أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

حلقات متصلة:

مصالح بولندا في الشرق الأوسط بعد تحولات 2011

09 يوليو، 2018


تعكس المواقف التي تتبناها بولندا إزاء قضايا إقليم الشرق الأوسط مصالح محددة يتمثل أبرزها في تدفقات التجارة والاستثمار، وإنشاء مناطق صناعية وتأسيس غرف تجارة مشتركة مع مصر، ودراسة التشابهات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية بينها وبين تونس خاصة فيما يتعلق بدور النقابات العمالية والنمو غير المتوازن للتنمية بين مختلف الأقاليم داخل الدولة، إذ أن الاقتصاد هو القاطرة الرئيسية لعلاقات بولندا مع دول الإقليم، وخاصة بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. 

فضلاً عن ذلك، تعد بولندا إحدى الدول الأوروبية التي تبدي اهتمامًا خاصًا بقضية اللاجئين من المنطقة، حيث اتبعت سياسة انتقائية في استقبال اللاجئين الفارين من بؤر الصراعات وخاصة من سوريا لتخوفها من احتمال استغلال التنظيمات الإرهابية لهم في تجاوز الإجراءات الأمنية وتنفيذ عمليات إرهابية داخل بعض المدن الأوروبية. كما تشارك بولندا في التحالف الدولي ضد التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة، التي تمكنت من السيطرة على مناطق واسعة في سوريا والعراق، وفي مقدمتها تنظيم "داعش"، وذلك منعًا لعودة المقاتلين الأجانب لأوطانهم في الدول الغربية، ومنها بولندا، وتكبيد موسكو خسائر من تدخلاتها الإقليمية.

وقد ظهرت حزمة من المؤشرات التي تعكس الاهتمام البولندي المتنامي بدول الشرق الأوسط، يمكن تناولها على النحو التالي:

قاطرة الاقتصاد:  

1- بحث إنشاء منطقة صناعية بالعين السخنة في محور قناة السويس: على نحو ما جاء في محادثات عمرو نصار وزير التجارة والصناعة المصري وجيرزي كوشينسكي وزير الاستثمار والتنمية البولندي، في 2 يوليو الجاري، حيث تقرر إقامتها بالتعاون مع المنطقة الخاصة بإقليم كاتوفيتسا البولندية، والتي تعد إحدى أكبر المناطق الصناعية في أوروبا. ومن المرجح أن تساهم المنطقة الصناعية البولندية في زيادة الصادرات المصرية لقارة إفريقيا، فضلاً عن الاستفادة من موقع بولندا كمحور لنفاذ المنتجات المصرية لدول وسط وشرق أوروبا.

وقد تطرقت المحادثات المشتركة إلى استعراض الإجراءات النهائية لإنشاء الغرفة التجارية المصرية- البولندية المشتركة، بما يؤدي إلى تعزيز التعاون بين مجتمعى الأعمال في الدولتين، وكذلك بحث مقترح الجانب البولندي بتأسيس مجلس أعمال مصري- بولندي مشترك بما يساهم في زيادة معدلات التبادل التجاري، الذي بلغ 418 مليون دولار في عام 2017.

ووفقًا لتصريحات الوزير عمرو نصار، تعول الحكومة المصرية على أهمية زيادة الاستثمارات البولندية بالسوق المصرية خلال المرحلة المقبلة، خاصة في ظل الجهود التي تبذلها وزارة الاستثمار لتحسين بيئة ومناخ الأعمال في مصر، إذ تتركز أهم الاستثمارات البولندية في مصر في قطاعات السياحة والصناعة والإنشاءات والاتصالات والخدمات. كما تطرقت مباحثات الجانبين إلى أهمية إعادة تشغيل خط الطيران المباشر بين القاهرة ووارسو، لما يسهم به في دعم حركة التجارة والاستثمار بين البلدين. 

فضلاً عن تعزيز التعاون في المجال المصرفي بهدف توفير تمويل للمشروعات البولندية المخطط إنشاؤها في مصر خلال المرحلة المقبلة. وتشير تصريحات أحمد عنتر رئيس جهاز التمثيل التجاري المصري، وأحمد الوكيل رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية المصرية، إلى أن الدورة الأولى للمشاورات المصرية- البولندية تمثل نقلة رئيسية للتعاون الاقتصادي بين البلدين في المستقبل، لا سيما أن هناك فرصًا ممتازة للشركات البولندية مع نظيرتها المصرية في عمليات التصنيع المشترك. 

ويرتبط هذا التعاون المتعدد الأبعاد بالتصريحات الرسمية البولندية التي تعتبر مصر من أهم الدول المحورية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، سواء من حيث دورها السياسي والأمني الرئيسي الداعم للاستقرار في المنطقة، أو من حيث انفتاحها الاقتصادي، لا سيما أن بولندا تنفذ خطة طموحة للارتقاء بالاقتصاد، والذي شهد طفرة خلال السنوات الماضية، وهو ما أدى إلى وضعه ضمن قائمة الاقتصادات الأسرع نموًا بين دول القارة الأوروبية.

إغضاب إسرائيل:

2- تعديل قانون حول محرقة اليهود: قررت الحكومة البولندية، في 27 يونيو 2018، تعديل قانون يجرم اتهامها بالتعاون مع النازية في الحرب العالمية الثانية، حيث كان القانون يقضي بسجن المدانين بهذه الجريمة ثلاثة أعوام، غير أنه سجلت اعتراضات عليه، وتم إحالته إلى المحكمة الدستورية، التي أمرت بتعليق العمل به. وقد انتقد الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين القانون علنًا، في إبريل الماضي، وقال لنظيره البولندي أنه "لا جدال في أن الكثير من البولنديين قاتلوا النازية في الحرب العالمية الثانية، ولكن بولندا والبولنديين كانت لهم يد في تصفية اليهود خلال المحرقة". ومن الواضح أن الحكومة البولندية تأخذ بعين الاعتبار السياق الدولي ولا تريد فتح جبهة مع إسرائيل. 

انتقائية اللاجئين:

3- تردد في استقبال "حصص" إضافية من تدفقات اللاجئين غير النظاميين: جددت وارسو، في بداية عام 2018، رفضها استقبال لاجئين جدد من الشرق الأوسط ومنحهم حق اللجوء الذي يكفل لهم البقاء على الأراضي البولندية في انتظار تسوية أوضاعهم القانونية أو تراجع حدة الصراعات في بلدانهم الأصلية. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة سبق أن وافقت بعد تحفظ على استقبال نحو 5 آلاف من أصل 120 ألف تم توزيعهم على دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب نحو 2000 دخلوا بولندا قبل توزيع الحصص بين دول الاتحاد الأوروبي. 

ونظرًا لهذا الموقف، اعتزم الاتحاد الأوروبي البت في فرض عقوبات على بولندا من خلال اللجوء إلى المادة السابعة من اتفاقية الاتحاد. غير أن الحكومة البولندية رفضت هذا التهديد على لسان رئيس الوزراء حينذاك ماتيوس مورافيتسكي الذي أكد أنه "لا مكان للمهاجرين الوافدين من منطقتى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الأراضي البولندية". كما قال وزير الخارجية السابق فيتولد فاشيكوفسكي: "نحن لا نقبل مثل هذا الابتزاز ولا نقبل الطرح القائل إنهم يمكن أن يقطعوا عنا المساعدة المالية الأوروبية إذا لم نبد التضامن ونقبل اللاجئين".

واللافت للنظر أن الرؤية البولندية تدعم فكرة "الانتقائية"، إذ ليس بالضرورة توطين اللاجئين  رغمًا عن رغباتهم، خاصة أنهم قد يفضلون التوجه إلى دول أوروبية محددة مثل ألمانيا وبلجيكا والسويد، بحيث يحصلون على دعم مالي أكبر مقارنة بدول أوروبية أخرى لا تحظى بأوضاع اقتصادية مميزة مثل السابق ذكرها. ونتيجة ذلك، حدث تراجع في موقف الحكومة البولندية من الرفض القاطع لاستقبال اللاجئين إلى تواتر الحديث عن استقبال بعضهم وفقًا لرغبة الوافدين الجدد.

استقلال كردستان:

4- تعزيز العلاقات مع إقليم كردستان العراق: خاصة بعد إسقاط نظام صدام حسين. وقد عبر الرئيس الفخري للبرلمان البولندي كورنيل مورافيجي، أثناء وقوفه إلى جانب ممثل حكومة إقليم كردستان في بولندا خلال مؤتمر صحفي في 12 سبتمبر 2017، عن دعمه لاستقلال كردستان قائلاً: "كردستان نموذج ناجح وجميل للتعايش بين القوميات والأديان، وهو أمر ضروري بالنسبة إلى الشرق الأوسط". ولعل هذا الموقف لا يعبر عن توجه بولندي رسمي فيما يخص دعم استقلال كردستان، والتي لم يقف معها سوى "الجبال" على حد تعبير حاكم الإقليم مسعود برزاني.

فعضوية بولندا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتوً تقف حائلاً دون تقديم الدعم الصريح لاستقلال كردستان. ويمكن تفسير الاهتمام البولندي بالقضية الكردية في ضوء التشابه بين الجانبين في التعرض لمعاناة التقسيم والإبادة الجماعية. وفي هذا السياق، هناك عقود بين بولندا وإقليم كردستان لتطوير النصب التذكارية في الإقليم، وتقديم مساعدات للنازحين الأكراد، وتكريم عدد من الأفلام السينمائية البولندية دور الأكراد في تحرير المدن العراقية من تنظيم "داعش"، فضلاً عن إعطاء الطلاب الأكراد منح للدراسة في الجامعات البولندية.

تكلفة التدخل:

5- تجنب الانخراط في إزاحة نظم حكم قائمة: لم تشارك بولندا في التدخل العسكري لحلف الناتو لإسقاط نظام القذافي في ليبيا في عام 2011، الأمر الذي خالف توقعات الكثير من الدول الغربية نظرًا لمشاركة بولندا في حربى أفغانستان (2001) والعراق (2003). غير أن هذا العامل كان سببًا لإجهاد القوة العسكرية لبولندا، فضلاً عن عدم تعرض الأمن البولندي أو أى عضو من أعضاء حلف الناتو لتهديد ما سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومع غياب هذا التهديد، لم ترى وارسو التدخل العسكري في ليبيا ضروريًا.

إن هناك حزمة من العوامل التي تفسر المصالح الوطنية لبولندا من انخراطها النسبي مع قضايا منطقة الشرق الأوسط، تتمثل في: 

تصدير التجربة:

1- نقل خبرة التحول الانتقالي للدول المستقرة نسبيًا: خاصة تونس، لا سيما أن التغيرات التي شهدها الأخيرة تتشابه، في رؤية اتجاهات عديدة، مع التجربة التي مرت بها بولندا في بداية تسعينات القرن الماضي، الأمر الذي يمكنها من طرح أفكارها ورؤاها لتجاوز "العتبات الانتقالية" لدول شمال إفريقيا، وهو ما انعكس في تبادل إجراء زيارات رسمية وتنظيم دورات تدريبية وأنشطة بحثية.

حلول سلمية:

2- تسوية الصراعات المسلحة وفي مقدمتها الصراع السوري: تركز بولندا في المحافل الدولية على الجهود المبذولة لمنع التصعيد ومحاسبة مستخدمي الأسلحة الكيميائية وحماية السكان المدنيين. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية البولندي ياتسيك تشابوتوفيتش، في 27 إبريل 2018: "إن بولندا تريد أن تبحث عن سبل لوضع نهاية للصراع الدائر سوريا خلال فترة عملها في رئاسة مجلس الأمن"، بعد أن أصبحت عضوًا غير دائم في المجلس لمدة عامين اعتبارًا من 1 يناير 2018. وأضاف: "أولوياتنا تشمل تعزيز دور القانون الدولي ودعم الحل الفعّال للصراعات وضمان حماية المدنيين والتأكيد على أهمية القانون الإنساني". 

محاربة "داعش":

3- منع عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم الأصلية: أرسلت بولندا طائرات إف-16 وحوالي 200 جندي إلى الكويت والعراق لمحاربة تنظيم "داعش"، في 15 يونيو 2016، وهو ما تم بعد توجيه رئيسة الوزراء بيتا سيدلو الطلبات الضرورية إلى الرئيس اندريه دودا، المؤهل وحده بصفته القائد الأعلى للقوات البولندية المسلحة للموافقة على تحديد مهمة لجنود بولنديين في الخارج كما ينص على ذلك الدستور البولندي. وتهدف بولندا من وراء تلك المشاركة إلى المساهمة في دحر الإرهاب في بؤر الصراعات حتى لا يعود المقاتلون الأجانب لأوطانهم مرة ثانية.

وقد أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال زيارته بولندا في 5 يوليو 2017، بالدور البولندي في مكافحة الإرهاب ومحاربة "داعش" في العراق، حيث كانت بولندا ضمن عدة دول (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والدنمارك وتركيا وألمانيا) التي اجتمعت على هامش قمة الأطلسي في سبتمبر 2014 لوضع أسس التحالف الدولي ضد "داعش"، لا سيما بعد اجتذاب التنظيم الإرهابي مقاتلين أجانب من الدول الغربية، حيث تشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد البولنديين المنضمين إلى التنظيم يتراوح بين 20 و40 بولنديًا.

مخاطر وبائية:

4- درء التهديدات الأمنية غير التقليدية: ومن أبرزها الأوبئة التي يحملها اللاجئون القادمون من بؤر الصراعات. فقد ساد تخوف لدى الرئيس البولندي أندريه دودا، في 18 أكتوبر 2015، من الأوبئة المحتملة التي قد ينقلها اللاجئون إلى وارسو، وهو ما عكسته تصريحاته لوكالة "فرانس برس" التي قال فيها: "في حال وافقت الحكومة على استقبال المهاجرين عليها أن توضح ما إذا كانت مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات، أى معرفة ما إذا كان البولنديون يحظون بحماية كافية في وجه مخاطر وبائية".

ويأتي هذا التصريح في أعقاب تصريحات مشابهة أدلى بها زعيم حزب "الحق والعدالة" ياروسلاف كاتشينسكي الذي ينتمي إليه الرئيس الحالي، حيث قال: "إن المهاجرين يمكن أن يحملوا كل أنواع البكتيريا التي يمكن ألا تكون خطرة عليهم لكنها خطرة على السكان المحليين أيضًا". وقد أثارت هذه التصريحات جدلاً واسعًا لدى الرأى العام والنخبة في بولندا نتيجة استخدام خطاب الكراهية.

مستنقع موسكو:

5- تكبيد روسيا خسائر جراء تدخلاتها الإقليمية: تمثل روسيا أحد مصادر التهديد الرئيسية لبولندا، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية البولندي السابق فيتولد فاشيكوفسكي خلال حلقة نقاش حول مستقبل حلف الناتو في العاصمة السلوفاكية في 15 إبريل 2016، بقوله: "إن روسيا تمثل تهديدًا كبيرًا لأوروبا أكثر من تنظيم داعش، وإن الأخير يشكل تهديدًا جديًا للغاية ولكن ليس تهديدًا وجوديًا"، وأضاف: "بالتأكيد النشاط الذي تقوم به روسيا هو نوع من التهديد الوجودي، لأن هذا النشاط يمكن أن يدمر بلداننا، ونواجه أيضًا تهديدات غير وجودية مثل الإرهاب وموجات الهجرة الكبيرة".

دائرة مترابطة: 

خلاصة القول، إن ثمة حلقات متصلة حاكمة لسياسة بولندا تجاه منطقة الشرق الأوسط، تتعلق بالحفاظ على مصالحها القائمة وبناء شبكة من المصالح الجديدة مع شركاء جدد وعدم إغضاب الولايات المتحدة وإسرائيل والتركيز على تهديد موسكو ودرء أية مخاطر قادمة من الإقليم سواء كانت لاجئين أو إرهاب، لدرجة أن العاصمة وارسو شهدت في سبتمبر الماضي انطلاق "الحركة العالمية لمكافحة إرهاب قطر"، التي أوصت بتجميد الأموال القطرية في البنوك الأوروبية، خشية استخدامها في تمويل عمليات إرهابية في المستقبل، ودعت إلى ضرورة تكاتف الجهود، من أجل وقف الدور الذي تقوم به قطر في تمويل الإرهاب في أوروبا والشرق الأوسط، ودعمها للفكر المتشدد، وإيوائها للإرهابيين على أراضيها.