تبذل تركيا جهودًا حثيثة في الآونة الأخيرة بهدف دعم قدراتها الإنتاجية المحلية من النفط والغاز الطبيعي، لتلبية احتياجاتها من الطاقة. وتواجه أنقرة معضلة مستمرة في السنوات الماضية تتمثل في الاعتماد على الواردات بدرجة كبيرة لتأمين الطاقة، وهو ما ساهم في تحويل هذه القضية إلى محدد رئيسي في السياسة الخارجية التركية، ودفعها إلى التقارب مع المصدرين الرئيسيين للغاز الطبيعي، وفي مقدمتهم روسيا.
وفي السنوات الماضية، شهد قطاع النفط والغاز الطبيعي التركي نشاطًا كبيرًا في عمليات الاستكشاف والتنقيب في جنوب شرق البلاد، وهو ما أسفر عن اكتشاف الشركات الأجنبية لاحتياطيات هائلة من الغاز الصخري بالقرب من محافظة ديار بكر. وفي خطوة إضافية، كثفت الحكومة في الآونة الأخيرة استكشاف موارد النفط والغاز بالبحر الأسود والبحر المتوسط.
ويطرح التوجه السابق دلالات رئيسية ثلاث: يتصل أولها، برغبة أنقرة في تعزيز نفوذها دوليًا، ولا سيما مع احتمالات تحول أولويات الاستثمار العالمي لصالح هاتين المنطقتين الاستراتيجيتين. وينصرف ثانيهما، إلى حرصها على تقليل الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج المحلي. ويتمثل ثالثها، في محاصرة جهود قبرص اليونانية في إنتاج واستكشاف الغاز بالبحر المتوسط. ورغم ذلك، فإن الجهود التركية عامة في عمليات تطوير الاستكشاف قد تواجهها صعوبات تتعلق بتباطؤ وتيرة الاستثمار، إما لتراجع أسعار النفط أو لارتفاع المخاطر الجيوسياسية.
إجراءات مكثفة:
تسعى تركيا إلى زيادة قدراتها الإنتاجية من النفط والغاز. ووفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، فإن احتياطيات النفط المؤكدة في تركيا لا زالت محدودة ولا تتجاوز 312 مليون برميل، وهو ما انعكس في ضآلة حجم إنتاجها من النفط، والذي بلغ 62 ألف برميل يوميًا في عام 2015. كما أن احتياطياتها من الغاز الطبيعي بلغت 177 مليار قدم مكعب، لتنتج كميات صغيرة سنويًا بلغت في عام 2015 نحو 14 مليار قدم مكعب.
ورغم الآفاق المحدودة لقطاع النفط التركي، إلا أن الاحتياطيات الكبيرة من النفط والغاز الطبيعي بالدول المجاورة لها أغرت تركيا لمواصلة جهود التنقيب عن الموارد النفطية. وفي الغرب، في بحر إيجه والبحر الأيوني، تقدر الاحتياطيات النفطية بنحو 26 مليار برميل من النفط في المياه اليونانية. فيما تبدو احتياطيات الغاز الطبيعي واعدة للغاية في جنوبها في قبرص ولبنان وإسرائيل. وكذلك في الشمال، حققت أذربيجان نتائج جيدة في التنقيب عن الغاز في البحر الأسود.
وبتشجيع من الحكومة التركية، بدأت العديد من الشركات المحلية والأجنبية في زيادة أنشطة التنقيب والاستكشاف في مناطق مختلفة بتركيا، لا سيما بجنوب شرق البلاد بالقرب من حدود العراق وإيران وسوريا، حيث تحوي احتياطيات نفطية محتملة. ومنذ بداية عام 2012، قامت شركة "رويال داتش شل" بالتعاون مع شركة النفط التركية المملوكة للحكومة بعملية الاستكشاف والبحث عن الغاز في الأناضول، ولتساهم مع شركات أخرى في استكشاف نحو 100 بئر نفطي حتى الآن.
ووفق المنظمة التركية لعلماء جيولوجيا البترول، فإن لدى تركيا أيضًا احتياطيات واعدة من الغاز الصخري تتركز في حوض تراقيا شمال غرب البلاد وفي منطقة جنوب ووسط الأناضول بكميات تصل إلى 13 تريليون متر مكعب، إلا أن القابل للاستخراج منها 1.3 تريليون متر مكعب، وهو ما دفع العديد من الشركات النفطية لاستغلالها. وفي هذا الإطار، بدأت شركة "رويال داتش شل" بالشراكة مع شركة النفط التركية في عام 2013 عملياتها الإنتاجية من حقل الغاز "سانبوغداي -1" بالقرب من ديار بكر في الجنوب الشرقي باحتياطيات تصل إلى 6 مليار متر مكعب من الغاز الصخري.
وبخلاف المناطق السابقة، اتجهت تركيا في العامين الماضيين إلى استكشاف موارد النفط والغاز بالمياه الإقليمية بالبحر الأسود، حيث تشاركت شركة "شل" الهولندية وشركة النفط التركية في عام 2015 لزيادة عمليات استكشاف النفط والغاز في غرب البحر الأسود باستثمارات قدرت وقتها بنحو 296 مليون دولار.
وفي خطوة أخرى، بدأت تركيا، في إبريل 2017، التنقيب عن موارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط عبر سفينة تنقيب تركية. ومن المقرر بحسب وزير الطاقة والموارد الطبيعية بيرات البيرق أن تواصل الحكومة جهودها للتنقيب في المياه الإقليمية بالبحرين الأسود والمتوسط، حيث قال في الشهر ذاته: "سنشتري خلال العام الجاري سفينة للتنقيب بشكل فعال مرتين سنويًا في البحر الأسود، ومرتين أيضًا في البحر المتوسط".
أهداف متعددة:
تحاول تركيا من خلال مواصلة عمليات الاستكشاف والتنقيب عن النفط في البحر المتوسط والبحر الأسود تحقيق أهداف عديدة تتمثل في:
1- تعزيز النفوذ العالمي: تأتي المساعي الحالية لتركيا للاستفادة من موارد الطاقة المتاحة في شرق البحر المتوسط والبحر الأسود في إطار الاستراتيجية التي وضعتها الدولة للتحول إلى مركز دولي للطاقة، حيث تتعاون حاليًا مع دول مثل روسيا وأذربيجان لإتمام مشروع "السيل التركي" و"التاناب" على التوالي لنقل الغاز للأراضي الأوروبية.
2- تلبية الطلب المتزايد: من دون شك، فإن تحقيق تركيا تقدم في عمليات إنتاج النفط أو الغاز الطبيعي سيقلل من الفجوة الحالية بين الاستهلاك والإنتاج المحلي. وحاليًا، لا تلبي المصادر المحلية سوى 26% من احتياجاتها الكلية من الطاقة. ووفق تقديرات شركة "بريتش بتروليوم"، فقد بلغت الكميات المستهلكة من الطاقة في تركيا نحو 137.9 مليون طن مكافئ نفط في عام 2016 وبزيادة 4.5% عن مستويات عام 2015 الذي بلغت فيه 131.9 مليون طن مكافئ نفط. ومستقبلاً سيتزايد الطلب على الوقود بدرجة أكبر، وعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أن الطلب على الغاز سيصل إلى 81 مليار متر مكعب في عام 2030 مقابل 45 مليار متر مكعب في عام 2012.
3-مواجهة المنافسين: يوجه تكثيف تركيا لعمليات التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط إشارات واضحة لقبرص اليونانية بأن لديها مصالح على غرار الأخيرة في استكشاف موارد منطقة شرق البحر المتوسط. وقد مارست تركيا، في يوليو 2017، ضغوطًا على قبرص لإثناء شركة "توتال" الفرنسية عن حفر آبار للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص. وفي هذا السياق، أرسل الجيش التركي، في 13 يوليو، سفينتين وغواصة لمراقبة سفينة الحفر التابعة للشركة، فيما قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، في 20 يوليو، أن أنقرة ستواصل حماية حقوق ومصالح القبارصة الأتراك.
صعوبات محتملة:
ربما تساهم جهود تركيا المستمرة لزيادة عمليات الاستكشاف والتنقيب في تزايد احتمالات وجود احتياطيات مؤكدة وقابلة للاستغلال التجاري من النفط والغاز الطبيعي، ولا سيما بالبحر المتوسط والبحر الأسود. بيد أن تلك الجهود قد تواجه تحديات عديدة: يتمثل أولها، في المخاطر الجيوسياسية التي تنطوي على التنقيب في البحر المتوسط، لا سيما في ظل النزاع مع قبرص اليونانية، حيث ربما تصبح الشركات أقل استعدادًا للاستثمار قبالة سواحلهما.
وينصرف ثانيها، إلى تراجع الأسعار العالمية للنفط، والذي أبطأ من وتيرة مشاريع التنقيب والإنتاج عالميًا، حيث تشير تقديرات منظمة "أوبك" إلى أن الاستثمارت تراجعت في العامين الماضيين أكثر من 300 مليار دولار، يضاف إلى ذلك أن المؤشرات الأولية لخصائص آبار النفط والغاز التركية تحتوي على نسبة عالية من الكبريت وهو ما سيزيد من تكاليف الاستثمار. ويتصل ثالثها، بصعوبة الاستثمار في مناطق جنوب شرق البلاد، ولا سيما في ظل المواجهة العسكرية المتصاعدة مع حزب العمال الكردستاني.
وختامًا، يمكن القول إن تركيا باتت على عتبة مرحلة جديدة في تطوير قطاع الطاقة لديها بغرض تحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية عديدة، بيد أن جهودها من أجل تحقيق ذلك ستواجه صعوبات مختلفة بسبب البيئة العالمية غير المستقرة للنفط، فضلا عن ارتفاع المخاطر الجيوسياسية للاستثمار.