أخبار المركز
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)
  • بهاء محمود يكتب: (ضغوط ترامب: كيف يُعمق عدم استقرار حكومتي ألمانيا وفرنسا المأزق الأوروبي؟)
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)

العرب وثقافة «السوشال ميديا»

11 يوليو، 2018


تأثيرات السوشال ميديا في حياة الأفراد والمجتمعات صارت مجالاً لاهتمام البحوث والدراسات الأجنبية والعربية. ورغم كثرة وتنوع هذه البحوث، فإنها لم تتطرق في شكل مستقل ومعمّق إلى ثقافة السوشال ميديا نفسها، بمعنى القيم والاتجاهات والسلوكيات التي ارتبطت بها أو نتجت عنها؛ أو بعبارة أوضح التأثيرات المتبادلة بين الثقافة والسوشال ميديا من جهة، والسوشال ميديا ذاتها كثقافة من جهة ثانية، وذلك على رغم الأهمية القصوى لكل منهما.

هذه الأهمية أكدّتها بحوث خلصت إلى أن «فايسبوك» و «تويتر» و «واتس آب» و «إنستغرام» وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، خلقت فضاءً جديداً، مبهراً ومحيراً، عالماً جديداً موزاياً للعالم القائم، لكن هذا الفضاء الجديد مضطرب ومسكون بالتوتر والتمرد والصراع، لأنه يتحدى العالم الحقيقي الموروث ويحاول تغييره أحياناً أو تحديه، بدرجات مختلفة وبحسب طبيعة كل مجتمع وثقافته وما يتيحه من حريات لأفراده، خصوصاً حرية الرأي والتعبير. في هذا السياق، يمكن القول إن فضاء السوشال ميديا العربية محافظ وتقليدي إلى حد كبير، مقارنة بفضاء مجتمعات أكثر ديموقراطية وتسامحاً مع الآراء النقدية أو الخارجة عن السياق العام للثقافة والمجتمع. والفرضية التي أطرحها هنا هي أن السوشال ميديا فرضت نفسها على الثقافة والمجتمعات العربية كحتمية تكنولولوجية مرتبطة بالعولمة لكنها لم تذهب بعيداً في خلق فضاء جديد أكثر حرية وقدرة على ممارسة النقد والتمرد، لأسباب سياسية وثقافية. صحيح أنه حدث بعض التمرد والصراع ارتبط بمناخ الربيع العربي، لكن فضاء أو عالم السوشال ميديا العربي بدا في مجمله كامتداد طبيعي للواقع العربي القائم، والممارسات الثقافية والسياسية السائدة.

وهناك كثير من البحوث والدراسات العربية تؤيد الفرضية التي أطرحها هنا، فقد هيمنت الخطابات الدينية والاهتمام بالخرافة والجنس وكرة القدم والترفيه وكل ما هو غريب وشيق على الفضاء العربي، وتراجع الاهتمام بالسياسة والثقافة، وافتقر فضاء العرب الإلكتروني للتمرد والصراع، كما افتقر لقيم التسامح والحوار العقلاني وسادت سلوكيات الاستبعاد ومنح الإعجاب «اللايكات» والمشاركات «الشير» والتعليقات من باب المجاملة أو التملق والرشوة الاجتماعية. في المقابل، ظهرت تعليقات ورموز عدوانية تمارس السب أو القذف ضد الآخر المختلف معه، ولا تناقشه وإنما تحاول نفيه أو استبعاده من عالم السوشال ميديا أو فضاء الحريات الافتراضي، تماماً كما يحدث في أرض الواقع.

القصد أن الممارسات الثقافية وتقاليد الحوار العربي– العربي انتقلت من ثقافة الواقع العربي الفعلي إلى الفضاء الافتراضي الجديد، والذي كان يفترض أن يكون أكثر حرية وقدرة على قبول الآخر وممارسة الاختلاف. هكذا أضعنا فرصة أتاحتها لنا تكنولوجيا الاتصال وثورة الإنترنت للقبول بالتنوع والتعدد وممارسة الاختلاف، ومارسَ العرب بغالبيتهم ما تربوا عليه من تابوهات، ومن رفض وإدانة لكل الآراء الغريبة أو النقدية، والتزموا ثقافة القطيع والتسليم بكل ما هو قائم وعدم مناقشة البديهات أو الأسس التي يقوم عليها المجتمع، وقد يكون بعضها غير صحيح أو غير متوائم مع متغيرات القرن الواحد والعشرين. لقد أعاد معظم العرب إنتاج أنفسهم عبر السوشيال ميديا، حيث اقتصروا على ضم أصدقاء متفقين معهم في الفكر والسلوك، واستبعدوا أو طردوا من قوائم الصداقة أو المتابعة كل من يعارض أفكارهم أو مواقفهم السياسية، وبالطبع اقتصرت تفاعلاتهم وتعليقاتهم على هؤلاء المشابهين لهم في الصورة والفكر والسلوك.

أما إذا مارسَ بعض العرب، بخاصة الشباب فضيلة الاختلاف والنقاش حول إحدى القضايا، فإنه يظل خاضعاً لقيود الثقافة السائدة، ومع ذلك يتحول مضمون ولغة النقاش والتعليقات إلى معارك كلامية تستخدم فيها شتائم وألفاظ خارجة تسيء للمشاركين ولفكرة الحوار نفسه ولا تشجع الآخرين على المناقشة أو التعليق. أعتقد أن الثقافة التقليدية تحوّلت عبر فضاء السوشيال ميديا إلى سلطة للمنع أو العقاب ما يحد من حرية التنوع والنقد والاختلاف. من هنا، قد يلجأ أصحاب الآراء النقدية أو المتمردة إلى خلق عوالم افتراضية موازية خاصة بهم، ما يقود في شكل ما إلى إعادة إنتاج أنفسهم، ومع ذلك فإن هؤلاء قد يتعرضون لأنواع أخرى من الرقابة الحكومية التي تمنعهم أو تحد من حريتهم في التعبير عن أنفسهم.

خلاصة القول تسود الثقافة التقليدية فضاء السوشال ميديا العربي، وتعمم وتنشر أمراضها وتناقضاتها، وسأكتفي هنا بالتوقف عند أربع ظواهر مرضية:

الظاهرة الأولى: مثقف السوشال ميديا، والذي يدعي المعرفة والعلم ويمارس الاستعلاء الثقافي على الآخرين من خلال نقل ونشر بعض الحكم والأقوال المترجمة المعززة بصور أو فيديوهات، والتي ينسبها لنفسه من دون وجه حق، والأهم من دون معرفة حقيقية بخلفية ما ينقله أو حتى حقيقته، فكثير مما ينقل ويتداول يفتقر للدقة والصدقية، ولكن سلطة الأرقام التي ينقلها وكثرتها، والمنطق الشكلي في ما ينقل من نصوص، ثم روعه ودقة الصور. كل ذلك يخيف معظم المتلقين، ويدفعهم إلى التصديق ونقل ما يرد إليهم من دون فهم أو تبصر، لاسيما وأن غالبيتهم تتعامل مع السوشال ميديا من باب التسلية وقضاء أوقات الفراغ، وبالتالي لا يهتم أصلاً بتدقيق ما ورد إليه، ويبادر ومن باب التباهي أمام الأصدقاء أو إثبات الحضور في منصات السوشال ميديا إلى نقل ما ورد إليه. ويذكرني مثقف السوشال ميديا المعاصر بظاهرة «المثقف بالسماع «، والتي تعاني منها الثقافة العربية، إذ يمكن أن تقابل بعض أدعياء الثقافة الذين لم يقرأوا كتاباً حديثاً، ولكنهم قادرون على نقل أفكار الآخرين ونسبتها إلى أنفسهم، علاوة على الإشارة إلى عديد من عناوين الكتب وأسماء المؤلفين الأجانب الذين لم يطلعوا عليها، ولكنهم حرصوا على حفظها وتردادها، للظهور بمظهور المثقف المتابع.

الظاهرة الثانية: تعميم الازدواجية الثقافية، ثمة اتفاق واسع على أن الازدواجية تعتبر أحد أهم أمراض الثقافية العربية، والمثقفين، وقد نتجت عن أسباب كثيرة لا يتسع المجال لها، لكن هذه الازدواجية انتشرت وعممت على نطاق أوسع عبر فضاء السوشال ميديا، واتخذت أشكالاً جديدة، بداية من الاختفاء الوهمي وراء أسماء غير حقيقية واكتساب أكثر هوية، وأكثر من صورة، ثم استخدام بعض هذه الهويات في كتابة أو نشر صور وأفلام ذات مضامين متناقضة، وقد يعبر فيها الشخص نفسه عن آراء بعيدة تماماً عما يمارسه في أرض الواقع أو يدافع عنه، ما يؤكد الازدواجية في التفكير والسلوك في الثقافة العربية، وانتشارها عبر منصّات السوشال ميديا.

الظاهرة الثالثة: السلبية والهروب من الواقع والانغماس في الحياة الافتراضية. تؤكد كثير من الدراسات العربية أن طقوس الانغماس في العوالم الافتراضية للسوشال ميديا تمثل نوعاً من الهروب من قسوة الواقع ومحاولة زائفة لبناء واقع أفضل، يمكن أن يحقق فيه الأفراد بعضاً من أحلامهم، وينشروا أفكارهم، لكن هذا النشاط الحالم والافتراضي غالباً ما يكون على حساب قدرتهم على المشاركة المجتمعية والقيام بأعمال حقيقية لتحسين واقعهم الحقيقي، إذ يكتفون بفعل الكتابة أو نقل صور وأفلام، ما يؤدي فعلياً إلى نوع من الهروب أو السلبية، ويذكرني هذا الانسحاب السلبي بالموقف التقليدي لبعض المثقفين عندما يعزلون أنفسهم عن المجتمع وحركة الواقع وينظرون إلى الأحداث، من خلال صفحات الكتب التي يحبسون أنفسهم فيها. هكذا حبس نشطاء السوشال ميديا أنفسهم في العالم الافتراضي كما حبس أسلافهم من المثقفين والمناضلين أنفسهم في الكتب والأيديولوجيات القديمة.

الظاهرة الرابعة: المظهرية وهوس الانتشار والشهرة. انتشرت هذه الأمراض الموروثة في ثقافتنا عبر السوشال ميديا، وصارت للأسف من بين أهم آليات التفاعل والنشاط ، فهناك طلب متنامٍ على الشهرة، والظهور، وهي أمور أصبحت تتطلب مجهوداً كبيراً أو تحقيق إنجاز علمي أو أدبي، لأن كل المطلوب هو حضور نشط عبر السوشال ميديا، وبحث ونشر كثيف لكل ما هو غريب وطريف ومثير، ما يحقق مشاركات أو ليكات أكثر، وهي مؤشرات تحصى بدقة وتنشر، وكلما ارتفعت الأرقام يشعر الشخص بأهمية وشهرة وقتية. والمشكلة أن المظهرية وهوس الشهرة دفعت البعض لنشر كلام وصور والإتيان بأفعال تتعارض تماماً مع قيم وتقاليد الثقافة العربية، كما تتعارض في الوقت ذاته مع احترام حقوق الإنسان والحريات العامة.

*نقلا عن صحيفة الحياة