أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

أزمات متفاقمة:

دلالات التراجع الإفريقي في تقرير التوازن العسكري 2021

07 مارس، 2021


ابتداء من العقد الثاني من هذا القرن، أفضت عوامل متعددة أبرزها الأزمة الاقتصادية وقضية الديون داخل دول منطقة اليورو، فضلًا عن انخفاض معدل النمو في الصين، إلى إحداث تأثيرات اقتصادية سلبية على إفريقيا. ومما زاد الأمور تعقيداً، أن الركود الاقتصادي في دول كبرى مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا، إلى جانب ما يُسمى بأحداث "الربيع العربي" الذي أثّر على استقرار بلدان شمال إفريقيا؛ قد أضعف النمو الإجمالي للقارة الإفريقية. اليوم، مع دخول العقد الثالث، لم تُظهر جائحة (كوفيد-19) تراجع رواية "إفريقيا الصاعدة" فحسب؛ بل كشفت جميع مواضع الضعف الرئيسية للاقتصادات الإفريقية. ثمة مؤشرات عامة تنذر بسيناريوهات بالغة السوء في إفريقيا جنوب الصحراء. عندئذ يمكن استعارة ما كتبه "تشينوا أتشيبي" في عام 1958 ليعبر عن مستقبل البلدان الإفريقية جنوب الصحراء في قادم الأيام من خلال القول بأن "الأشياء تتداعى".

الاتجاهات الجيوستراتيجية والاقتصادية:

يُظهر تقرير "الميزان العسكري" الذي يُصدره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لعام 2021، أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تحدد آفاق المشهد الجيوستراتيجي والاقتصادي لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء تتمثل في:  التحديات التي تواجهها القوات العسكرية والأمنية في جميع أنحاء المنطقة بسبب ضعف القدرات وتزايد الأنشطة العنيفة.الأولويات المتغيرة للشركاء الدوليين في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية. الآثار الاقتصادية والسياسية لجائحة فيروس كورونا في عام 2020. ويظهر التقرير عددًا من الملامح العامة التي تميز المشهد الجيوستراتيجي العام لمنطقة جنوب الصحراء لعل من أبرزها:

1- شكلت حرب إقليم التيغراي في إثيوبيا، في أواخر عام 2020، تهديدًا كبيرًا ليس فقط على الأمن الإثيوبي، ولكن أيضًا على الأمن الإقليمي بشكل عام. ويُعزَى ذلك إلى مخاطر امتداد الصراع في جوانبه الإنسانية، بسبب تزايد أعداد المشردين والنازحين، وأيضًا بسبب تأثيره على مساهمة إثيوبيا الكبيرة في بعثات حفظ السلام الإقليمية. وتشير بعض التقارير إلى أن قيام الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي بالاستيلاء على المعدات الثقيلة المملوكة للجيش الفيدرالي تضمن ما يُعتقد أنه قاذفة صواريخ متعددة الأهداف صينية الصنع. ولعل ذلك يهدد باحتمال استمرار ما يُشبه حرب الاستنزاف في الداخل الإثيوبي.

2- أظهرت حرب التيغراي -كذلك- أهمية العامل الصيني في دعم القدرات العسكرية والأمنية الإفريقية. على سبيل المثال، أطلقت إثيوبيا بمساعدة صينية قمرًا صناعيًا للاستشعار عن بعد في عام 2019، وذلك من أجل استخدامه في عمليات الرصد الزراعي والمناخي والبيئي. كما قدمت الصين معدات عسكرية مهمة إلى أديس أبابا. وتشمل المساعدات العسكرية التي تقدمها الصين للدول الإفريقية الدعم المالي (بما في ذلك المؤسسات الأمنية على المستوى القاري)، والتدريب والمساعدات المادية، بما في ذلك الإمدادات الطبية والحصول على المعدات التقليدية. كما أن مبيعات الأسلحة الصينية في المنطقة تشمل الطائرات بدون طيار، والمركبات المدرعة، وقطع المدفعية، بما في ذلك قاذفات الصواريخ المتعددة التي يتم تشغيلها بشكل متزايد من قبل القوات المسلحة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.


3- تدهور الأمن البحري في غرب إفريقيا وخليج غينيا نظرًا لتراجع القدرات البحرية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة من جهة، وبسبب مخاطر القرصنة والتهديدات الإرهابية المتزايدة في بعض المناطق -مثل قناة موزمبيق- من جهة أخرى. وعلى الرغم من قيام البحرية في جنوب إفريقيا بدوريات في قناة موزمبيق منذ عام 2011، فقد تم تقييد هذه الدوريات بسبب مخاوف بشأن التمويل، بالإضافة إلى عوائق القدرة على الانتشار السريع وقت الحاجة. ورغم ذلك فقد أدت زيادة الإنفاق العسكري من جانب نيجيريا وبعض الدول المجاورة، إلى أن إنفاق غرب إفريقيا يمثل 36.8٪ من إجمالي الإنفاق الإقليمي، متجاوزًا لأول مرة إنفاق جنوب إفريقيا.

وتكمن دلالة هذه التحولات الجيوستراتيجية في بروز الصين كفاعل دولي مهم في المقتربات الأمنية والعسكرية للمنطقة. حتى وقت قريب، اعتبر العديد من الخبراء أن علاقات الصين مع الدول الإفريقية تركز في معظمها على الجوانب الاقتصادية، وأنها أقل اهتمامًا بالمسائل العسكرية. فقد كان واضحًا أن علاقات إفريقيا مع القوى الكبرى كانت تتبع نمطًا معينًا؛ حيث تركز الولايات المتحدة على الجوانب العسكرية ومكافحة الإرهاب، بينما تهتم الصين بقضايا التجارة والتنمية الاقتصادية. لقد كان انعقاد منتدى الدفاع والأمن عام 2018 علامة بارزة على العلاقات العسكرية المتنامية للصين مع إفريقيا، كما هو الحال مع افتتاح أول قاعدة عسكرية خارجية للبلاد في جيبوتي في عام 2017، ومساهمتها في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

ومن جهة أخرى، فإن حرب التيغراي تمثل تحديًا أمنيًا كبيرًا يهدد أمن منطقة القرن الإفريقي بشكل عام، ولعل ذلك هو ما دفع كلًا من إدارة الرئيس "جو بايدن" والاتحاد الأوروبي بالمطالبة بوقف كافة العمليات العدائية في الإقليم الإثيوبي، وانسحاب كل من قوات الأمهرة والجيش الإريتري، ونشر وحدة مراقبة الأزمات التابعة لهيئة المعونة الأمريكية. ولا شك أن مخاطر عدم استقرار الإقليم تزداد مع تنامي أنشطة السلفية الجهادية العنيفة التي تمثل تحديًا خطيرًا لدول كبرى مثل نيجيريا. ومع ذلك، على الرغم من القواسم المشتركة للإقليم ككل، تظهر بعض المناطق الفرعية داخل إفريقيا جنوب الصحراء خصائص مميزة تتعلق بديناميكيات الصراعات وأولويات الأمن الوطني وطبيعة التحديات التي تواجهها.

هشاشة الدولة  في غرب إفريقيا:

على الرغم من استمرار عمليات الانتشار العسكرية للقوات الدولية، ولا سيما فرنسا؛ فإن هياكل الدولة الهشة وتصاعد المد الجهادي العنيف لا تزال تمثل أبرز سمات الصراعات المستمرة في شمال شرق نيجيريا ومنطقة الساحل الأوسع. وتُعتبر عملية برخان التي تقودها فرنسا في مالي ومنطقة الساحل الكبير ذات أهمية خاصة لجهود مكافحة الإرهاب، حيث إن نقص التمويل وضعف القدرات الخاصة بقوات الأمن الإقليمية (مثل قوة مجموعة دول الساحل الخمس) يجعل من الصعب على هذه الدول مواجهة التهديد بشكل فعّال دون مساعدة خارجية.

وفي غضون ذلك، لا تزال القوات المسلحة النيجيرية عاجزة عن حسم المعركة في مواجهة "بوكو حرام". لقد طرحت طبيعة عمليات الجماعات الإرهابية في غرب إفريقيا مشاكل وتحديات خاصة أمام المؤسسات العسكرية الإقليمية. إذ تواجه القوات المسلحة لدول المنطقة قيودًا في تنمية القدرات والقواعد الدفاعية بشكل فعال بما يتلاءم مع نمط الحرب المتنقلة التي تتطلبها تضاريس المنطقة وطبيعة تحدي جماعات التمرد الإسلامي.

استمرار التنافس الدولي:

من الملاحظ أن حركات السلفية الجهادية العنيفة، التي تقودها جماعات مرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، تواصل الصعود والتمدد في معظم أنحاء إفريقيا. إذ تواجه العديد من الدول الإفريقية الكبرى تهديدًا سلفيًا جهاديًا، انطلاقًا من داخل أراضيها أو عبر الحدود انطلاقًا من دول الجوار غير المستقرة. لقد امتدت السلفية الجهادية التي يقودها الشباب المجاهدون في الصومال إلى كينيا، وهي تشكل اليوم تهديدًا متزايدًا لإثيوبيا، التي تعاني منذ نهاية عام 2020 من تبعات حرب التيغراي.

كما أن التمرد السلفي الجهادي في موزمبيق، مثله مثل الحركات الإرهابية الأخرى في إفريقيا، يعمل على استمالة الصراعات المحلية وإذكائها من خلال ترجمة السرديات التاريخية للمظلومية إلى مصطلحات أيديولوجية متطرفة. هذا التمرد الذي يقع في مقاطعة كابو ديلجادو النائية في شمال موزمبيق، متجذر في الظروف الاجتماعية والاقتصادية طويلة الأمد.

ورغم ذلك، أصبحت المنطقة على مدى العقد الماضي محل تنافس إقليمي ودولي. وقد أبدت أطراف دولية فاعلة، مثل الصين وفرنسا واليابان والولايات المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وبعض القوى الإقليمية الكبرى، اهتمامًا متزايدًا بتقديم المساعدة العسكرية للمنطقة، وإنشاء قواعد عسكرية هناك. ولا شكّ أنه بالإضافة إلى العوامل الأمنية التي تحرك هذا التدافع الدولي على المنطقة، فإن الانقسامات والصراعات في المنطقة الناجمة عن عدم وجود توافق في الآراء بشأن قضايا، مثل تقاسم مياه النيل، واستغلال الموارد الطبيعية، ومقاربات الصومال وإريتريا، والتطرف الإسلامي، تعني بقاء دول المنطقة عرضة للتأثيرات الخارجية.

إشكاليات الصراعات الداخلية:

تواجه مجموعة التنمية للجنوب الإفريقي (سادك) عددًا من الصراعات الداخلية ومخاطر تصاعد النزاعات الأخرى. أول هذه النزاعات استمرار الصراع في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ عام 1996. كما يمثل عدم الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى، والحرب الأهلية المتقطعة في جنوب السودان، وعدم الاستقرار في بوروندي؛ خطرًا مستمرًا يهدد هذه المنطقة. أضف إلى ذلك، شهد التمرد في مقاطعة كابو ديلجادو شمال موزمبيق وجود متمردين يسيطرون على المدن، ويزداد الوضع تعقيدًا بسبب ارتباط الجماعات الجهادية العنيفة التي ترتبط بتنظيم "داعش" بعمليات تهريب المخدرات والأنشطة الإجرامية الأخرى. ومن الملاحظ أن القوات المسلحة لأعضاء "سادك" تواجه عقبات جمة في التعامل مع هذه التحديات الأمنية؛ حيث إنها تفتقر إلى كل من الأفراد والقدرات الرئيسية، ولا سيما القدرة على الانتشار السريع وقت الأزمات. أضف إلى ذلك، قد تمثل القرصنة والإرهاب البحري في قناة موزمبيق خطرًا على كل من موزمبيق ومدغشقر، حيث يفتقر كل منهما إلى وجود قدرة بحرية كبيرة. كما أنها سوف تؤثر على جنوب إفريقيا، التي تستورد النفط وسلعها التجارية الأخرى عبر القناة.

وختامًا، فقد أدت التحديات الأمنية السابقة وتأثيرات جائحة كورونا إلى تراجع معدلات الاقتصاد الكلي لدول المنطقة ككل. لقد توقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الناتج الاقتصادي في إفريقيا جنوب الصحراء في المتوسط بنسبة 2.8٪ في عام 2020، ثم يعاود الارتفاع ليصل إلى 3.8٪ في عام 2021. وعلى هذا النحو، من المتوقع أن يتعافى الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى مستويات ما قبل تفشي جائحة فيروس كورونا بحلول نهاية عام 2021. وعلى الرغم من أن هذا هو أخطر انكماش اقتصادي في المنطقة منذ السبعينيات؛ إلا أنه أقل حدة مما هو عليه في المناطق الأخرى المعتمدة على السلع الأساسية، مثل أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولعل ذلك يعكس معدلات الإصابة المنخفضة نسبيًا بالفيروس في المنطقة.

ومع ذلك، فإن جهود الحكومة لدعم الاقتصاد كانت مقيدة بسبب انخفاض الإيرادات ومحدودية القدرات المالية. وقد ساءت الآفاق الاقتصادية الإقليمية على مدار عام 2020 نظرًا لانخفاض عوائد السياحة، وتأثر الاقتصادات المعتمدة على السلع الأساسية. وقد كانت الانكماشات الشديدة في الاقتصادات الإقليمية الرائدة، مثل أنجولا ونيجيريا وجنوب إفريقيا، ذات أثر بالغ على إجمالي إنتاج دول المنطقة. ومن الملاحظ أن القيود الاقتصادية التي تواجهها المنطقة أدت إلى كبح جماح الإنفاق الدفاعي، حيث كان نصيب المنطقة 0.9٪ فقط من الإجمالي العالمي في عام 2020. بيد أن القيمة الحقيقية للدفاع الإقليمي ارتفعت بنسبة 8.4٪ في عام 2020 لتصل إلى نحو 17.7 مليار دولار أمريكي. ولعل السبب وراء ذلك يكمن في الزيادة الهائلة بنسبة 36٪ في ميزانية الدفاع لنيجيريا. وعلى أية حال فإن القراءة المتأنية لتقرير "التوازن العسكري" تؤكد تصاعد حدة الصراعات الداخلية واستمرار تمدد الجماعات الجهادية من جهة، في ظل بيئة التنافس والتدافع الدولي على إفريقيا جنوب الصحراء من جهة أخرى. فهل نحن فعلًا أمام منطق تداعي الأشياء في إفريقيا؟