أثار تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم "داعش" عدة تحديات أساسية ترتبط بالتعامل مع التحولات الديمغرافية في مدينة الموصل (عاصمة محافظة نينوى) نتيجة عمليات التهجير والترحيل والنزوح القسري التي استمرت منذ سيطرة "داعش" على المدينة في 10 يونيو 2014، وهو ما يزيد من أهمية استعادة التوازن الاجتماعي والسياسي والأمني في الإقليم، وتسوية قضايا عودة المهجّرين والنازحين، والمصالحة المجتمعية في المناطق التي يتم تحريرها من "داعش".
خريطة ديمغرافية معقدة:
تُعتبر الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق من حيث عدد السكان، وهي مركز محافظة نينوى، وتتميز بالتنوع والتعدد الديمغرافي أكثر من أي محافظة أو مدينة عراقية أخرى، وتتنوع العرقيات فيها ما بين عرب، وأكراد، وأشوريين، وتركمان، وشبك، كما يتنوعون من حيث الديانة ما بين مسلمين، ومسيحيين، وإيزيديين، ولا توجد إحصائيات محددة عن حجم كل مُكوِّن سوى نسب تقديرية استندت إلى نتائج انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، ويُمكن التعريف بهذه المكونات كما يلي:
1- التوزيع العرقي، وتتمثل أهم معالم الخريطة العرقية في محافظة نينوى فيما يلي:
أ- العرب: يُشكلون الأغلبية السكانية في محافظة نينوى، ويتوزعون في مركز مدينة الموصل ومختلف نواحي نينوى.
ب- الأكراد: يوجد معظمهم في الجانب الشرقي في المدينة، أو ما يُسمى بالساحل الأيسر.
ج- التركمان: يحتلون المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان بعد العرب والأكراد، وينقسمون مذهبيًّا ما بين شيعة وسنة، ويوجد معظمهم في مدينة تلعفر والعديد من قرى نينوى.
د- الشبك: يمثل الشبك إحدى الأقليات القومية في محافظة نينوى، وينقسمون مذهبيًّا بين شيعة وسنة، ويتحدثون اللهجة الشبكية القريبة من اللهجة الكورانية، ويتركز وجودهم في بلدات وقرى سهل نينوى، ولهم تمثيل في مجلس المحافظة والبرلمان العراقي أسوة بباقي أقليات الموصل.
2- التوزيع الديني: وفيما يتعلق بالديانات فإن المسلمين يحتلون المرتبة الأولى من حيث عدد السكان، يليهم المسيحيون الذين يتوزعون بين عدة مذاهب مسيحية، كالكاثوليك، والأرثوذكس، والبروتستانت، وأغلب تواجدهم في سهل نينوى، لا سيما قضاء الحمدانية وتلكيف والشيخان.
كما يوجد عدد من الإيزيديين، وهم جماعة إثنية - دينية اختلف المؤرخون في أصلها، يتحدث قسم منهم اللغة الكردية والقسم الآخر يتحدث اللغة العربية، ويتركز تواجدهم في قضاء سنجار والشيخان وقرى تلكيف وبعشيقة.
ملامح التحولات المجتمعية:
تعرّضت مدينة الموصل لعملية تغيير ديمغرافي غير مسبوقة بعد استيلاء "داعش" عليها، بدأت باستهداف مختلف الجماعات العرقية بعمليات الترحيل القسري والتهجير والإبادة الجماعية التي طالت الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان الشيعة، وكل من يعارضهم من العرب. وهو ما أدى إلى تغير التنوع السكاني الذي ميّز مدينة الموصل عبر عقود طويلة عن غيرها من المدن، وانقسم النازحون من هذه المدينة إلى قسم اختار النزوح إلى المحافظات العراقية الأخرى، وقسم آخر اختار الهجرة إلى خارج العراق، لا سيما المسيحيين الذين تناقص عددهم في العراق بشكل كبير منذ فترة طويلة.
كما سيطرت القوات الكردية على بعض المناطق، وهي ما أُطلق عليها "المناطق المتنازع عليها" بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية بعد تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش" الذي كان قد استولى عليها سابقًا.
وقد ظهرت مشكلة "المناطق المتنازع عليها" بعد عام 2003، وتُعد من المشاكل المعقدة التي لم يتم التوصل إلى حلٍّ لها طيلة المرحلة السابقة، وهذه المناطق موجودة على حدود إقليم كردستان مع المحافظات المجاورة لها (مثل: نينوى، وصلاح الدين، وديالى)، وتختلف المواقف والادعاءات والروايات حول هذه المناطق بين العرب والأكراد، وكذلك التنوع الديمغرافي الموجود فيها الذي يتكون من عرقيات وديانات متنوعة.
ولعلّ من أهم "المناطق المتنازع عليها" في نينوى: قضاء عقرة، والحمدانية، ومخمور، وتلعفر، وتلكيف، والشيخان، وسنجار، وغيرها. ويدعي القادة الأكراد أن هذه المناطق "كردستانية" حتى وإن كانت الأغلبية من سكانها ليسوا أكرادًا، وفي المقابل يصر العرب على أن هذه المناطق عربية وليست كردية.
وفي ظل هذه الأوضاع، سيطرت قوات البشمركة الكردية على هذه المناطق بدعم من التحالف الدولي بعد الاتفاق مع الحكومة العراقية، على أن يتم الانسحاب منها بعد تحريرها، ولكن يشير الواقع وأغلب تصريحات القادة الأكراد إلى رفض الانسحاب من هذه المناطق، كونهم يعدونها جزءًا من إقليم كردستان، وأن "حدود الإقليم قد رُسمت بالدم" كدلالة على عدم التخلي عن السيطرة عليها، وتُقدر منظمة العفو الدولية أن عدد السكان العرب الممنوعين من العودة إلى بيوتهم في كل المناطق المتنازع عليها يبلغ عشرات الآلاف.
ويرتبط ذلك بوجود مجموعات سكانية مُنعت من العودة إلى مناطق سكناها من قبل جماعات مسلحة غير معروفة عملت على خلق مناطق ذات تركيبة مجتمعية واحدة.
مشروعات التقسيم الداخلي:
طُرحت عدة خطط لتقسيم محافظة نينوى في مرحلة ما بعد تحرير الموصل، وكل هذه الخطط يُعبر عن مصالح من يتبنى طرحها. فمثلاً، أُعلنت خطة في يونيو 2017 لضم مناطق غرب الموصل إلى إقليم كردستان، وذلك بعد الاجتماع الذي عُقد بين "مسعود بارزاني" (رئيس إقليم كردستان) وعدد من شيوخ العشائر في مدينة الموصل.
كما سبق ودعا أعضاء جمهوريون وديمقراطيون في الكونجرس الأمريكي، في سبتمبر 2016، إلى إنشاء إقليم أو محافظة في سهل نينوى تضم الأقليات المسيحية والإيزيدية والشبكية بهدف ضمان حمايتهم.
ويُضاف إلى ذلك وجود مشروع تناوله عدد من سياسيي الموصل المحليين ونواب في البرلمان العراقي ومبعوث للإدارة الأمريكية السابقة إلى العراق، يتضمن تحويل الموصل وتوابعها إلى إقليم يتكون من 6 إلى 8 محافظات، أهمها: سنجار، وتلعفر، وسهل نينوى، وجنوب الموصل، ومخمور، وتكون مدينة الموصل المركز محافظة وحدها.
وسيُصاحب تطبيق هذه المشروعات والخطط -على اختلافها- عمليات انتقال من منطقة إلى أخرى، وتغيير ديمغرافي بسبب سيطرة مكونات معينة على هذه المحافظة، أو تلك من التقسيمات الجديدة.
ولكن هذه الخطط والمشاريع كان قد سبقها قرار لمجلس النواب العراقي في سبتمبر 2016 يقضي بالحفاظ على حدود الموصل ومحافظة نينوى بتقسيماتها الإدارية وفقًا لترسيم حدود ما قبل 2003، يُضاف إلى ذلك الرفض المحلي والوطني للممارسات التي تؤدي إلى تغيير التركيبة الديمغرافية لمدينة الموصل بشكل خاص ومحافظة نينوى بشكل عام.
أولويات ما بعد التحرير:
يُمثّل الحفاظ على التنوع الديمغرافي الذي تميزت به محافظة نينوى أحد أولويات ما بعد تحرير الموصل باعتبار التكوين السكاني في هذه المحافظة مثالاً على قبول الآخر والتنوع الإثني والقومي، ومعالجة الآثار السلبية والتداعيات التي خلّفتها مرحلة سيطرة "داعش" الوحشية على المدينة. ويتطلب الأمر التركيز على أولويات عدة، أهمها:
1- إعادة الإعمار: حيث يجب مباشرة عملية إعادة الإعمار لكل المدن والبلدان والقرى التي تعرضت للتخريب، وتوفير الخدمات ومتطلبات عودة الحياة، كما أن من الضروري تحقيق عودة آمنة لجميع النازحين إلى مناطقهم الأصلية.
2- المصالحة المجتمعية: يُعد تطبيق القانون المدخل الرئيسي الذي من خلاله يمكن تحقيق المصالحة المجتمعية؛ إذ إن من الضروري كخطوة أُولى تعويض المتضررين، وعدم السماح باللجوء إلى العمليات الثأرية التي تكثر عادةً بين العرقيات المختلفة، ووضع عددٍ من الآليات لإشراك مختلف المكونات المجتمعية في إدارة المحافظة وتقاسم السلطة، وضرورة معالجة مشكلة المناطق المتنازع عليها بالوسائل والآليات الدستورية والقانونية التي تضمن عودة السكان الأصليين، وتعويض المتضررين منهم والذين تم تجريف مساكنهم أو حرقها أو مصادرة ممتلكاتهم.
هذا بالتوازي مع تطبيق بعض البرامج التي تخفف من وطأة الآثار والأفكار التي تعرّض لها المجتمع الموصلي الذي عاش تحت سيطرة "داعش" ما يقرب من 3 سنوات.
3- الهوية الوطنية: يتطلب الحفاظ على التنوع والتعددية المجتمعية، لا سيما في المناطق المختلطة ديمغرافيًّا، ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، خاصة بعض المناطق ذات اللون الواحد التي تعرضت لتغيير التركيبة الديمغرافية، مما يُعزز الهويات فرعية على حساب الهوية الوطنية.
4- السلم المجتمعي: يتطلب ذلك حصر السلاح بيد أجهزة الدولة وتسليم الملف الأمني لقوات الأمن المحلي والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب، ومعالجة أزمة تعدد الميليشيات المسلحة التابعة للأقليات، خاصة تلك التي تشكلت أثناء سيطرة داعش على الموصل، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى خلق حالة من السلم والتعايش بين المكونات المجتمعية المختلفة.