أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

رؤية ألمانية:

سبل التحول للاقتصاد الأخضر دون الإضرار بسوق العمل

01 مارس، 2024


عرض: هبة محيي

مع الاتجاه العالمي المتصاعد للتحول إلى الاقتصاد الأخضر، بدا التحدي الرئيسي المطروح أمام الدول والحكومات هو كيفية التوفيق بين السياسات الاقتصادية التي سيتم اتباعها لبلوغ ذلك الهدف والظروف الاجتماعية والمناخية، بحيث يتم تقليص النتائج السلبية المحتملة لعملية التحول تلك على اقتصادات الدول والمجتمعات.

في هذا الإطار، تطرح مؤسسة بيرتلسمان البحثية رؤية ألمانية للتعامل مع هذا التحدي من خلال تقرير لها، تحت عنوان "التوظيف المستدام.. آثار التحول للاقتصاد الأخضر على سوق العمل". إذ يطرح التقرير سُبل واستراتيجيات التحول للاقتصاد الأخضر دون الإضرار بسوق العمل بقدر الإمكان، وأهم التدابير والإجراءات المطروحة حالياً لتحقيق ذلك الهدف، وصولاً إلى ذِكر أهم القطاعات الاقتصادية المتأثرة سلباً وإيجاباً من ناحية سوق العمل، ومن ثم التطرق إلى أبرز الاستنتاجات والتوصيات.

الاستدامة الشاملة:

استهل التقرير حديثه بأهمية اتباع ألمانيا لنظام اقتصاد السوق الاجتماعي لتدعيم مسيرتها نحو اقتصاد أكثر اخضراراً، بل والعمل على تكييف وتحديث ديناميكيات ذلك الاقتصاد ليُسهم في مواجهة التحديات المتنوعة المستحدثة. ويهدف اقتصاد السوق الاجتماعي إلى حماية حرية الاقتصاد والمنافسة الفعالة إلى جانب تعزيز الرخاء والضمان الاجتماعي. بيد أن هذا الاقتصاد يتعرض للعديد من التحديات المتضافرة في الآونة الأخيرة، كالتغير المناخي، ونضوب الموارد الطبيعية، وضآلة المتاح من القوة العاملة مستقبلاً، والتحول الرقمي، ولكي يتم الوصول إلى الهدف المنشود، يجب إدخال عنصر الاستدامة في هذا النموذج الاقتصادي. 

قد ينطوي نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي المستدام على تناقضات بين أبعاده المختلفة، الأمر الذي يدعو إلى أهمية وضع سياسات شاملة لتقليل التناقض بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بل والعمل على توفير سياسات تدعم حدوث التضافر بين الأبعاد المختلفة. ومن أبرز الأمثلة للتضارب، محاولة تحقيق التوازن بين الاستدامة البيئية والوصول إلى معدلات توظيف عالية، ولاسيما في قطاع الصناعة. فمن الناحية البيئية ستؤدي معدلات التوظيف العالية إلى تغير المناخ وتأثيراته المتعددة، مثل تهديد إمدادات المياه والغذاء. ومن ذلك، تنشأ المخاوف من أن التدابير الضرورية للحفاظ على الاستدامة البيئية قد تعرض الرفاهية والتوظيف للمخاطر.

عوامل مؤثرة:

ترتكز ألمانيا على تنويع مساراتها كي تصل إلى هدفها المنشود في التحول للاقتصاد الأخضر، إذ تُعنى باتخاذ العديد من التدابير والاهتمام بسرعة الشروع في تنفيذها، وفي الوقت ذاته تولي اهتماماً بنشر ودراسة التوقعات طويلة الأمد المترتبة على تنفيذ تلك المبادرات. ويتم إصدار هذه التوقعات كل عامين، لمناقشة ودراسة العوامل المختلفة التي ستؤثر في تحديث النموذج الاقتصادي، مثل: "الاقتصاد 4.0"، والتنقل الكهربائي، والحزمة المناخية، وتغييرات سلوك التنقل.

وفي منتصف عام 2022، تم إصدار النسخة السابعة من التوقعات، والتي انطلقت من دراسة أهم العوامل المحفزة للتحول الاقتصادي المنشود، وتتبع التدابير القائمة بالفعل، ومن ثم تطوير نموذج توقعي يهدف إلى قياس مدى تحقيق هدف الحياد الكربوني، وأهم التغييرات الهيكلية المتوقعة على سوق العمل. وأورد التقرير عِدة عوامل رئيسية يجب وضعها في الحسبان عند دراسة الموقف وذلك لتأثيرها المتوقع في الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية مجتمعة، على المدى الطويل، ومن أبرزها:

1- التحول لاستخدام الطاقة المتجددة كمصدر رئيس في القطاعات المختلفة، الأمر الذي حظي بزخم كبير في الآونة الأخيرة، نظراً للدعوات المتزايدة المنادية بالحد من العوامل المؤدية إلى التغيرات المناخية، كاستخدام الوقود الأحفوري، فضلاً عن اعتبار الطاقة النظيفة طاقة لا تنضب، وقد اكتسبت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أرضية متزايدة جديدة في الآونة الأخيرة.

2- قام البنك المركزي الأوروبي في 21 يوليو 2022 بزيادة سعر الفائدة لأول مرة منذ عام 2011؛ مما يؤدي تِباعاً إلى تعديل السلوك الاستهلاكي للدولة والقطاع العائلي، وكذا السلوك الاستثماري خاصة في قطاع البناء السكني الناتج عن التغير في تكاليف التمويل.

3- أدت الاضطرابات والحروب في العالم مثل حرب أوكرانيا إلى زيادة طويلة الأمد في الإنفاق المُوجه للتسليح بدلاً من استخدامه في أوجه استثمارية متنوعة.

4- يؤدي التحول نحو الزراعة العضوية إلى استخدام كميات أقل من السماد ومن ثم إنتاج منتجات غذائية نظيفة وصحية، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على العنصر البشري في الإنتاج، مما ينتج عنه تحقيق الأمن الغذائي مع الحفاظ على البيئة.

5- التكيُّف مع التغيرات المناخية بواسطة اتخاذ التدابير الوقائية، كأساليب الوقاية من الفيضانات.

تدابير اقتصادية:

ثمة ثلاثة أبعاد اقتصادية تعُد من أهم التدابير التي ينبغي اتباعها بحسب التقرير في عملية التحول للاقتصاد الأخضر، وهي:

1- اتفاقية التحالف: قام كل من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وتحالف 90/الخضر والحزب الديمقراطي الحر بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الألمانية بتكوين ائتلاف في عام 2021 لتحقيق الأهداف التالية: زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة والتنقل المستدام، وتعزيز الزراعة العضوية والاقتصاد التدويري.

2- التحول إلى التنقل المستدام: وذلك عن طريق الجهود المتواصلة الساعية لخلق نظام نقل صديق للبيئة ومستدام، عن طريق توفير البنية التحتية الممهدة للتحول، ودعم الحكومة لشركات النقل العام إذا تطلب الأمر.

3- الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين: إذ تم إقرارها عام 2020، واضطلعت هذه الاستراتيجية بإنشاء إطار عمل لإنتاج الهيدروجين المستقبلي، ونقله، واستخدامه وإعادة استخدامه لتوفير الإنتاج الطاقوي النظيف.

ولا تُعد هذه التدابير كافية لتحقيق الأهداف المزمع تحقيقها في التحول نحو الاقتصاد الأخضر، وهو ما سيتم تبيينه عند مناقشة النتائج المتوقعة.

الوظائف الخضراء:

يختلف أثر عملية التحول للاقتصاد الأخضر باختلاف القطاعات الاقتصادية، إذ قد تندثر تدريجياً بعض الوظائف أو القطاعات أو تتراجع نسبة العمالة المنسوبة إليها على أقل تقدير. على الجانب الآخر سيتم استحداث بعض القطاعات الأخرى التي تدعم عملية التحول، وقسَّم التقرير القطاعات إلى قسمين أحدهما رابح والآخر خاسر جراء التحول الأخضر ويمكن تفصيلهما كما يلي:

1- القطاعات الرابحة: من المتوقع أن تشهد العديد من الصناعات انتعاشاً جراء التحول للاقتصاد الأخضر، منها صناعة البناء، وما يتصل بها من صناعة مكاتب الهندسة المعمارية والهندسية؛ والفحوصات الفيزيائية والكيميائية، ويرجع ذلك إلى أن هذه الصناعات هي المسؤول الأول عن إنشاء وتطوير البنية التحتية الجديدة المسؤولة عن التوسع في الإنتاج الطاقوي المتجدد وتدعيم نظام النقل المستدام (وسائل النقل الخضراء).

ومن المتوقع أن تكون شركات تقنية المعلومات والخدمات المعلوماتية من الرابحين أيضاً، وذلك لارتكاز التحول الاجتماعي البيئي على التحول الرقمي المتقدم، وستؤدي التغيرات الهيكلية المتوقعة في سوق العمل وانتشار التحول الرقمي إلى تدعيم ونمو صناعة التعليم والتدريب، وذلك لضمان توفير العمالة الماهرة القادرة على مواكبة تلك التغيرات.

2- القطاعات الخاسرة: من المتوقع أن يشهد قطاع تصنيع السيارات، والصناعات التكاملية المتعلقة به، كصناعة محركات الاحتراق الداخلي، وتجارة السيارات، وصيانتها وإصلاحها هِزة عنيفة جراء التحول للاقتصاد الأخضر، بل من المحتمل اختفاء السيارات ذوات محركات الاحتراق الداخلي من الطرقات على المدى الطويل، وإحلال السيارات الكهربائية، ووسائل النقل الخضراء محلها.

من المرجح أيضاً أن تتأثر القطاعات ذات الاستهلاك الطاقوي الكثيف، مثل: صناعات الزجاج، والسيراميك، والمنتجات الكيميائية والمعادن واستخراجها، ويرجع ذلك إلى الارتفاع المتوقع في تكاليف التحول إلى استخدام الطاقة المتجددة، إلاّ أنه على المدى الطويل من المتوقع أن تشهد تلك الصناعات انتعاشة مرة أخرى عند خفض التكاليف المتعلقة باستخدام الطاقة المتجددة.

النتائج المتوقعة:

استنتج التقرير أن الأبعاد الثلاثة للاقتصاد الأخضر المنشود تؤثر وتتأثر ببعضها بعضاً، لذلك يجب إدراك أنه قد لا يمكن التوفيق في البداية بين الأهداف المختلفة للأبعاد الثلاثة، بل ويجب الاستعداد لتأجيل تحقيق بعض الأهداف الاجتماعية، وتحمل الآثار السلبية على سوق العمل، على أن يتم تحسين تلك الآثار باتخاذ تدابير وإجراءات جديدة فيما بعد، وفيما يلي أبرز الأهداف الاقتصادية وتوقعات دخولها حيز التنفيذ: 

1- هدف الحياد الكربوني: ذكر التقرير أن أحد أهم الأهداف القائمة هي وصول ألمانيا للحياد الكربوني بحلول عام 2045، إلا أنه إذا استمرت التدابير الموضوعة على نفس الوتيرة، ولم يحدث تغير في أي من الافتراضات أو العوامل المؤثرة، فإن الهدف المتمثل في تحقيق التوازن الصافي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري سيكون مصيره الفشل المُحقق، إذ من المتوقع أن يستمر الاعتماد على الوقود الأحفوري بنسبة 40% لتوفير الإنتاج الطاقوي المطلوب عام 2045.

2- توفير احتياجات سوق العمل: وفقاً للفرضيات الموضوعة والتدابير المتخذة، فمن المتوقع أن يتم توفير ما يقارب من 3.29 مليون وظيفة على مستوى الاقتصاد الألماني بحلول عام 2040، إلا أنه سيتم انتهاء ما يقارب من 3.89 مليون وظيفة في الوقت نفسه، ويُعزى ذلك إلى التغير الهيكلي في سوق العمل الناتج عن التحول من قطاع الصناعة التحويلية إلى المزيد من الخدمات، وعملية التغيرات الديمغرافية، وزيادة التكنولوجيا الرقمية، والتي ستؤدي بدورها إلى خفض نسبة عنصر العمل المطلوب لإنجاح العملية الاقتصادية.

ختاماً، أوصى التقرير بالعديد من التدابير التي تخفف حِدة الآثار السلبية للتحول للاقتصاد الأخضر على سوق العمل منها، الاعتناء بخلق المزيد من فرص العمل في القطاعات الاقتصادية المستحدثة، وعدم الاعتماد الكلي على الرقمنة، أو استخدام الذكاء الصناعي، كبديل للعنصر البشري في العملية الإنتاجية، والاستثمار المكثف في مجال التعليم والتدريب، وبخاصة تطوير التعليم المهني، الذي يجمع بين النظرية والممارسة، إذ تعرض هذا النوع من التعليم للإهمال للعديد من السنوات إلى أن تفاقم الوضع بعد جائحة "كورونا". ويُعد الهدف الرئيس هنا هو توفير الكفاءات العلمية المطلوبة، وتوفير ظروف عمل ملائمة، من شأنها تأجيل عملية الانسحاب المبكر لكبار السن من الحياة العملية، مع العمل أيضاً على تعزيز مسارات التطور الوظيفي للنساء ودعم التدابير والمبادرات التي تعزز تمكين المرأة، واتباع سياسات نشطة لتسهيل هجرة العمالة الماهرة، وتوفير التدريب الملائم، وسرعة إدماج الوافدين الجدد، للإفادة من مؤهلاتهم.

المصدر:

Bertelsmann Stiftung, Arbeitsmarkteffekte der grünen Transformation, 2023.