أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

"البراجماتية الصريحة":

تحولات إدارة "ترامب" نحو "التوظيف العقابي" للمساعدات الخارجية

23 يناير، 2018


استخدمت أغلب الإدارات الأمريكية المتعاقبة (جمهورية وديمقراطية) أداة المساعدات الخارجية في تحقيق ثلاثة أهداف مركزية للمانح الأكبر في العالم، أولها تحقيق المصلحة والأمن القومي الأمريكي عبر جذب الحلفاء الجيوسياسيين، وثانيها خدمة الأهداف الاقتصادية المتعلقة بدعم الصادرات وبناء أسواق المستهلكين، وآخرها يتعلق بالبعد الإنساني والتنموي. ويتسق هذا الهدف مع توجهات المدرسة الأخلاقية في السياسة الأمريكية. لكن هذا لم يمنعها من استخدام المساعدات كأداة ضغط على الدول المتلقية لها للضغط عليها، أو معاقبة تلك الدول في حال تبنيها سياسة تعارض توجهات السياسة الأمريكية، أو قيم ومبادئ الولايات المتحدة.

وفي هذا الشأن، شرع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في استخدام المساعدات الخارجية كأداة لمعاقبة الدول التي تُعارض السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فعقب الحملة الدولية ضد إعلانه في السادس من ديسمبر الماضي بأن القدس عاصمة للدولة الإسرائيلية، وتوجيهه لنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، بالأمم المتحدة، هدد "ترامب" بتقليص المساعدات الخارجية للدول التي تعارض الإعلان الأمريكي. وفي محاولة للضغط على السلطة الفلسطينية للقبول بتسوية الإدارة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في السادس عشر من يناير الجاري خفض مساعدات الولايات المتحدة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). 

ووفقًا للأرقام الرسمية، ونقلًا عن تقرير لخدمة أبحاث الكونجرس في عام 2016، حظيت دول منطقة الشرق الأوسط بنصيب الأسد من المساعدات الخارجية الأمريكية، حيث تعد المتلقي الأكبر لها مقارنةً بأي منطقة أخرى في العالم؛ حيث حصلت أفغانستان على 5.4 مليارات دولار، وإسرائيل على 3.1 مليارات دولار، والعراق على مساعدات قدرها 1.8 مليار دولار، والأردن على 1.08 مليار دولار. ولهذا فإن إعادة إدارة الرئيس "ترامب" النظر في سياسات المساعدة الخارجية يجعل دول المنطقة الأكثر عرضة للتأثر.

مشروطية المساعدات:

اهتمّت الأدبيات التي تدرس المساعدات الأمريكية الخارجية كثيرًا باختبار العلاقة بينها وخطاب "المشروطية الأخلاقي"؛ حيث ربط الخطاب التقليدي للإدارات الأمريكية بمنح المساعدات بتبني المتلقي إصلاحات داخلية واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الفساد وغيرها من القيم التي أسست عليها الدولة الأمريكية، وهو المبدأ الذي أُحيط -في كثيرٍ من الأحايين- لدى الكثيرين بحالة من التشكك، والاتهام بكونه لا يعدو مجرد خطاب للمفاوضة لصالح مكاسب براجماتية أخرى. 

بيد أن صعود الرئيس الأمريكي ترامب إلى الحكم، وميله إلى التحرر من لغة الانضباط السياسي Political Correctness يكشف عن بُعدٍ جديدٍ في الخطاب السياسي الأمريكي يُضفي تلازمًا واضحًا بين المشروطية والبراجماتية السياسية دون مواراة؛ أي مشروطية التزام المتلقي للمساعدات بالمصالح الأمريكية، ودعم أولويات السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل واضح دون مواءمة أو حتى صيغ وسطى، وهو ما تُؤكد عليه الكثير من خطابات الإدارة مؤخرًا، خاصة تهديداتها الضمنية بقطع المساعدات عن الدول التي دعمت التصويت على قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واتخاذ قرارات فعلية نحو وقف مساعدات لكل من باكستان وفلسطين مطلع ومنتصف هذا الشهر.

أسباب التقليص:

يرتبط المنطق الحاكم والمتوقع لفكرة المساعدات الأمريكية لعددٍ من دول المنطقة وفق منطق المشروطية الواقعية Realist Conditionality في جوهره بمحددات أعَم لدى إدارة "ترامب" فيما يتعلق بتوجيه المساعدات الخارجية، ووضعها الداخلي، واستراتيجياتها تجاه المنطقة، وهي تتمثل فيما يلي:

1-شعار "أمريكا أولًا America first": لا يمكن فصل تهديدات وقرارات إدارة "ترامب" بقطع أو تقليص المساعدات عن دولة بالمنطقة عن توجه عام لديها نحو تقليص جملة المساعدات الخارجية ككل. وهو توجه برزت ملامحه في تصريحات "ترامب" المرشح الرئاسي صاحب التوجهات الانعزالية أثناء حملته الانتخابية، والتي ضمنت بشكل واضح في تصور إدارته للموازنة الأمريكية الذي صِيغ تحت عنوان "أمريكا أولًا"، حيث تمت الإشارة صراحة إلى سعي الموازنة الجديدة "للحد من المساعدات الخارجية لإعطاء المساحة للأولويات الحرجة في الداخل، وجعل أمريكا أولًا"، و"خفض أو إنهاء التمويل المباشر للمنظمات الدولية التي لا تؤدي مهمات لصالح تعزيز مصالح الولايات المتحدة في السياسة الخارجية". 

ولهذا، فقد حدد مشروع الموازنة ثلاثة عشر هدفًا، من ضمنها: تقليص التمويل الأمريكي للأمم المتحدة، والمنظمات التابعة، ومهام حفظ السلام. ووقف مخصصات التغيير المناخي التي تبناها الرئيس السابق "باراك أوباما"، وبرامج مساعدات اللاجئين. وتقليص مخصصات برامج التبادل العلمي، وتمويل البنوك الدولية التنموية، بالإضافة لتحويل بعض المساعدات العسكرية لبعض الدول من منح إلى قروض لدعم مشتريات السلاح الأمريكي، وإعادة تركيز المساعدات بالأساس لصالح الدول التي تمثل "أهمية استراتيجية قُصوى للولايات المتحدة الأمريكية".

2-شعبوية القرارات وضغوط الداخل: في ظل صعوبات يُواجهها الرئيس الأمريكي في الداخل على خلفية مسار التحقيقات حول مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، والتبعات الداخلية المحتملة لتلك التحقيقات، بالإضافة إلى ما تكشفه استطلاعات الرأي حول انخفاض واضح في شعبية "ترامب" في أقل من عام مقارنة بمن سبقوه، وتوالي القلق حول الصراعات داخل إدارته.

 ويبدو أن الرئيس الأمريكي كان ولا يزال في حاجة إلى اتخاذ أو التلويح بمزيدٍ من الإجراءات الشعبوية التي تُخاطب قطاعات داخلية ذات مزاج قومي، وأخرى قلقة من وطأة الضغوطات الاقتصادية في ظل اعتقاد لدى الأمريكيين بأن المساعدات الخارجية تُمثل 25% من الإنفاق الفيدرالي. وإن كانت نسبتها لا تُشكِّل في الحقيقة سوى ما يقرب من 1.3% من الميزانية الفيدرالية.

ووفقًا للتوجهات العامة السابقة، فقد سارت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة على نفس المنوال تجاه منطقة الشرق الأوسط بتأكيدها على دعم المساعدات الأمريكية المصالح الوطنية للولايات المتحدة بإعطاء الأولوية للشركاء المؤيدين للمصلحة والأمن القومي الأمريكي.

حالتا باكستان وفلسطين:

تُمثِّل علاقات الولايات المتحدة مع باكستان وإسرائيل، وموقفها من القضية الفلسطينية؛ نموذجًا واضحًا للمواقف الحدية لإدارة الرئيس "دونالد ترامب" فيما يتعلق برؤيتها للمصالح الاستراتيجية، والأمن القومي الأمريكي في الخارج، وهي تصورات تكشف عن اعتبارات السياسة الواقعية المجردة، ومبدأ البراجماتية، واعتبارات أيديولوجية يمينية للإدارة الأمريكية.

 ويمكن فهم قراري الإدارة في الرابع والسادس عشر من يناير الجاري، بتعليق مساعدات أمنية لباكستان، وتجميد إرسال 65 مليون دولار من المبالغ المرصودة مسبقًا لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على النحو التالي:

1-معاقبة ازدواجية باكستان: منذ قرار الولايات المتحددة غزو أفغانستان في أكتوبر 2001، وسعيها للإطاحة بنظام طالبان في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، مثّلت إسلام أباد حليفًا هامًّا لواشنطن في الحرب على الإرهاب. وقد حصلت باكستان على مليارات الدولارات من المساعدات الأمريكية في المقابل. غير أن الولايات المتحدة كثيرًا ما تشككت في جدية ونوايا باكستان لاحقًا كشريك جاد في تلك الحرب يقوم بدور مزدوج يحصل بموجبه على المساعدات الأمريكية بينما في الحقيقة يدعم حركة طالبان وشبكة حقاني المتطرفة مما يحول دون استقرار الأوضاع في أفغانستان. ولهذا، فقد علّقت إدارة "أوباما" 800 مليون دولار كمساعدات لباكستان في عام 2011، وحجبت نحو 350 مليون دولار في عام 2016. 

وفي تحول نحو سياسات واقعية أكثر حدية، وبخلاف "التصعيد الخطابي" لـ"دونالد ترامب" في تغريدته التي قال فيها: "الولايات المتحدة قدمت لباكستان أكثر من 33 مليار دولار كمساعدات على مدى الخمسة عشر عامًا الماضية، ولم تُعطنا أي شيء سوى الكذب والخداع"، كشفت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي عن المنطق ذاته المحيط بقرار الرئيس الأمريكي بتجميد المساعدات الأمريكية لباكستان، وفق "أولويات الفعل الأمريكي" سياسيًّا في منطقة جنوب ووسط آسيا الذي تحدده الوثيقة عبر اتجاهها لتوسيع الشراكة الاستراتيجية مع الهند، وإسناد دور قيادي لها "في جميع أنحاء المنطقة الأوسع" فيما يبدو على حساب إسلام أباد العدو التاريخي لنيودلهي. 

وتؤكد الاستراتيجية ذاتها أهمية الضغط على باكستان "لتكثيف جهودها لمكافحة الإرهاب، والسعي كي "لا تشارك في سلوك مزعزع للاستقرار"، وربط الدعم الاقتصادي والأمني لها باتخاذها "إجراءات حاسمة ضد الجماعات المسلحة والإرهابية التي تعمل من داخل أراضيها".

2-إسرائيل أولًا: لم تُخفِ الإدارة الأمريكية الجديدة توجهاتها المنحازة لصالح إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين. وقد بدا هذا التوجه قبل تَسلُّم الرئيس ترامب مهام منصبه رسميًّا في العشرين من يناير 2017، حيث تعهد كمرشح بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومع توليه مهامه اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووجّه ببدء إجراءات نقل السفارة الأمريكية للقدس، ثم استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار لإدانة نقل الدول سفاراتها إلى تل أبيب في ديسمبر الماضي، والتهديدات الضمنية له وسفيرته لدى الأمم المتحدة "نيكي هايلي" بقطع المعونات عن الدول التي ستصوت لصالح قرار مماثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة. 

وفي الثالث من يناير الجاري هدد الرئيس الأمريكي بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية حينما قال في تغريدة له: "نحن ندفع للفلسطينيين مئات الملايين من الدولارات سنويًّا... طالما أن الفلسطينيين ما عادوا يريدون التفاوض على السلام، لماذا ينبغي علينا أن نسدد لهم أيًّا من هذه المدفوعات المستقبلية الضخمة؟".

وتؤكد استراتيجية الأمن القومي الجديدة وبشكل واضح المنطق ذاته، حيث أعطت الأولوية في المنطقة للحرب على الإرهاب، ومواجهة إيران، في الوقت الذي نفت فيه أن يكون النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي سببًا لعدم استقرار المنطقة بقولها: "على مدى أجيال كان الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين يُفهم على أنه المهدد الرئيسي الذي يمنع السلام والازدهار في المنطقة. واليوم، فإن التهديدات التي تشكلها المنظمات الإرهابية الجهادية، والتهديد الذي تشكله إيران؛ تخلق إدراكًا بأن إسرائيل ليست سببًا لمشاكل المنطقة".

خلاصة القول.. على الرغم مما يبدو سلوكًا براجماتيًّا في ربط المساعدات الأمريكية للدول بمدى التزامها بتحقيق المصالح، وتوجهات السياسية الخارجية الأمريكية بشكل واضح ومباشر، فإنه ووفقًا للمنطق الواقعي ذاته، قد تؤدي الحدية أو الإسراف في استخدام الإدارة الأمريكية لتلك الأداة ضد بعض الدول إلى تأثير عكسي نقيض للمصلحة الأمريكية، بميل الدول المُعَاقَبة إلى البحث عن تحالفات واقعية جديدة مع أطراف أخرى تسعى لتوسيع دوائر نفوذها في المنطقة والعالم وفق المنطق الواقعي ذاته، وحرمان الولايات المتحدة من ميزات استراتيجية نسبية للعلاقة بتلك الدول في سبيل تحقيق مصالحها، وكل هذا في وقت يتسم فيه النظام الدولي بحالة من عدم اليقين، وسعي دولٍ أخرى إلى التأثير في مجريات السياسة الدولية والإقليمية على عكس المصلحة الأمريكية