أعلن الحرس الثوري الإيراني، الجمعة 27 مايو، احتجاز السفينتين اليونانيتين "برودينت وريور"، و"دلتا بوسيدون"، أثناء إبحارهما في المياه الإقليمية بالخليج العربي بزعم انتهاك القواعد البحرية، وتم اقتيادهما نحو ميناء بندر عباس الإيراني.
وأشارت التقارير الإعلامية إلى احتجاز نحو 49 شخصاً كانوا على متن السفينتين.
وجاء هذا الاحتجاز رداً على قيام أثينا باحتجاز الناقلة "بيجاس / لانا" التي تحمل نفطاً إيرانياً وترفع العلم الروسي وعلى متنها 19 فرداً قرب سواحلها، وعزمها تسليم حمولتها إلى واشنطن. وقد وجهت أثينا اتهاماً لطهران بممارسة القرصنة البحرية ضد سفنها، كما أعلن الأسطول الخامس الأمريكي في المنطقة متابعة تطورات الحادث.
توتر مستمر:
كشف هذا الإجراء من جانب إيران عن عدد من الدلالات، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- الاعتراف المباشر بالحادث: أعلن الحرس الثوري الإيراني اختطاف السفينتين اليونانيتين في مياه الخليج، وذلك بزعم انتهاك القواعد البحرية، غير أنه من الواضح أن الناقلتين اليونانيتين لم ترتكبا أي مخالفات، بدليل أن إيران لم تعلن عن ارتكابهما أي مخالفات محددة.
ومن جهة ثانية، كشفت وكالة "نور نيوز" المحسوبة على مجلس الأمن القومي الإيراني، قبل الحادث بيوم واحد، أن طهران قررت اتخاذ إجراءات عقابية ضد اليونان بسبب مصادرة الأخيرة ناقلتها في 19 أبريل الماضي، وهو يمثل اعترافاً ضمنياً من جانب طهران بالمسؤولية عن تنفيذ الهجوم، في دلالة على رغبتها في الرد بشكل علني على محاولة الولايات المتحدة مصادرة شحناتها النفطية.
2- تأكيد القواعد السابقة: سبق وأن احتجز الحرس الثوري الإيراني في 19 يوليو 2019 ناقلة نفط بريطانية، وذلك رداً على قيام بريطانيا بمساعدة سلطات جبل طارق على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية "غريس 1" في الرابع من الشهر نفسه.
وانصاعت بريطانيا في النهاية للطلب الإيراني بالإفراج عن الناقلة الإيرانية في سبتمبر 2019، مقابل إفراج طهران عن الناقلة البريطانية. ويبدو أن طهران تهدف من عملية الاحتجاز الأخيرة إلى دفع اليونان للقيام بالأمر ذاته.
3- مواجهة العقوبات الأمريكية: سعت إيران من خلال هذا الهجوم إلى الرد السريع والمباشر على احتجاز اليونان للناقلة التي تحمل نفطاً إيرانياً وعزمها مصادرة حمولتها إلى الولايات المتحدة تنفيذاً لطلب القضاء الأمريكي وامتثالاً للعقوبات الموقعة على الصادرات النفطية الإيرانية. وتهدف طهران من احتجاز السفينتين اليونانيتين إلى ضمان عدم قيام واشنطن مستقبلاً باحتجاز ناقلات نفط إيرانية، حتى لا تقوم طهران باحتجاز السفن الأوروبية في المقابل.
كما يرتبط هذا الهجوم من جانب إيران بإعلان وزارة الخزانة الأمريكية، في 25 مايو، فرض عقوبات جديدة على شبكة مدعومة من الحرس الثوري الإيراني ومسؤولين روس، أسهمت في توفير أموال طائلة من عائدات النفط المفروض عليه عقوبات أمريكية، وهو الإجراء الذي أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، على حق طهران في الرد عليه بالشكل المناسب.
4- وقف التصعيد الأمريكي – الإسرائيلي ضد إيران: يتزامن ذلك الحادث مع التصعيد الإسرائيلي ضد إيران والذي ارتفعت حدته مؤخراً، سواء من خلال مهاجمة تل أبيب مواقع تابعة لميليشيات إيرانية في سوريا، أو تصفية الموساد لقائد بالحرس الثوري الإيراني في طهران العقيد، صياد خدائي، فضلاً عن الهجوم الذي نُفذ بطائرات مسيرة ضد مجمع "بارشين" العسكري جنوب شرق طهران، والذي يُستخدم كوحدة أبحاث لتطوير الطائرات المسيرة.
ولذا فإن إيران تحاول من جراء اختطاف السفينتين اليونانيتين التأكيد لواشنطن أنها لن تتراجع في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية عليها، وأنها سوف تتجه للتصعيد، كما تسعى كذلك إلى تأكيد أن ردها على الهجمات الإسرائيلية سوف يكون مؤجلاً، وليس عاجلاً، مثلما جرى في أحداث مشابهة، منها عقب الهجوم على مصنع كرج بطهران، والذي ردت إيران بعدها بمهاجمة سفينة يملكها رجل أعمال إسرائيلي في المحيط الهندي في يوليو الماضي.
ويحرص الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، على ألا يبدو ضعيفاً وغير حازم في التعامل مع إسرائيل، لاسيما في الوقت الذي يشهد فيه الداخل الإيراني احتجاجات واسعة على خلفية الظروف المعيشية، كما أن تلقي طهران الضربات تلو الأخرى من دون رد سوف يضعف موقفها أمام واشنطن في المفاوضات النووية، ويجبرها على تقديم تنازلات في النهاية، وهو أمر يبدو أن طهران تسعى لتجنبه.
5- تأكيد القدرة على التصعيد: أعلن الجيش الإيراني، في 28 مايو، أي بعد يوم واحد من عملية اختطاف السفينتين عن قاعدة تقع على بعدة مئات الأمتار تحت الأرض لطائراته العسكرية المسيرة، التي تضم طائرات من طراز "أبابيل – 5".
وتسعى إيران من وراء ذلك إلى التأكيد على أن الضربات الإسرائيلية ضد مواقع إنتاج هذه الطائرات، أو قواعدها، كما في هجوم بارشين الأخير، أو استهداف إسرائيل خلال فبراير 2022 لقاعدة تضم شبكة طائرات مسيرة تابعة للحرس الثوري الإيراني بمحافظة كرمنشاه، لن يؤثر على قدرة إيران على استخدام هذه الطائرات في تهديد الأمن الإقليمي.
تداعيات مُحتملة:
قد يُسفر هذا الحادث عن عدد من التداعيات على ملفات أخرى متعلقة بإيران، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- إبطاء المفاوضات النووية: يأتي ذلك الحادث في الوقت الذي تتعثر فيه المفاوضات النووية بين إيران والمجموعة الدولية في فيينا، والتي توقفت منذ 11 مارس الماضي، على أثر تعنت ومماطلة إيران بشأن مطالب ترفض واشنطن تحقيقها مبررة ذلك بأنها خارج إطار الاتفاق النووي، الأمر الذي دفع واشنطن والأطراف الأوروبية إلى إبداء التشاؤم إزاء إمكانية التوصل لاتفاق مع إيران.
ولا شك أن هذا الهجوم سوف يسفر عن مزيد من التوتر بين إيران من جانب، والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وهو ما يضعف من فرضية أن الاتفاق النووي سوف يرشد من سياسات إيران في المنطقة، وهي الفرضية التي تعول عليها واشنطن لإبرام الاتفاق مع إيران، ما يدفع في اتجاه التشدد حيال إيران في المفاوضات.
2- تصعيد مستمر ضد أمن الملاحة: هددت إيران بمزيد من عمليات اختطاف السفن في مياه الخليج، حيث تم الكشف عن أن هناك 17 سفينة يونانية أخرى قد يتم احتجازها من قبل الحرس الثوري في حال إصرار أثينا على احتجاز السفينة التي تحمل نفطاً إيرانياً، بما يُشير إلى رغبة إيران في التصعيد خلال الفترة القادمة وتهديد الملاحة في المنطقة.
3- تلويح طهران بالتعاون مع موسكو: يحمل الرد الإيراني على احتجاز اليونان لناقلة بيجاس/ لانا بين طياته تأكيداً من جانب إيران على التعاون والتنسيق مع موسكو، إذ أعلنت أثينا عن أن احتجازها السفينة، التي كانت تحمل نفطاً إيرانياً وتشغلها شركة روسية، وذلك امتثالاً للحظر الأوروبي المفروض على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية.
ومن هنا رغبت طهران، من خلال اختطاف السفينتين اليونانيتين، في إيصال رسالة لموسكو أنها لا تدافع فقط عن مصالحها، ولكن أيضاً مصالح موسكو في مواجهة العقوبات الغربية والأوروبية المفروضة عليهما.
وتعتبر علاقة إيران بروسيا من الأوراق التي تقايض بها إيران الغرب، فقد أعلنت طهران استعدادها لتعويض النفط والغاز الروسي في بداية الأزمة الإيرانية، في حالة رفع العقوبات، غير أنها أمام تعثر المفاوضات النووية، اتجهت لتأكيد استعدادها لتمتين العلاقات مع روسيا، بل والتعاون مع شركات روسية في مجال الطاقة.
كما أجرى نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكنسدر نوفاك، زيارة إلى طهران، تناولت خططاً لتبادل الطاقة، وإنشاء مركز للنقل والخدمات اللوجستية لتسهيل التجارة بين البلدين. ويمكن قراءة الموقف الإيراني باعتباره رسالة من طهران لواشنطن بأن عواقب العقوبات الأمريكية ضد إيران سوف تكون مرتفعة، إذ إن الأخيرة قد تندفع للتعاون مع موسكو، وهو ما يقوض من تأثير العقوبات الغربية عليها، وذلك بعكس الحال لو تم تمرير الاتفاق النووي.
وفي الختام، يمكن القول إن التصعيد بين إيران من جانب وواشنطن وحلفائها من جانب آخر سوف يشهد تزايداً خلال الفترة القادمة، لاسيما في ظل التعثر الذي أصاب المفاوضات النووية في فيينا، بالإضافة إلى تزايد حدة التوتر بين إيران وإسرائيل في ضوء استمرار حرب الظل بينهما، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على أمن واستقرار المنطقة.