لقد رأت معظم القوى العالمية أن البحر الأحمر على مدار أكثر من قرن ونصف ليس إلا مجرد امتداد لقناة السويس. وعلى الرغم من أن المناطق المطلة عليه شهدت حروبًا واضطرابات كبيرة، فإن مضيق باب المندب لم يُغلق إلا مرتين. المرة الأولى كانت أثناء أزمة السويس عام 1956، والثانية كانت خلال حرب الأيام الستة عام 1967، والتي بعدها بقيت قناة السويس مغلقة لمدة ست سنوات.
وخلال العقدين الماضيين واجه البحر الأحمر أيضًا تهديدات مستمرة من القرصنة البحرية وغيرها من الأنشطة التي تُهدد حركة الملاحة الدولية. وقد دفع ذلك القوى الدولية ذات المصلحة إلى تشكيل فرقة عمل متعددة الجنسيات خاصة بأمن البحر الأحمر من أجل قمع القراصنة الصوماليين ومعالجة بعض حالات التهديدات السياسية من قبل جماعات متطرفة بما في ذلك تنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" والحوثيون في اليمن.
ويعكس قرار الصين ببناء أول قاعدة بحرية خارجية لها في جيبوتي اهتمامها الاستراتيجي بالمنطقة، ويشير إلى أنها تشارك الولايات المتحدة وأوروبا مسألة حرية الملاحة باعتبارها أولوية استراتيجية. ومع تعدد الأجندات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أضحت ساحة البحر الأحمر أكثر تشعبًا وتعقيدًا، وهو ما دفع بالقوى الإقليمية المطلّة على البحر الأحمر لكي تكون أكثر حزمًا وإصرارًا على التوصل لوثيقة خاصة بالتعاون الجماعي بين دول المنطقة. ونحاول في هذا المقال عرض أربعة رؤى متباينة حول أمن البحر الأحمر بما يعكس اختلاف الأجندات والمصالح للأطراف الدولية الفاعلة.
رؤية "الأفرابيا" وأمن البحر الأحمر:
كان الراحل "علي مزروعي" يرى أن شبه الجزيرة العربية قبل وجود البحر الحمر تمتد لتشمل منطقة شرق إفريقيا في إطار ما أسماه رابطة "الأفرابيا" التي تعكس عمقًا حضاريًّا مشتركًا بين العرب والأفارقة. وقد جادل "مزروعي" بأن الصحراء الكبرى تربط بين شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء بقدر ما تفصل بينهما. ولكن إذا كان الشمال الإفريقي يُعد جزءًا لا يتجزأ من القارة، فلماذا لا تكون شبه الجزيرة العربية أيضًا امتدادًا لإفريقيا؟ وعليه إذا كان البحر الأحمر هو الذي يُحدد أين تنتهي إفريقيا فإن الروابط التاريخية والحضارية التي تجمع بين الدول المطلة عليه تجعل منه عامل توحيد أكثر من كونه عامل تقسيم. والمعروف أن فكرة إقامة تكتل دول البحر الأحمر طُرحت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من قبل كلٍّ من مصر والمملكة العربية السعودية، بحيث يتألف من الدول المشاطئة له. وتنظر مصر إلى البحر الأحمر وخليج عدن بحسبانهما مجرد امتداد طبيعي لقناة السويس. على أن هذه المحاولات لم تكلل بالنجاح بفعل عاملين رئيسيين؛ يرتبط أحدهما بتحالفات الحرب الباردة، والثاني يتعلق بمعيار العضوية. والسؤال التقليدي: هل يمكن مشاركة إسرائيل؟ ويلاحظ أن الفكر الاستراتيجي الخاص بهذه المسألة في إطارها العربي ظل ولفترة طويلة يدور حول اعتبار البحر الأحمر بحيرة عربية.
وقد تم إحياء مشروع منتدى البحر الأحمر مرة أخرى من جانب الأطراف العربية والإفريقية إلى أن تم التوقيع في أوائل يناير عام 2020 على ميثاق تأسيس مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، يكون مقره الرياض. ويكمن خلف هذا التحالف الأفروعربي اعتبارات أمنية واقتصادية واستراتيجية غير خافية، لعل أبرزها ما يلي:
1- على الرغم من أن التهديد الذي يشكله القراصنة في مضيق باب المندب قد تراجع في السنوات الأخيرة نتيجة تعدد وتضافر الجهود الدولية؛ إلا أن هناك تهديدًا حقيقيًّا لحرية الملاحة جراء الحرب في اليمن، والتي اتخذت طابعًا إقليميًّا واضحًا مع بداية الحملة السعودية ضد الحوثيين في عام 2015. فقد قام المتمردون الحوثيون المدعومون من إيران بزرع الألغام على طول سواحل اليمن، واستخدموا القوارب المتفجرة والقذائف المضادة للسفن لمهاجمة السفن البحرية. واتضح ذلك بجلاء في حادثة الاعتداء على ناقلة نفط سعودية في أبريل 2018.
2- تكتسب منطقة البحر الأحمر أهمية اقتصادية كبيرة، إذ يبلغ طول مضيق باب المندب نحو 29 كلم، ويشكل خطًّا بحريًّا واستراتيجيًّا يربط بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي. ونتيجة حركة الملاحة والتجارة العالمية التي لا تهدأ عبر المضيق، أضحت قناةُ السويس مصدرًا هامًّا للدخل في مصر، وكذلك ميناء العقبة في الأردن، وميناء جدة في المملكة العربية السعودية.
3- تسعى المملكة العربية السعودية انطلاقًا من رؤيتها الطموحة 2030، إلى تطوير حوالي 200 كلم على طول سواحل البحر الأحمر، بما في ذلك نحو خمسين جزيرة صغيرة، لتعزيز المبادرات السياحية التي تستهدف جذب الاستثمارات الأجنبية. ويلاحظ كذلك أن موقع مدينة نيوم السعودية المستقبلية سوف يكون داخل هذا الشريط الساحلي، بالإضافة إلى خطة مصرية سعودية لبناء جسر فوق البحر الأحمر، مما سيسهل المرور المباشر للبضائع بين البلدين، ويحقق التكامل بين الأسواق في كلٍّ من شبه الجزيرة وأوروبا.
وبالرغم من عدم وجود تصور لإنشاء قوة عسكرية جديدة تحت مظلة هذا الكيان؛ إلا أن تكتل دول البحر الأحمر يسعى إلى تحقيق أهداف اقتصادية متمثلة في تعزيز التجارة، بالإضافة إلى احتواء النفوذ الإيراني والتركي في المنطقة. والملاحظ أن تحالف دول البحر الأحمر المعلن عنه يتألف من ثماني دول، هي: مصر، والسعودية، والأردن، وجيبوتي، والصومال، واليمن، والسودان، وإريتريا. لكن كما يؤكد "أليكس دي وال" فإن الأسئلة نفسها لا تزال تبحث عن إجابة: ما هي معايير العضوية في هذا المنتدى؟ وماذا عن الدول غير الساحلية ذات المصالح الكبرى في البحر الأحمر مثل إثيوبيا؟ ويمكن أن نذكر في هذا الخصوص كذلك شروع إثيوبيا في بناء أسطول بحري تكون قاعدته في جيبوتي.
الرؤية الإفريقية:
أما الرؤية الثانية فهي تعبر عن مفهوم الجامعة الإفريقية، حيث دار نقاش جاد في أروقة الاتحاد الإفريقي حول تطوير سياسة واضحة من أجل تحقيق السلام والأمن في "الفضاء المشترك" في البحر الأحمر وخليج عدن، بما في ذلك إقامة شراكة سياسية وأمنية مع مجلس التعاون الخليجي. ففي أكتوبر 2017، عقد اجتماع في الخرطوم تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، ضم ممثلي دول شمال شرق إفريقيا والشركاء الدوليين (الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي) لتطوير أجندة تهدف إلى توسيع جدول أعمال السلام والأمن الخاص بها في القرن الإفريقي ليشمل البحر الأحمر. وبالفعل، قامت الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بالتنمية (الإيجاد) في أبريل 2019 بتأسيس فرقة عمل معنية بالبحر الأحمر وخليج عدن خلال اجتماع لجنة سفراء الإيجاد. ويتسق ذلك مع قرار الدورة العادية السادسة والأربعين لمجلس وزراء خارجية دول الإيجاد التي عقدت في جيبوتي في 27 فبراير 2019.
علاوة على ذلك، سوف يكون من مهام فرقة العمل تلك تبني موقف واستراتيجية مشتركة لمواجهة التحديات واستغلال الفرص في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن. ولا شك أن الإيجاد تقوم بتنسيق جهودها في هذا الصدد مع مفوضية الاتحاد الإفريقي.
الرؤية الأوروبية:
تُركز الرؤية الأوروبية على الأهمية الاستراتيجية لباب المندب بالنسبة للتجارة الأوروبية، ولهذا السبب طرح الاتحاد الأوروبي فكرة عقد منتدى للبحر الأحمر يضم دول القرن الإفريقي والولايات المتحدة ودول الخليج وأصحاب المصلحة الدوليين الآخرين. بيد أن طبيعة الجغرافيا السياسية المعقدة في المنطقة طرحت تساؤلات حول فعالية مثل هذا المنتدى المتعدد الأطراف في إدارة الكثير من المصالح المتنافسة. إذ لدى الألمان مصلحة في القيادة، وهناك مناقشات مع النرويجيين حول تحالف البحر الأحمر. ولكن يظل السؤال المطروح أوروبيًّا هو: من الذي لديه سلطة الدعوة للاجتماع؟ وما هي معايير العضوية؟.
ومن الناحية الواقعية، يشارك الاتحاد الأوروبي بقوة في القرن الإفريقي، من خلال الحوار السياسي، ومهمات السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة، مثل: البعثة الأوروبية لبناء القدرات البحرية في دول منطقة القرن الإفريقي والمحيط الهندي، وبناء القدرات البحرية والقضائية لمكافحة القرصنة، والتعاون الإنمائي. ومن المعروف أن لدى الاتحاد الأوروبي ممثلًا خاصًّا في القرن الإفريقي هو "ألكساندر روندوس"، حيث تتمثل مهمته في المساهمة في الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق سلام وأمن وتنمية دائمين في المنطقة، وتعزيز مصالح ونفوذ الاتحاد الأوروبي في المنطقة.
في 25 يونيو 2018، ناقش مجلس الاتحاد الأوروبي واعتمد خطة جديدة بشأن القرن الإفريقي والبحر الأحمر. لقد أثارت التطورات في المنطقة منافسة جيوسياسية متجددة على ضفتي البحر الأحمر. إلى جانب عدم وجود نظام مناسب للتعاون وآليات منع النزاعات وإدارتها، ولا شك أن هذه التطورات، من المنظور الأوروبي، لها تأثير سلبي على الأمن في البحر الأحمر وحوله، وهو ما يمكن أن يعرض مصالح الاتحاد الأوروبي للخطر من خلال التأثير على حرية الملاحة وزعزعة استقرار القرن الإفريقي.
الرؤية الأمريكية:
نظرًا للأهمية الاستراتيجية المتزايدة للبحر الأحمر فقد ظهر جهد مهم من جانب معهد الولايات المتحدة للسلام للتركيز على المنطقة، بما في ذلك الدعوة لتعيين مبعوث خاص للولايات المتحدة للبحر الأحمر. ولتحقيق هذه الغاية، أطلق معهد الولايات المتحدة للسلام مبادرة البحر الأحمر بهدف:
1- سد الفجوة في تحليل طبيعة العلاقات بين الشرق الأوسط والقرن الإفريقي.
2- التعاون مع صانعي السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا للتغلب على العقبات المؤسسية التي تعرقل التعاون المشترك.
3- استكشاف الفرص المتاحة لتحقيق التعاون المشترك، ومنع وتسوية النزاعات في منطقة البحر الأحمر.
ويشمل تعريف البحر الأحمر، وفقًا لهذه المبادرة، القرن الإفريقي والخليج ومصر. وكجزء من هذه المبادرة، يقوم معهد السلام بنشر سلسلة من المقالات التحليلية لاستكشاف التحديات والمشكلات المعقدة، وتأثيرها -على المدى الطويل- على السلام والأمن الدوليين، والآثار المترتبة على المصالح الأمريكية. ووفقًا لهذه المبادرة لا يمكن للولايات المتحدة أن ترى مصالحها في البحر الأحمر تتقوض بسبب التمسك بالتمييز الذي عفا عليه الزمن بين القرن الإفريقي والشرق الأوسط. بدلًا من ذلك، يجب عليها الاستفادة من رصيدها الكبير لتحقيق الاستقرار والتوازن بين الأدوار الإقليمية المتنافسة.
وتنفق الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قوتها العسكرية في البحر الأحمر مثل عمليات مكافحة الإرهاب في الصومال ودعم التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، ما يقرب من 5 مليارات دولار سنويًّا على المساعدات الإنسانية والأمنية والتنموية في القرن الإفريقي. لكن ما تفتقر إليه الولايات المتحدة هو استراتيجية سياسية إقليمية متكاملة، بالإضافة إلى تعيين مبعوث خاص.
رؤية للمستقبل:
في ظل تنافس الرؤى واختلاف الأجندات يظل الأمل معقودًا على رؤية "الأفرابيا" التي تم تدشينها فعليًا بإنشاء المجلس الأفروعربي للدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن. ولا شك أن العديد من الترتيبات البحرية الناجحة في مناطق العالم الأخرى قد بدأت صغيرة، وتوسعت مع مرور الوقت، سواء من حيث العضوية أو النطاق، إذ عادة ما يتم تطوير الثقة وأهمية الأنشطة المطلوبة لمواجهة التحديات المشتركة.
وقد اتبعت مدونة جيبوتي لعام 2009 هذا النهج. لقد اعتمد تعديل جدة لعام 2017 لمدونة جيبوتي على توسيع نطاق الجرائم البحرية المشمولة إلى حد كبير، على الرغم من أن ثلاثة من أصل الدول العشرين الأصلية لم توقع على تعديل جدة. هناك حاجة إلى اعتماد مجموعة مشتركة من المبادئ أو الاهتمامات، وتحديد أولويات التنسيق لتجنب تنافس الأجندات وصراع المبادرات. وعلى أية حال، يمكن أن يؤدي عدم وجود تعريف أو تقييم مشترك للتهديدات أيضًا إلى تباين المواقف والسياسات. وعلى سبيل المثال، أثناء وضع مدونة قواعد سلوك ياوندي في وسط وغرب إفريقيا، ظهر سؤال حول الأولويات. كانت المشكلة التي تواجه الدول الساحلية تتمثل في طرق مواجهة تهديد القرصنة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على المصايد المحلية وسبل العيش للسكان المحليين.
إن الاتجاه نحو التعاون الإقليمي يزداد عندما ترتفع حدة مستويات التهديد، كما يتراجع هذا الاهتمام مع تراجع المخاطر. وعليه فإن أي منظمة تتطلب مستوى معينًا من الاهتمام المشترك لتعمل. لقد نجحت مدونة جيبوتي بشكل جيد في هذا الصدد، عن طريق تطوير تعديل جدة، وهي نتيجة مهمة بالنظر إلى أنه في الوقت الذي انخفضت فيه حوادث القرصنة في المحيط الهندي، فإن تهديد القرصنة والجرائم البحرية الأخرى لا يزال قائمًا. هذا مهم بشكل خاص للبحر الأحمر، حيث إن الاهتمام كبير اليوم ويرجع ذلك ولو جزئيًّا إلى الحرب الأهلية في اليمن، ومع ذلك فإن تسوية النزاع أو إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية قد يضعف بدوره حماس بعض الجهات الفاعلة للتعاون. وبشكل عام يساعد التنسيق أيضًا على منع المنافسة المحتملة أو التداخل، ولا سيما مع تباين الرؤى واختلاف الأجندات.