أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

الأمن الثقافي:

قوة الثقافة وتأثيرها في الشؤون الدولية

19 يناير، 2015


إعداد: باسم راشد

تزايد الاهتمام بالثقافة على مدار العقود الماضية في السياسة الدولية بشكل عام، والأمن القومي بشكل خاص، إلا أن فكرة "الثقافة" في حد ذاتها تظل مراوغة في بعض الأحيان، فضلاً عن أن دمج "الثقافة" مع "الأمن" يثير مجموعة من الموضوعات حول كيفية الترابط بينهما، وإلى أي مدى يؤثر كل منهما في الآخر، وكيف يتحقق "الأمن الثقافي" كأحد عناصر منظومة الأمن القومي للدول؟

وتتفق التعريفات المختلفة والمتعددة لمفهوم الثقافة، على أنها تعبر عن "النشاط الفكري والفني والأعمال التي تُنتَج من ناحية، والمعتقدات والفنون والعادات والأعمال التي ينتجها مجموعة من الناس في وقت ما من ناحية أخرى"، ومن ثمَّ فإن الثقافة تغطي على نطاق واسع الأشياء الملموسة كالتحف والقطع الأثرية، والأشياء غير الملموسة كاللغات والمعتقدات.

وقد شهد العقد الماضي تعدياً على بعض الآثار الثقافية المهمة مثل تماثيل "بوذا" التي دمرتها حركة طالبان في أفغانستان في 2001، مما دفع إلى ضرورة وضع حد لمثل تلك الاعتداءات، وإعادة النظر في التفاعلات المتعددة والمتبادلة بين الثقافة والأمن القومي.

في هذا الإطار، صدر كتاب حديث للكاتب "إيريك نيميث"، تحت عنوان "الأمن الثقافي.. تقييم قوة الثقافة في الشؤون الدوليةحيث يُعد أول كتاب يتناول – من خلال عشرة فصول - العلاقة المتبادلة بين القيم السياسية وأمن الممتلكات الثقافية، ويناقش الآثار المترتبة على قوة الثقافة في الشؤون العالمية؛ ومن ثم فإن التقاطع بين هذه القضايا يشكل الأساس لحقل جديد يتناوله هذا الكتاب، وهو "الأمن الثقافي".

وينقسم الكتاب - في إطار فصوله العشر - إلى ثلاثة أقسام رئيسية، حيث يعكس كل قسم منها بعداً مختلفاً من الأمن الثقافي. ويتناول القسم الأول العلاقات بين الممتلكات الثقافية والأمن القومي من منظور تاريخي، وذلك بالتركيز على دور الأعمال الفنية والتحف الثقافية والقطع الآثرية في الصراعات المسلحة. أما القسم الثاني فيناقش الممتلكات الثقافية من منظور اقتصادي. فيما يتناول القسم الثالث دور الممتلكات الثقافية في السياسات الخارجية للدول، بالإضافة إلى التهديدات التي تتعرض لها الدول في هذا الصدد، وكيفية مواجهتها.

مستويات دراسة العلاقة بين الثقافة والأمن

يعد مفهوم "الممتلكات الثقافية" مصطلحاً جديداً نسبياً في استخدامه، ولمقتضيات التوضيح فإن الكاتب يقصد به "التحف والأعمال الفنية المختلفة، سواء كانت لوحات فنية أو تماثيل منحوتة أو آثار أو غيرها، وكذلك الهياكل والمواقع والآثار التاريخية والدينية".

ويُميز "نيميث" بين ثلاثة أبعاد لدراسة العلاقة بين الأمن والثقافة؛ وهي:

1 ـ البُعد المادي، ويُعنَى بالتهديدات الأمنية للممتلكات الثقافية أو ما يُطلق عليه "جريمة الفن"، مثل سرقة التحف الفنية من المتاحف أو تدمير الهياكل الثقافية المختلفة.

2 ـ البُعد الاقتصادي، ويعبر عن القيمة المالية لتلك الممتلكات الثقافية أو ما يعرف باسم ـ"سوق الفن"، ومن ذلك مبيعات التحف الفنية أو الفنون الجميلة من خلال التجار أو المعارض أو المزادات المنتشرة عالمياً.

3 ـ البُعد السياسي، ويُقصد به دور الممتلكات الثقافية في السياسة الخارجية أو ما يسمى "الدبلوماسية الثقافية"؛ فتبادل الأعمال الفنية بين المتاحف، واستعادة بعض الدول للأعمال الفنية الثقافية كاللوحات والآثار من بعض المتاحف الدولية، والتعاون الدولي للحفاظ على المواقع التاريخية، كلها أمثلة على تلك الدبلوماسية الثقافية.

ويشير الكاتب إلى أن المراجعة التاريخية لدور الثقافة توضح الاتساع والنمو التدريجي لكل بُعد من تلك الأبعاد خلال القرن التاسع عشر، لكن التوسع المكثف والأكبر كان بعد الحرب العالمية الثانية. ومع استمرار التوسع وتراكمه بدأ تأثير تلك الأبعاد يُضاعف من أهمية "الأمن الثقافي"، فقد ازدادت تهديدات نهب وسرقة الأعمال الثقافية بشكل كبير على مستوى العالم؛ فمن الناحية الاقتصادية نجد أن "أسواق الفن" قد انتشرت وكثر الاعتماد عليها وتوَّسعت من الناحية المالية، حيث أصبحت عالمية، مع تزايد تجارة الأعمال الفنية والثقافية عبر غالبية الأمم. ومن الناحية السياسية، فقد حَمَت سلسلة الاتفاقيات والقوانين الوطنية الممتلكات الثقافية إلى حد كبير، لكنها أيضاً جعلتها "مُسيَّسة".

لذا فإن توسُّع وامتداد تلك الأبعاد قد ساهم في تقوية العلاقة بين الممتلكات الثقافية والأمن العالمي؛ ففيما يتعلق بجريمة الفن - كما أوضحناها سابقاً - نجد أن تزايد معدلات السرقات والتزوير للأعمال والتحف الفنية والثقافية وكذلك الاتجار العابر للحدود فيها، إلى جانب تدمير الآثار أثناء التدخلات العسكرية في دولة ما أو زيادة أحداث الفوضى فيها، نتيجة ثورة أو أي تغيرات جذرية، كل ذلك ساهم في تعميق أهمية الممتلكات الثقافية للسياسة الخارجية للدولة. ويشير الكاتب إلى أن الإساءة للآثار والفنون الجميلة قد تطورت على مدار التاريخ من مجرد كونها غنائم للحرب إلى وسيلة للإرهاب تهدف، بشكل حثيث، إلى محو التراث الثقافي للآخر. وكذلك فقد زاد التبادل التجاري العابر للحدود للأعمال الفنية والثقافية من أهمية تلك الممتلكات الثقافية في العلاقات الخارجية بين الدول.

ومن الناحية السياسية، فقد أثَّرت الأهمية السياسية للممتلكات الثقافية على القيمة السوقية للأعمال الفنية، فضلاً عن أن ذلك زاد من خطورة استهداف الآثار خلال أحداث العنف السياسي. وقد أنتجت كل هذه التقاطعات المختلفة بين الفن والسياسة ومكافحة الإرهاب أرضاً خصبة لنشوء مجال جديد هو "الأمن الثقافي".

الأهمية التكتيكية للتراث الثقافي

يشير الكاتب إلى أن الإمبراطوريات على مدار التاريخ جنَّدت العلماء والباحثين للحصول على الأعمال الفنية كعنصر مُكمل للنصر العسكري. وخلال القرن الماضي قام الباحثون بدمج الفنون الجميلة والتحف والآثار في حملات الغزو، كما قاموا بتقييم التداعيات السياسية لتدمير المواقع التاريخية والآثار الدينية أثناء التدخل العسكري، مثل نهب المتاحف كما حدث في المتحف الوطني العراقي في بغداد أثناء التدخل العسكري الأمريكي عام 2003.

وبناءً على ذلك حوَّل المؤرخون وعلماء الآثار والباحثون القانونيون دور التراث الثقافي من طقوس للحرب إلى وسيلة للقتال؛ حيث شهدت الفترات الثلاث من الصراع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية تطوير القيمة التكتيكية والاستراتيجية للتراث الثقافي.

ففي الحرب العالمية الثانية خطط أنصار النازية إلى نهب الأعمال الفنية وتدمير الهياكل التاريخية للخصوم كتكتيك للغزو.

وخلال الحرب الباردة مكَّنت الاكتشافات الأثرية في الدول النامية من تزايد نهب القطع الأثرية الثقافية، كما قادت الدراسات القانونية اللاحقة حول نقل الممتلكات الثقافية إلى تصاعد قيمة وأهمية التراث الثقافي، خصوصاً أنها كانت جزءاً من معركة سرية للسيطرة على العالم الثالث.

وبعد الحرب الباردة، ومع انتشار الجريمة المنظمة العابرة للحدود والإرهاب وتجارة الآثار واستهداف المواقع الثقافية في أعمال العنف السياسي؛ أدرج العلماء والباحثون الثقافة داخل النظريات الأمنية.

وفي هذا الإطار، أكد "نيميث" على الحاجة إلى تشكيل ما أسماه "جهاز الاستخبارات الثقافي"، وهو ما سوف يساعد على تقييم الأهمية التكتيكية والاستراتيجية للتحف والفنون ومواقع التراث الثقافي بالنسبة للأمن الوطني والإقليمي، وذلك لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها الأمن الثقافي، كما أنه سيكشف شبكات الإتجار العابرة للحدود، ويُقيِّم المخاطر التي تهدد مواقع التراث الثقافي، وسيكون بمنزلة الخطوة الأولى في تحقيق الأمن الثقافي ليس الوطني فقط بل الإقليمي أيضاً.

الاقتصاد السياسي للممتلكات الثقافية

أشار الكتاب إلى أن لوحة "الصرخة" لإدفارد منش قد بيعت في مايو 2012 بمبلغ 120 مليون دولار، مُسجلة بذلك أعلى اللوحات مبيعاً داخل المزادات العالمية، وفي الوقت نفسه قامت جماعة "أنصار الدين" التابعة لتنظيم "القاعدة" باستهداف وتدمير الأضرحة في مالي، وكذلك يشهد الصراع المستمر في سوريا تدمير التراث الثقافي للدولة مثل قلعة الحصن.

ويرى الكاتب أن بيع تلك اللوحة في مقابل تدمير الآثار التاريخية، يمثل نقيضين ينبعان من تقدير القيمة المتصورة للفن في الأولى، والأهمية الاستراتيجية للتراث التاريخي في الثانية، كما أنهما حالتان تشتركان في شيء واحد هو إدراك القوة الكامنة وراء الفن والثقافة.

فالفن يُعبِّر عن المُثل الثقافية داخلنا، وللأشكال المختلفة من الفن تأثيرات على العديد من الناس من مختلف الثقافات، كذلك تُمكنا الهندسة المعمارية والأعمال الفنية كاللوحات الفنية والتحف وغيرها، من التعرف بشكل أعمق على الثقافة الأخرى، بل وتفرض ضرورة التقدير المتبادل للثقافات، وهو ما يشجع على التعاون لحماية الآثار من ناحية، ويُلهم البعض على حيازة بعض تلك التحف الفنية من ناحية أخرى.

في هذا الصدد، ظهرت الاتفاقيات الدولية لحماية التراث التاريخي، وتمَّ تنظيم تجارة الأعمال الفنية، لذا فإن النفوذ القانوني الناتج عن حماية الممتلكات الثقافية وتطوير سوق الفن العالمي يوضحان ظهور الاقتصاد السياسي للممتلكات الثقافية.

وقد ساهمت التطورات القانونية والمالية الناتجة عن الأحداث الخاصة بتدمير التراث والمواقع التاريخية أو سرقة التحف الفنية وغيرها، وما أفرزته من تداعيات سلبية على الأمن، في تعميق أهمية الاقتصاد السياسي للممتلكات الثقافية؛ حيث تشير السياسات المُتَبعَة لحماية تلك الممتلكات وتنظيمها، وكذلك اقتصادات سوق الفن، إلى أنها (أي الممتلكات الثقافية) عنصر مُكمل للقوة الصلبة والناعمة في العلاقات الدولية.

ويؤكد "نيميث" أن مصدر تلك القوة لا يكمن في الأعمال الفنية نفسها أو في المواقع التاريخية بقدر ما يكمن فيما تثيره من مشاعر إنسانية، فضلاً عن دور الثقافة في تحديد هُوية الدولة؛ فالتحف والروائع الفنية ليست إلا أحد مظاهر الفن، والفن أحد مظاهر الثقافة؛ لذا فإن أسواق الأعمال الفنية وقوانين حماية التراث الثقافي كلها مؤشرات تساهم في توقُع تزايد دور الاقتصاد السياسي للممتلكات الثقافية في القرن الحادي والعشرين.

* عرض مُوجز لكتاب: "الأمن الثقافي.. تقييم قوة الثقافة في الشؤون الدولية"، والصادر في يناير 2015.

المصدر:

Erik Nemeth, Cultural Security: Evaluating the Power of Culture in International Affairs (World Scientific Publishing Co, January 2015) PP 312.