية لبنغلاديش".
1. مُوافقة الجيش على تعيين الحكومة المُؤقتة: في خطاب وطني، أكّد قائد الجيش في بنغلاديش واقر الزمان، أن الجيش وافق على تعيين حكومة يونس المؤقتة، وكان زعماء الطلاب قد طلبوا مشاركة يونس في الإدارة الجديدة وسط مخاوف في المجتمع المدني البنغلاديشي بشأن الدور المُحتمل للجيش في المستقبل السياسي للبلاد، فلطالما تدخل الجيش في السياسة الداخلية من خلال الانقلابات والدكتاتوريات، وقال قائد الجيش واقر الزمان إن الجيش سيضمن تنفيذ مطالب المحتجين للعودة إلى الاستقرار، مؤكداً دعم جيش بلاده الكامل لمحمد يونس كرئيس للحكومة المؤقتة.
2. مخاوف من صعوبة المرحلة الانتقالية: مع وقوف بنغلاديش عند مُفترق طرق؛ فإن استقالة الشيخة حسينة تمثل بداية فصل جديد في تاريخ الأمة، وبينما يحتفل الكثيرون بنهاية حكمها، هناك أيضاً شعور ملموس بعدم اليقين بشأن المُستقبل؛ إذ ستكون الخطوات التالية التي تتخذها الحكومة المؤقتة والجيش والمجتمع المدني حاسمة في تحديد ما إذا كانت بنغلاديش قادرة على التعامل مع هذه الأزمة والخروج منها، ورغم ارتياح بعض البنغاليين لرحيل حسينة، فإنهم ما زالوا حذرين بشأن ما ينتظرهم في المستقبل؛ خاصة في ظل التجارب الماضية التي استولى فيها الجيش على السلطة في البلاد، والمخاوف من تكرار ذلك خاصة لدى النشطاء والحقوقيين في البلاد.
3. استياء كيانات طلابية من تدخُّل الجيش: أبدت كيانات طلابية وحقوقية في بنغلاديش استياءها من دخول الجيش على خط الأزمة في البلاد، خاصة مع تزايد المخاوف من تدخل الجيش في قرارات الحكومة المؤقتة المقبلة؛ إذ إن مفهوم "الحكومة المؤقتة" ليس جديداً على بنغلاديش. فمنذ عام 1990 إلى عام 2008، وخلال الانتخابات العامة، سلّمت الحكومة المنتخبة السلطة لإدارة مُؤقتة تكنوقراطية، كُلِّفت بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة. وقد تم إلغاء هذا النظام في عام 2011، كما أطاحت القوات المسلحة في البلاد بحكومات منتخبة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وحاولت تنفيذ انقلابات في السنوات اللاحقة.
مساعٍ للاستقرار:
دعت مجموعة من 21 شخصية بارزة في بنغلاديش، بما في ذلك نشطاء حقوقيون ومحامون، الإدارة المؤقتة إلى اتخاذ تدابير لمعالجة أسباب الاستياء العام الجماعي، الذي أدّى إلى الإطاحة بحسينة، وقالوا في بيان إن الغضب العام المُتراكم بسبب التزوير الانتخابي طويل الأمد والفساد المُستشري وسوء الإدارة الاقتصادية والقمع انفجر الآن في شكل حركة جماهيرية، مُشيرين إلى أنه لا ينبغي للجيش أن يُدير البلاد؛ بل يجب عليه بدلاً من ذلك تسليم السلطة إلى حكومة مُؤقتة مدنية والعودة إلى الثكنات، وقال ناهد إسلام، أحد المنظمين الرئيسيين للحركة الطلابية، في مقطع فيديو مع ثلاثة منظمين آخرين: إن "أي حكومة غير تلك التي أوصينا بها لن تكون مقبولة.. ولن نقبل أي حكومة مدعومة من الجيش أو يقودها الجيش".
1. ترتيبات للانتقال الديمقراطي: في خطوة تهدف إلى استقرار الأوضاع؛ أعلن الرئيس البنغلاديشي محمد شهاب الدين، إطلاق سراح زعيمة المعارضة ورئيسة الوزراء السابقة خالدة ضياء، إلى جانب معتقلين سياسيين آخرين، كما أعلن الرئيس أن البرلمان الحالي سيتم حله على الفور، وستُكلف الإدارة المؤقتة بتنظيم انتخابات جديدة في أقرب وقت ممكن، لضمان انتقال سلمي وديمقراطي للسلطة دون تدخل الجيش، مُؤكداً أنه سوف تتم مراقبة تشكيل هذه الحكومة المؤقتة عن كثب، سواء داخل بنغلاديش أم من قبل المجتمع الدولي؛ لأنها ستحدد المستقبل السياسي للبلاد.
2. اعتبار مُراقبين الجيش حارساً للديمقراطية في البلاد: أشار مراقبون إلى أنه برغم أن الجيش يرى نفسه حارساً للديمقراطية في بنغلاديش؛ فإن شهيته للبقاء في السلطة لفترة طويلة ستكون محدودة خاصة عقب تجاربه السابقة في السلطة؛ إذ خضعت بنغلاديش للحكم العسكري في الفترة من عام 1975 إلى عام 1990، وكانت آخر حكومة مدعومة من الجيش تحتفظ بالسلطة لمدة عامين حتى ديسمبر 2008، عندما فازت حسينة وحزبها رابطة عوامي في الانتخابات بأغلبية ساحقة.
3. تزايد احتمالات نأي الجيش بنفسه عن السياسة: يمكن القول إن خبرة الجيش في إدارة البلاد خلال الفترات السابقة أعطته بعض الفهم بأن كونه في طليعة السياسة قد يأتي بتكلفة كبيرة لمكانته العامة؛ خاصة أنه خلال السنوات الخمس عشرة من حكم الشيخة حسينة، بذل الجيش جهوداً كبيرة لإبعاد نفسه عن السياسة؛ وهذا يعني أن حسينة اضطرت عموماً إلى الاعتماد على الشرطة شبه العسكرية، بما في ذلك كتيبة العمل السريع سيئة السمعة، للقيام بالكثير من أعمالها القذرة، ومع عودة الجيش إلى السلطة، ستكون وظيفته الرئيسية هي استقرار البلاد وتسهيل إنشاء أحزاب سياسية جديدة، ويفضل أن تكون علمانية، يمكنها تولي السلطة.
تحديات جديدة:
لا تقتصر التحديات التي تواجه بنغلاديش حالياً على مخاوف الحركات والكيانات الطلابية والمدنية من احتمالات تدخل الجيش أو طول الفترة الانتقالية، ولكن أيضاً تتزايد المخاوف المتعلقة بحزب رابطة عوامي، الذي من غير المتوقع أن يقبل إخراجه من المعادلة السياسية في البلاد بسهولة؛ وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات، ومن المُحتمل أن ينقسم الحزب الذي حكم البلاد طويلاً؛ خاصة أن العديد من كبار أعضائه يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالشيخة حسينة، ولكن هناك أيضاً فصيل أصغر سناً في الحزب، وأغلبه من النساء، اللاتي ستحرصن على التقدم.
1. بدائل سياسية محدودة: ستكون البدائل في بنغلاديش محدودة على المستوى السياسي؛ فالحزب السياسي الرئيسي المُنافس لرابطة عوامي، وهو الحزب القومي البنغالي العلماني؛ تم إضعافه على مدار سنوت، كما أن زعيمته خالدة ضياء تعاني من المرض وسنوات الاعتقال، كما فقد الحزب القومي البنغالي نفوذه إلى حد كبير في البلاد، أما البدائل الأكثر تنظيماً فهي الجماعات الإسلامية المختلفة، بما في ذلك حزب الجماعة الإسلامية المحظورة، والذي ظل لسنوات عديدة بعيداً عن السياسة، ولكن هناك فرصة كبيرة لفوز ائتلاف بقيادة إسلامية في الانتخابات إذا عقدت اليوم، حتى مع رفض الجيش لهذه التنظيمات.
2. احتمالات تغير المعادلات الإقليمية: على المستوى الخارجي؛ هناك احتمالات كبيرة بشأن تغير السياسة الخارجية والإقليمية مع تغير النظام في بنغلاديش، ويمكن القول إن الخاسر الأكبر في هذا الإطار هو رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي تربطه علاقة شخصية وثيقة طويلة الأمد مع الشيخة حسينة؛ إذ اعتمد مودي منذ فترة طويلة على حسينة للحفاظ على استقرار بنغلاديش ودرء نفوذ الإسلاميين، وكذلك مُنافستها الإقليمية الصين، ومع رحيل حسينة، فقد مودي الآن أقرب حلفائه في جنوب آسيا؛ مما يؤكد تراجع نفوذ الهند بين جميع جيرانها في جنوب آسيا تقريباً؛ خاصة مع سعي الولايات المتحدة والصين لاستغلال خروج حسينة من المعادلة.
3. المخاوف من تأثير الأزمة في ميانمار: يُحاصر الوضع في ميانمار بنغلاديش؛ مما يمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه السياسة الخارجية في بنغلاديش مع احتمال تجدد نزوح اللاجئين الروهينغا إلى بنغلاديش للانضمام إلى 1.2 مليون من الروهينغا الذين لجأوا بالفعل إلى البلاد؛ إذ يخوض جيش أراكان القومي معارك ضارية مع قوات المجلس العسكري الحاكم في ميانمار، وكانت حكومة الشيخة حسينة إلى حد كبير بعيدة عن الصراع في ميانمار، ولكن جيش بنغلاديش قد يميل إلى أداء دور أكثر نشاطاً في ولاية راخين؛ مما قد تترتب عليه عواقب لا يمكن التنبؤ بها على بنغلاديش.
وفي التقدير؛ يمكن القول إن بنغلاديش تواجه وضعاً هشاً للغاية وفترة انتقالية قد يطول أمدها؛ خاصة مع التدخلات الخارجية المُحتملة، إضافة إلى الأبعاد الداخلية المتشابكة، ودور الجيش المُحتمل في الصراع، إضافة إلى احتمالات ظهور قوى إسلامية صاعدة كانت مُهمّشة إبان فترة حكم الشيخة حسينة، وستتزايد الصراعات الداخلية خلال الفترة المقبلة، كما أنه من المحتمل أن تتنافس القوى الدولية في فرض النفوذ على النظام الجديد في البلاد؛ خاصة الولايات المتحدة التي أشادت بسلوك جيش بنغلاديش.